لفتنا النظر من قبل إلى المفارقة في التطابق بين نزعة الاستعلاء البارزة في الفكر الإسلامي الحديث تجاه الغرب وتلك النزعة الاستعلائية في الفكر الغربي تجاه الإسلام (والشرق عموما ـ سعيد) لا سيما كجزء من الحقبة الكولونيالية وإرثها. مع هذا، هناك فارق جوهري بارز يتجسّد في أن نزعة الاستعلاء الغربي مقرونة كانت، ولا تزال، بتفوق غربي على العرب المسلمين في كل الحقول. بينما نزعة الاستعلاء الإسلامية مقرونة بمكوّنات التخلّف الموضوعي والنكوص عن الحداثة والعدمية المتجسّدة في الإرهاب. أسوق هذا في محاولة لاستشراف ما يُمكن أن تؤول إليه الأمور بين إسلام كهذا ـ عدمي إرهابي ـ وبين غرب خضع لكل الحفريات الممكنة ـ من مدرسة فرانكفورت إلى سعيد إلى إكسِل هونِت مرورا بدريدا وفوكو وهومسكي وسواهم ـ أملا في الشفاء من نزعته الاستعلائية تلك. وقد بدأنا نلمس آفاق هذه المواجهة وإن كنّا نتردّد إلى الآن في تسميتها أو تمثّل مآلاتها. ولا نتحدث هنا عن الإسلام بوصفه قرآنا تقادم أو حديثا وسُنّة تضخمت بقوة فعل سياسي غائي ـ بل بوصفه تنظيرا ومادة لتشييد الهوية ونصا مؤسسا للمواجهة مع الغرب ومُشرعنا لها.
نقدّر، على افتراض أن نزعة الإسلام الحديث الاستعلائية ستتسارع وتتمدّد حيث التجمعات الإسلامية، أنها لا بُدّ ستؤجّج المواجهة على نحو ما رأيناه في فرنسا مثلا لا حصرا ـ تشارلي هيبدو ـ لتُفضي في نهاية المطاف إلى “حلّ نهائي” جديد بحق الإسلام في أوروبا. أي إلى لا أقلّ من “محرقة جديدة” بصيغة قد تكون أكثر مأساوية، على اعتبار أن التاريخ إذا عاد على ذاته، فإن من المرجّح أن يكون أكثر بؤسا وفظاعة.ومن هنا، فإن “الإسلام” بدلالاته الراهنة لا سيما بوصفه حاملا لنزعة الاستعلاء وللعدمية المتجسّدة في الإرهاب، لم يعد من عقود شأنا للمسلمين وللعرب منهم بل صار شأنا كونيا أو تحديا لعصر ما بعد الحداثة وللعولمة المتسارعة. بدلالة أن أقطارا أوروبية من بلغاريا شرقا إلى إسبانيا غربا بدأت تُعيد تموضعها ـ من خلال التشريعات والتدابير الحكومية المُعلنة وغير المُعلنة عبر كل القارة ـ قبالة الإسلام بالمعنى الذي أشرنا إليه.
لقد نجحت أوروبا بعد الرايخستاغ في اعتماد سلسة من التشريعات الدستورية لحماية الدمقراطية الأوروبية من غائلة التطرّف والتحريض العنصري كجزء من تعلّم الدرس من أصولية الحداثة وهولها. بل إن السماح في بعض الأقطار بإجازة حركات وتجمعات وتنظيمات عنصرية ـ النازية الجديدة ـ على النقد الذي تحظى به يأتي في إطار احتوائها أكثر مما هو شرعنتها أو منحها أفقها. لقد جاء هذا الطوْر في تاريخ الدمقراطية الأوروبية ردّا على النازية والفاشية وما أحدثتاه من كسر في روح الحداثة ونزعة الأنسنة وفكرة الاجتماع. من هنا فصاعدا صار دفاع الدمقراطية عن ذاتها شرعيا. أما النقاش فظلّ حول حجم هذه الحماية وعُمق التدابير المتأتية عنها. وهي تدابير اتسعت في السنوات الأخيرة. فقد بدأت بتعقّب ومتابعة أشخاص أو مجموعات وامتدت لتطال حظر التمويل الخارجي لمنظمات الجاليات الإسلامية والاعتقالات على ذمة التحقيق وتقييد حرية التنقّل والإبعاد ومراقبة المساجد وتسمية الأئمة.
التكفيريون مُحركات المواجهة المقبلة
إن ظهور داعش ـ و“دولة الخلافة الإسلامية” ـ وغيرها من حركات الجهاد والتكفير في الشرق الأوسط وأفريقيا دفع بالأقطار الأوروبية إلى اتخاذ التدابير المذكورة بُغية قطع أي رابط ممكن بين الجاليات الإسلامية في أوروبا وبين مواقع التوتر التي يعيش فيها الإسلام الأصولي وما يُشكله من عُنف عدمي مدمّر ـ وأكثر الوقاية من فكرة هي نقيض الدولة الحديثة ونقيض الاجتماع، كما صاغته فكرة العِقد الهوبسيانية. والادعاء هو الخوف من أن يحصل الشبان المسلمون الأوروبيون على تنشئة تكفيرية في هذه المواقع ليمارسوها بعد عودتهم إلى الأرض الأوروبية ضد المجتمعات والدولة وفكرة الاتحاد ألأوروبي. لم يعد هذا الادعاء مجرّد ذريعة أو غطاء للتدابير خاصة وإن الإرهاب بصيغته العدمية بدأ يَتموْضع على الأرض الأوروبية فكرة وفعلا، من كوبنهاجن إلى بروكسل إلى باريس ـلا ننسى الاعتداءات في إسبانيا وبريطانيا في بداية سنوات الألفين. فلم تظلّ التمثيلات العنيفة للإسلام الحديث وافدة إلى أوروبا عبر الشبكات والشاشات بتقاريرها وصورها المصممة للوعي والموقف، بل صارت تولد على الأرض الأوروبية بأيدي شبان مسلمين ولدوا أو على الأقلّ ترعرعوا على الأرض الأوروبية.
طالما إن الأمر كان في إطار الدعوى التكفيرية الجهادية على ألسن خطباء مساجد في أوروبا ونشطاء إسلامويين، فإن غالبية الدول كانت على استعداد لابتلاع الكلام لا سيما حيث حدود حرية التعبير أوسع من كل الوطن العربي وكل العالم الإسلامي مُجتمعيْن. إلا أن اللقاء الذي صار حميما بين الخطاب التكفيري وبين شبان مستعدين لوضعه قيد التنفيذ في عواصم أوروبية وبين مشاهد العنف الداعشي أو سواه، لم يترك للأقطار الأوروبية فرصة غير الخوض في هذا التحدي الذي يشكله الإسلام العدمي بفكرته وممارسته. ولا يغيّر من هذا حقيقة أن بعض العمليات الإرهابية ارتُكبت ضد أهداف يهودية (بروكسيل وطولوز مثلا). بل العكس، سيكون على القيادات الأوروبية الآن أن تثبت أمرين اثنين على الأقلّ ـ أنها لا تتساهل مع العداء لليهود من تجمّعات إسلامية أو غيرها خاصة وإن أوروبا متهمة دائما، قديما وحديثا، بمصدر اللاسامية ضد اليهود. وأنها قادرة على حفظ الأمن العام والشخصي ضمن أهم عقد بينها وبين المواطنين الأوروبيين الذين صاروا مواطنين في مستوى القارة وليس في مستوى دولهم فحسب. بمعنى، إن أوروبا المفتوحة الحدود ستدافع ليس فقط عن ديمقراطيتها أو ليبراليتها أو تاريخها المتصل بالحقوق والحريات ـ لجهة دوْسها ولجهة حمايتها ـ بل عن فكرة الاتحاد الأوروبي وما يعنيه من دمقراطية مفتوحة مكشوفة الصدر والظهر وحرية التنقّل والاقتصاد الممتد عبر حدود الأقاليم. لقد توسّع العقد الاجتماعي الأوروبي بشكل صار أوسع بكثير من حيث التزام الحكومات بمسؤولياتها في إطاره وبموجب أحكامه. فهي ملزمة ليس فقط بتأمين سلامة وأمن مواطنيها بل بضمان أمن القارة كلها على مواطنيها والمتواجدين على أرضها وبضمان الحريات المتمددة والمحمية للجميع.
أوروبا التي في الظلّ!
بيد أن المسألة لن تظلّ محصورة بين الحكومات الأوروبية وبين الإسلام العدمي. ولو أنها بقيت في هذا الإطار لتوقعنا مسارات المواجهة ومآلاتها بشكل أدقّ. فأوروبا الدولة ليست هي ذاتها أوروبا المجتمعات التي فيها. فالمجتمعات الأوروبية متنوعة، متفاوتة المصالح، فيها قوى اجتماعية منظّمة في أحزاب وحركات وتنظيمات قد يكون لها وجهات نظر مغايرة للسلطات الأوروبية في كل بلد أو في مؤسسات الاتحاد الأوروبي. وقد رأينا أن الإرادة الشعبية الأوروبية كما تجسّدها أحزاب يمينية وتنظيمات عقائدية عديدة تنشط في ظل الدولة أسرع في الردّ على الإسلام العدمي واعتداءاته الإرهابية من الحكومات والمؤسسات. وهي متحفّزة للانقضاض عُنفا واعتداء على الجاليات الإسلامية ورموزها من مساجد ومراكز ثقافية ومؤسسات وحجاب ونقاب ومصالح. وهي مرشّحة لمزيد من العنف مع كل عملية إرهابية باسم الإسلام ـ أيا كان مرتكبها. بل إن الفوارق الاقتصادية والمعيشية داخل القُطر الأوروبي نفسه وبين الأقطار قد تكون الخلفية المُثلى لتوجهات يمينية كارهة للأجانب أو للإسلام والمسلمين. فتنتقل هي، أيضا، من الردّ الكلامي إلى الردّ الفعلي كلما وقعت ضربة الإسلام العدمي على خدّ أوروبية.
أعتقد إن الجاليات الإسلامية في أوروبا خاصة العريقة في تواجدها على الأرض الأوروبية متنبّهة جدا لهذا الخطر ولما يُمكن أن يُحدثه من تعطيل لمشروع “الإسلام الأوروبي” الذي يُحاول البعض التنظير له بحقّ في العقود الأخيرة كجزء من مصالحة تاريخية بين الإسلام وبين الغرب الأوروبي تحديدا. فالجاليات بقياداتها وحسّها الأقلوي قادرة على التقاط الإشارات أكثر من غيرها خاصة وإنها في قلب الحدث. أو الأدقّ، خاصة أنها مَن يتحمّل وزْر ردود الفعل الأوربية السلطوية والشعبية على عمليات إرهابية باسم الإسلام أو أعباء كراهية المسلمين في مواقع عديدة من أوروبا.
إن شروطا موضوعية سواء في الإسلام العدمي وفي تمثيلاته الدموية والمهدّدة للفكرة الأوربية والاجتماع أو في أوروبا ذاتها، في تاريخها القريب والبعيد، وفي صيغتها الراهنة وفكرتها الاتحادية وهويتها قيد التأليف، تشدّ إلى مواجهة مفتوحة مع الإسلام العدمي وعبره مع الإسلام الحديث. فرغم ما يُمكن أن يكون من فارق موضوعي هائل بين المسلمين كجاليات ساعية إلى رزقها وعيشها الكريم السلمي في أوروبا، وبين الإسلام العدمي الجذري، ورغم الوعي الأوروبي الرسمي بهذا الفارق، إلا إننا نرى بخطورة فائقة إلى الأوساط الشعبية الأوروبية القادرة بدورها على تصعيد المواجهة حدّ الإرهاب المُضاد أو تضييق الخناق على جاليات إسلامية هنا وهناك حدّ تهجيرها.
نصّ بين النصوص ـ لآ أكثر ولا أقلّ!
قد نتوقّع من الدول سياسات وتدابير محسوبة لجهة تضييق الخناق على الجاليات المسلمة لكننا لا نستطيع أن نتوقّع مآلات الإرهاب باسم الإسلام وأشكاله وضرباته المقبلة. وإذا صحت تنظيرات البعض من العرب والأوربيين بأن الإرهاب العدمي باسم الإسلام لن يُعلن استقالته من التاريخ قريبا، فإننا نخشى من حصول المحظور: مُحرقة جديدة على الأرض الأوروبية بحقّ المسلمين. وهو تطوّر احتمالات حصوله كبيرة كلما تعمّقت حاجة الأوربيين إلى الدفاع عن بيتهم الأوروبي الجديد وعن نمط حياتهم الذي تأتى لهم بتضحيات جِسام وعبر تاريخ مشت فيه الشعوب على شظايا الزجاج واقتات من لحم بعضها. ويكفي أن نرى إلى ما شهدته الأرض اليوغسلافية سابقا في العقد الأخير من القرن الماضي لنتأكّد من إن التطهير العرقي والإبادة الجماعية لا تزال قيد التداول. أما الأمل الوحيد فهو انتصار فكرة المُصالحة بين الإسلام وأوروبا من خلال تطوّر ما يُسمى “الإسلام الأوروبي” الذي يقيم داخل فكرة الدولة والقانون وليس خارجها. ومن هنا أهمية أن يأتي الردّ على الإسلام العدمي من الإسلام الحديث نفسه، الأوروبي والعربي. ردّ يُحقق هدفين مزدوجين، هدف محاصرة الإسلام العدمي وهدف تنشيط إصلاح الثقافة الإسلامية وإقامة المصالحة بين الإسلام الحديث والتاريخ. مهمة تحتاج إلى شجاعة ليس في وجه الخطاب أو الفكر أو الفعل العدمي بل في وجه تاريخ الثقافة الإسلامية ذاته لا سيما في وجه النص المؤسس لها ـ القرآن والحديث ـ باعتباره نصا تاريخيا بمعنى أنه غير نهائي ولا هو خاتمة الزمان ولا نهاية المعرفة ولا اختزال الحقيقة وهو على الأكثر نصّ بين سواه من نصوص ـ لا أكثر ولا أقلّ.