* كنت أشعر بوحشتكَ رغم كثرة المشيِّعين وهم
يهتفون بصوت واحد:
«لا إله إلاَّ الله.. لا يدوم إلاَّ الله»
وكأنهم يحاولون إيقاظك بهتافهم المرتفع..
إلى ذلك اليوم لم أكن أدري أن الأجر يُنتَزعُ انتزاعاً،
فقد سمعت أحدهم يُهدِّدُ صاحبه قائلاً:
«سلِّم الأجر»!!
* ربما كان أمراً منطقياً أن ترسل إحدى الأمهات ابنها - بعد
أن أشعل قلبها شيباً بحماقاته- ليشارك في تشييع جنازتك، وهي على يقين أنه
سيعود إليها بأخلاق أخرى وصفات أسمى بعد أن ينال من بركاتك..
لكن الغريب أن أماً أوصت ابنها أن يعود وقد خبأ في جيبه
قبضةً من تراب قبرك !!
لا أدري لماذا .. غير أنها قبَّلته كثيراً عندما عاد إليها
ظافراً ، ثم كافأته نظير ذلك بـ«50» ريالاً..
* لم يكن الماء الذي غسلوك به أكثر حرارة من دموعنا،
لكنهم أصدروا فتوى بعدم جواز تغسيل الميت بالماء المالح..
* ما تزال عصاك تصحو من غفوتها عند انطلاق التسبيحة الأولى
من حلوق المآذن المتعبة
وكم تتمنى لو أنها تنكسر عند شعورها بغياب يدك المبلَّلة
بماء الفجر البارد..
فتعود إلى غفوتها لأنها لم تجد أحداً منا يشفق عليها ويأخذ
بيدها إلى المكان الذي اعتادت أن تذهب إليه..
* لم أتردد في أخذ قلمك الأسود لأكتب به قصيدة أرثيك بها،
وقبل أن أشرع في الكتابة كان قميصي قد اصطبغ بنقطة سوداء كبيرة كأنها هدف
يحدد للطلقة مكان القلب..
ربما أن القلم أنكر جيبي المليء بالفراغ، فبكى عليك، وربما
أنه انتحر قبل أن يقترف حرفاً في رثائك..
* لا بد لي أن أقول لك إن أشجار الرمَّان التي كانت تحظى
بدفء يديك قد اعتراها الذبول ،
رغم أننا نسقيها أكثر مما كنت تسقيها أنت..
ونأتي في اليوم التالي لنجد الماء مكانه، وكأنـها
أعلنت الصيام إلى أن يتم تحقيق مطالبها بعودتك التي ستكون
أشبه بـ«وافطروا لرؤيته»...
وأجزم أنها ذبلت لأنها لم تجد في أيدينا تلك المصداقية التي
كانت تنعم بها وتنهل منها،
وربما أنها تؤمن بالأسطورة التي تقول بموت الشجرة إذا افتقدت
راعيها..
* وبرغم امتلاء مزرعتنا بعناقيد العنب التي كانت تبتكرها
الطيور، إلاَّ أنكَ رفضتَ فكرة «الفزَّاعات» لأنك لا تحب الكذب على
العصافير..
* ذات ليلة تائهة بين أروقة الموت، قرأت في صحيفة "أخبار
الحوادث" أن رجلاً لبث في قبره بضعة أشهر، ولمَّا تمكَّن الشوق من السيطرة
عليه وازداد شعوره بالغربة، استطاع الخروج بطريقة ما، ولم يجرؤ على تمزيق
شهادة وفاته لعدم استطاعته الإقامة مرة أخرى في القرية التي ودعته وداعاً
لا لقاء بعده.
فكان يخرج مرة كل أسبوع يتأبطه الليل لزيارة أهله، ثم يعود
قبل أن يتحدث عنه الصباح وينتبه حارس المقبرة لغيابه..
منذ ذلك اليوم وأنا أحتفظ بالصحيفة منتظراً موت أحد الأقارب
لأتمكن من إرسالها إليك
لتقرأ
هذا الخبر..
الإثنين يوليو 19, 2010 9:37 am من طرف سميح القاسم