السجالات الدائرة حول صكّ تعبير
"الواقعية ا لجديدة" تخلق انطباعاً مدوّخاً. ذلك أن هذا المصطلح بعيد عن
التوفيق غاية البعد، مكرور وباهت. لكأن "الجديد" هو "قائم بالأعمال". وهو
في هذه الحالة، هنا، أشبه ما يكون "بالنائب عن" (بما ينوب مناب الكلمة
الأصلية)، بالبديل عن الأصل (معدن أصفر بدلاً من الذهب)، بشَغل مكان صفة
أساسية شاغرا. حقاً، إذا كان في "الواقعية الجديدة" صفة جديدة، بالقياس إلى
الواقعية التي سلفت، فإنه ينبغي أن نجد تسمية لهذه الصفة الجديدة نُدرِجها
في المصطلح نفسه. أمّا إذا لم تكن "الواقعية الجديدة" تنطوي على هذه الصفة
(إذا لم يكن فيها أي شيء "جديد")، كان علينا أن نتخلّى عن المصطلح نفسه،
بوصفه مصطلَحاً مضلِّلاً.
عندما اصطدم ستالين بمشكلة مماثلة قرّر أن يتمسّك بتعبير "الواقعية
الاشتراكية". غير أن أبَ جميع الشعوب كان صاحب ذوق لا غبار عليه بخصوص
الصياغات البسيطة والمفهومة. وهذا ما لا يستطيع أن يتبجح بامتلاكه أنصار
"الواقعية الجديدة" التي تمثّل مشروعاً أدبياً ظهر أواخر تسعينات القرن
المنصرم.
نذكر كيف كان بيوتر بالييفسكي يقول إن مصطلح "ما بعد الحداثة" ليس فيه
توصيف داخلي، جوّانيّ، أو تصوّر مضموني للجوهر. إن "ما بعد الحداثة" مجرّد
"ما بعد" تمتدّ لتصبح لانهائيةَ اجترار سيّئة: "ما بعد"، "ما بعد، ما بعد"،
"ما بعد، ما بعد، ما بعد"، وهكذا دواليك. غريب هذا، ولكن قلّ من التفت إلى
أن مصطلح "الواقعية الجديدة" يذهب بعيداً ليفضي بنا إلى اللانهائية السيئة
نفسها من الاجترار، وأن توأمَهُ، صورتَه في المرآة، هو أيضاً: "الجديدة"،
"الجديدة- الجديدة"، "الجديدة- الجديدة- الجديدة"، وهكذا دواليك.
وجدير بالانتباه أن الكتّاب المسرحيين قدّموا أنفسهم أيضاً تحت اسم
يتّصف بالقدْر نفسه من الغرابة، هو "الدراما الجديدة". ولذلك، لن يكون
مستغرباً إذا ما ظهر في السنوات القليلة القادمة ما يسمّى بـ "الواقعية
الأجدّ". ذلك أن انعدام الذوق في شيء يتولّد عنه انعدام الذوق في شيء آخر.
فقد اعتدنا نحن على الـ "ميتاميتافوريزم" (ما وراء الكناية)!..
فإذا ما أخضعنا للتحليل هذا السجالَ الذي عمره سنوات كثيرة، أمكننا أن
نرى أن جماعة النقد الأدبي قد انقسمت، إزاء مصطلح "الواقعية الجديدة"، إلى
شقَّين لا سبيل إلى المصالحة بينهما. فقد انقسمت الجماعة إزاء هذا المصطلح
تحديداً، وليس إزاء الظاهرة الأدبية التي يعبّر عنها. بل حتى إنه لم يجرِ،
بصفة عامة، في إطار هذا السجال، أيُّ نقاش لأعمال مؤلفين ينتمون إلى
"الواقعية الجديدة".
ولكنْ، هل نستطيع أن نقول إن الحقيقة موجودة في مكان مّا، في الوسط بين
هذين الطرفين؟ كلا، لأن هناك، من ناحية أولى، جانباً موضوعياً (ضعف الأساس
الذي يقوم عليه المصطلح)، وهناك، من ناحية ثانية، انفعال مفرط ، هِياج،
حماسة زائدة. ذلك أن أحد الفريقين يطرح اعتبارات ذات صفة منهجية، فيما يطرح
الفريق الآخر اعتبارات لها صفة المسلَّمات. إذ يعتقد أندريه روداليوف،
مثلاً، بأن ظهور مصطلح "الواقعية الجديدة" يكاد يكون التجلي الإيجابي
الوحيد للفكر النقدي خلال السنوات الأخيرة. "لعل هذا القول هو ما يبدو
مغالياً في علوّ النبرة، لولا أن الفكر النقدي لم يستطع أن يحقّق إلا
القليل، اللهمّ إلا دقَّ الماء في الجرن، ولعبة شدّ الحبل، بخصوص النقد
الأدبي: أهو حيّ أم ميت، وهل فنيَ الأدب نفسه، أم انبعث بعد أن كان رميماً.
إذ، بعد الإفصاح عن هذا التوجه، بدأ النقد، من حيث الجوهر، بالعودة إلى
القيام بوظيفته الأساسية، وراح يشق طريقه بصعوبة عبر غابة من أهداف الدعاية
وحملات العلاقات الاجتماعية.
على هذا النحو تكون النقاشات حول "الواقعية الجديدة" سجالاً منهجياً، من
حيث الجوهر. على أن هذه المناظرة كان يمكن جعلُها أقلّ حرارة، لو أنه جرى
استخدام مصطلح آخر، غير "الواقعية الجديدة"، أقلَّ تسيُّباً، وأكثر ملاءمة
ولو بقليل.
فما النتيجة التي حصلنا عليها، أخيراً؟ النتيجة هي أنه، في أواخر
تسعينات القرن المنصرم وبداية العقد الأول من هذا القرن، ظهر عدد من
المؤلفات التي كتبها شباب (من مواليد سبعينات القرن العشرين) بالاعتماد على
السيرة الذاتية. لقد كوّن مؤلفو هذه "الوثائق البشرية" جماعة متكاتفة
قدّمت نفسها غير مرّة تحت راية "الواقعية الجديدة".