0يمكن أن نلخص الصعوبة الإبيستيمولوجية، التي كانت تعترض الدراسة العقلانية للدين، في السؤال التالي: كيف نستطيع أن نتخذ الدين، باعتباره ظاهرة مقدسة، موضوعا للدراسة العقلانية؟ ألا تنطوي عملية دراسته على إلغاء خصوصيته كظاهرة مقدسة، على اعتبار أن الدراسة العقلانية، لن تستطيع القيام بدورها، إلا بعد "تدنيس" مواضيعها على أرضية التاريخ؟ بمعنى كيف يمكن بحث موضوع الدين، عقلانيا، وهو يقوم على أصل غير دنيوي؟ أليس في عملية نقله من مجال المقدس، إلى مجال المدنس، إلغاء له، كظاهرة خاصة ومتميزة، وإفراغ الدراسة من موضوعها؟
لقد أدت هذه الصعوبة في دراسة الدين، إما إلى مقاربته بشكل تأملي، أسفرت في أحسن نتائجها عن إضفاء المزيد من القداسة والغموض على الظاهرة الدينية، وإما إلى تجاهله وإلغائه من الاهتمام، واعتباره إما "وهميا" وجب إزالته، أو "عصابيا" نفسيا يعانيه الإنسان (Marx, Freud ).
إلا أن أهم بداية لتجاوز هذه الصعوبة أمام دراسة الدين، عقلانيا، كانت مع ظهور علم الاجتماع وبداية النظر لقضايا لمجتمع والتاريخ، من وجهة نظر مغايرة للسابق، وبأدوات معرفية ومنهجية قريبة من حرارة الحياة الواقعية للبشر. ولعل أهم مؤشر على هذه البداية، هو اعتبار الدين ظاهرة سلوكية، تهم العلاقات الاجتماعية للفرد داخل محيطه الاجتماعي. هكذا تحول الموضوع من دراسة الدين، إلى دراسة ظاهرة التدين. فما يهم عالم الاجتماع، ليس الدين كإيمان روحي للفرد والجماعة، ومعتقدات تجيب على قلق الإنسان أمام العالم والمصير الوجودي، بل ما يهمه هو المظهر الاجتماعي والثقافي الذي يأخذه هذا الإيمان، على مستوى الحياة العامة للمجتمع، والتجسد المؤسساتي والتنظيمي، الذي يترجم هذه المعتقدات، إلى معاني تاريخية، وسلطة دنيوية.
على أساس هذا التحول في الرؤية المنهجية للدين –وإن كان تحولا لم يأت دفعة واحدة- أظهر علم الاجتماع، منذ بدايته، اهتماما كبيرا بالتدين. فكل الرواد الأساسيين لهذا العلم، أبانوا عن انشغال بالغ بمعنى الدين ووظيفته في المجتمعات الإنسانية. هكذا نجد كلا من كونت ودوركايم وفيبر، قد خصصوا كتبا مركزية، أوأجزاء مهمة من كتبهم لموضوع الدين.
وإذا كان علم الاجتماع، قد جاء إثر ثورتين أساسيتين، عرفهما الغرب الأوروبي: الثورة الصناعية ثم الثورة الفرنسية، هاتان الثورتان اللتان أحدثتا تغيرات جذرية في كافة النظم التاريخية للمجتمع الأوروبي، حيث جاءتا بأخلاق بورجوازية جديدة، وطرق إنتاج جديدة، وبأسس اجتماعية للدولة وللتنظيمات لم يسبق أن عرفها المجتمع من قبل، إذا كان علم الاجتماع الابن الشرعي لهذه التغيرات، فإنه عمل منذ البداية على تقديم جواب على السؤال التالي: كيف يمكن لمجتمع مثل المجتمع الأوروبي، القائم على القيم الفردانية، أن ينجح في البقاء متلاحما ومتوحدا؟ كيف يمكن للنظام الاجتماعي أن يصمد في مجتمع قائم على أساس مشروعية توسيع المصالح الفردية، بدون أن تؤدي هذه المصالح إلى تدمير المجتمع؟
على أساس هذا التساؤل، انطلق البحث عن الأشكال الحقيقة للتراضي الاجتماعي، والتي تشكل لحمة المجتمع، وتسمح بحد أدنى من الانسجام يمكن بدوره من تحقيق نزاعات وتحولات، دون تدمير المجتمع. وكانت إحدى هذه الأشكال الأساسية هي الدين.
ـ كونت والوضعية:
كان الهم الأساسي لأوكست كونت هو تحديد الأساس النظري للفيزياء الاجتماعية –علم الاجتماع- باعتباره علما جديدا، قادرا على كشف القانون الذي يحكم اشتغال وتطور المجتمع، انطلاقا من الأنواع البسيطة، حتى الأشكال الأكثر تعقيدا لتنظيم الحياة الاجتماعية. وقد قاده بحثه إلى الإقرار بوجود ثلاثة مراحل أساسية تحكم تطور المجتمع الإنساني، وتحدد، في كل مرحلة،نمط الحياة فيه. في المرحلة الأولى، وهي اللاهوتية، يرى كونت أن الإنسان فيها كان يعتمد على رؤى ومبادئ دينية لتفسير عالمه الاجتماعي، بمعنى أن هذا الأخير، يجد معناه في عالم فوق-اجتماعي، إلهي. المرحلة الثانية، هي المرحلة الميتافيزيقية. يرى كونت، أن الإنسان كان في هذه المرحلة، أكثر تقدما مما كان عليه في السابقة، وفيها حاول اعتماد مبادئ فلسفية، تجريدية، لتجاوز تعقيد الحياة الاجتماعية التي تعلو المجتمع الإنساني. لقد بحث الإنسان عن تفسير للوجود لا يكون خارج هذا الوجود نفسه، ولكن انطلاقا من عناصر بسيطة من الطبيعة. فالنظام الاجتماعي يفهم هنا على أنه قائم على النظام الطبيعي. المرحلة الأخيرة، وهي المرحلة الوضعية، ويسيطر فيها العلم. لقد وصل الإنسان، مع هذه المرحلة، في نظر كونت، إلى مرحلة صار التفسير العلمي فيها، (أي ملاحظة الوقائع الوضعية وتفسيرها بقوانين تحكم سيرها)، هو التفسير الوحيد للعالم، سواء الاجتماعي أو الطبيعي.
من خلال هذه المراحل، نفهم أن الدين عند كونت لم يدرس في حد ذاته. بل باعتباره مرجعية لتفسير العالم، استعملها الإنسان في إحدى مراحل نموه الفكري والاجتماعي. الدين بهذا المعنى، هو استراتيجية اجتماعية من أجل خلق تراض معين. كل مجتمع، كل تنظيم، يسعى إلى البحث عن توازن من خلال قيم مشتركة، ورؤى للعالم واحدة. فالدين عند كونت، وعند دوركايم كما سنرى، هو إرضاء حاجة عميقة عند الإنسان، حاجة من النمط المعرفي والسلوكي، تمكنه من تحقيق انسجام ضروري لبقاء الحياة، وفي مرحلة معينة من تطور حياته. هذا الفهم الوضعي للدين، هو الذين أدى بكونت، في أواخر حياته، إلى الدعوة لدين جديد، يلم شمل المجتمع الأوروبي، الذي كان يهدده التمزق، دين أساسه العلم.
ـ دوركايم والوظيفية:
منذ كتابه الانتحار (1897)، اكتشف دوركايم الدين، من خلال الدور الذي يلعبه في حياة ومواقف وسلوك الأفراد والجماعات. لذلك نجده سنة 1912، يكتب بحثا هاما حول الموضوع، عنونه بـ: Les formes élémentaires de la vie religieuse (الأشكال الأولى للحياة الدينية). يعرف دوركايم الدين في هذا الكتاب قائلا: "الدين هو منظومة متلاحمة من الاعتقادات والممارسات المرتبطة مع أشياء مقدسة، بمعنى مفصولة، ممنوعة، معتقدات وممارسات تجمع في جماعة أخلاقية واحدة، تسمى الكنيسة، كل أولئك الذين ينخرطون فيها" (ص65، طبعة سنة 1985). ويمكن تلخيص خاصيات المقدس عند دوركايم على الشكل التالي: 1) انفصال الشيء أو الفكرة عن الواقع لتصبح مختلفة جذريا عن المدنس الواقعي. إن المقدس عنده هو المدنس الذي تغير طبيعته ودلالته بفضل إرادة الإنسان. من هنا فإن الإنسان هو الذي يخلق وينتج المقدس. 2) هذا الانفصال ناجم عن سيرورة اجتماعية. 3) يخلق النظام الاجتماعي، في اللحظة التي يستطيع فيها الإنسان أن يعزل، داخل المجتمع، "مكانا للقوة" (Un lieu de puissance)، وذلك لغرض شرعنة القواعد والقيم الجماعية التي تفرض لضمان حد أدنى من الانسجام الاجتماعي.
هكذا، فإن الدين عند دوركايم، هو الشكل المنظم، والمؤسساتي للمقدس، من جهة، وهو نمط لإنتاج المعايير الجماعية والوعي الاجتماعي، من جهة ثانية. وهو بالتالي، ما يضمن ويحقق الاندماج الاجتماعي. من هنا أهمية الطقوس الدينية، التي تبقي على الوعي الجمعي في حالة صحو دائمة.
ويمكن أن نشير إلى التمييز الذي يقيمه دوركايم بين الدين والسحر. فإذا كان هذا الأخير، هو مجموعة من الطرق، غير العقلانية من وجهة نظر العلم والتقنية، والتي من خلالها يبحث الأفراد للوصول، أو لتجنب، بعض العقلانية من وجهة نظر العلم والتقنية، والتي من خلالها يبحث الأفراد للوصول، أو لتجنب، بعض نتائج نشاطاتهم (M.Mauss: 1983) فإن هذه الطرق والسلوكات، لم تستطع أن تنتج مؤسسات مثل الكنيسة، بل فقط تكتفي بإنتاج علاقة بين الساحر وزبونه، على عكس الدين الذي استطاع إنتاج مؤسسات وتنظيمات (E.Durkheime:1985، ص61).
ـ تلكوت بارسونز وتطور الوظيفية:
من المعروف أن الدين لا يحتل مكانة مركزية في ابحاث بارسونز السوسيولوجية. ويمكن القول إن نظريته تتأرجح باستمرار، بين محاولة فهم الواقع من وجهة نظر الفرد الفاعل، وضرورة فهم الإمكانية التي تتوفر عليها المنظومة الاجتماعية للاشتغال المنظم رغم تعقدها. ففي كتابه: (La structure de l'action sociale :1937)، وهو أول عمل ممنهج لبارسونز، يبين أن العلاقات بين الفعل الفردي والمنظومة، هي علاقات ممكنة، نظرا لوجود مرجعية مشتركة، بين توجهات الفرد الأخلاقية والقيمية، والأطر الموجود قبله، والتي من داخلها يتصرف الفرد. إن التوجهات الذاتية، والأنماط الموضوعية للفعل، كلاهما ينتميان، إلى ما يسميه بارسونز المنظومة (Le système). الفعل إذن ممكن كمنظومة. هذا الطرح سوف يجد شكله الواضح في كتابين أساسيين لبارسونز: الأول هو Le système social سنة 1951، والثاني هو: Théorie de l'action et condition humaine سنة 1978. ويمكن تلخيص أطروحة بارسونز كالتالي: إن المنظومة الاجتماعية تنظيم معقد تتم فيه تبادلات مكثفة ومستمرة بين الغريزة والإخبار، بين الطاقة والضبط، بين التشتت والنظام. وينظم التبادل على مختلف المستويات، من البسيط حتى الأكثر تعقيدا: من المستوى الذي يسود فيه الضبط المباشر، إلى المستوى ذو الآليات المعقدة للضبط، حيث مفروض على الفرد أن يتمثل أنماطا وقيما أخلاقية، والتصرف وفق أفعال محددة ومحدودة. إن التنوع اللامتناهي للاختيارات الفردية، تنوع قائم على أولوية المصالح، أمام القيم المشتركة، هو تنوع محدود فقط بوجود المؤسسات الاجتماعية التي تنسخ، بتعبير بورديو، في وعي الأفراد، منظومات رمزية معممة للفعل.
وهكذا، فإن الدين يأخذ دورا حاسما بمجرد ما يمنح للمنظومة موردا للشرعنة الفعالة التي لا ترقى أية منظومة أخلاقية أخرى لأن تمنحها. إنه يلعب وظيفة مهمة وعالية في ضبط المنظومة الاجتماعية.
ولعل هذا ما يجعلنا نفهم، دفاع بارسونز، في أواخر الستينات، عن الدور الذي لعبته المسيحية في تطور السيرورة الديمقراطية، خاصة في المنظومة السياسية الأمريكية. ثم قوله بأن الدين لن يعرف الزوال، وأن التحولات مهما وقعت، سوف لن تؤدي سوى إلى تغيير مضامينه الاجتماعية. إن الدين، في نظر بارسونز، إذا كان لا يعرف النهاية، فلأنه بنيويا يقوم بإشباع حاجيات توازن المنظومة في جميع مظاهرها.
ـ بورديو والحقل الديني:
في دراسة حول الحقل الديني، يحاول بورديو (1971) أن يوفق بين وجهة نظر كل من ماركس وفيبر حول الدين. الفكرة الأساسية لهذه الدراسة يمكن عرضها على الشكل التالي: الحقل الديني هو مجموعة من الخيارات الرمزية التي تهم مجال المقدس. حول هذه الخيراات تمارس سلطة الإنتاج، التعريف،وإعادة الإنتاج لفائدة جماعة مختصة في المقدس. هذه السلطة، ذات الطابع الاعتباطي، تؤدي إلى خلق تراتبية معينة، تقوم على سلطة-معرفية تحدد ما هو أجدر بالاعتقاد. نتيجة كل هذا، يوجد اختلاف دائم، في المواقع، بين المتخصصين في المقدس، وغير المتخصصين. هؤلاء هم الأوائل الذين تنسخ فيهم منظومة من التصورات والقيم والاستعدادات التي تمكن، من جهة، ضمان الشرعية الداخلية للحقل الديني، ومن جهة أخرى إعطاء الأفراد منظومة من الدلالات، بغرض أن تفسر لهم "كيف ينقدون أرواحهم"، وكيف "ينجحون في الحياة".
إن اختلافات الحقل الديني الداخلية، تحمل نزاعات خفية، يمكن أن تظهر، مثلا، عندما تحاول جماعة من غير المختصين في المقدس، أن تعطي تعريفا بديلا عن تعريف المتخصصين في المقدس، تعريفا مغايرا، يخص الرأسمال الرمزي الذي يتسرب، مع مرور الزمن، من الحقل الديني. بالطبع، إن استقلالية هذا الحقل، ليست مطلقة، إذ أنه مرتبط بعلاقات مع الحقول الأخرى، ومع البنية الاجتماعية ككل.
ـ الدين والتغير الاجتماعي:
لم يهتم علم الاجتماع فقط بما يمكن أن يفعله الدين، بعد أن يشرعن النظام الاجتماعي القائم. بل اهتم كذلك، بما يمكن أن يساهم به في إنتاج تغيرات اجتماعية ونزاعات، يمكن أن تلعب دورا تجديديا في خلق أوضاع ومنظومات اجتماعية جديدة.
لقد كان ماكس فيبر أول من طور، سوسيولوجيا، هذه الرؤية للدين. إذ نجده، أكثر من غيره، قد محور جزءا كبيرا من أعماله على فهم الدين، كعامل أساسي في الدينامية الاجتماعية.
لم يهتم فيبر بالدين في حد ذاته، بل اهتم به في سياق البحث عن جواب ملائم للسؤال الذي شغل علم الاجتماع منذ بدايته: لماذا ظهرت الحداثة في أوروبا وليس في مكان آخر؟ وإذا كان معروفا أن الحداثة عند فيبر، هي العقلانية في أرقى مراحلها، وهي التي أعطت بالتالي، على المستوى الاقتصادي، الرأسمالية، فإن السؤال الذي انبثقت منه كل أبحاثه في هذا الموضوع هو: ما هي الظواهر العقلانية، غير اقتصادية، التي تستطيع أن تؤثر بجلاء في العقلانية الاقتصادية؟ لقد انصبت كل أعمال فيبر على عامل واحد هو الدين، وكانت تتخذ مسارين اثنين: الأول، تبيان المساهمة الإيجابية للمسيحية، أو لإحدى تأويلاتها، في تشكيل مصير الرأسمالية. الثاني تبيان، المعوقات التي ساهمت بها الديانات الأخرى، في منع بروز الرأسمالية، في مناطق أخرى غير أوروبا.
نستطيع أن نلخص أطروحة فيبر حول دور الدين في التغير الاجتماعي على النحو التالي: توجد ميولات متوافقة بين نموذجين مثاليين: الرأسمالية من جهة، والمسيحية في تأويلها الكلفيني، وما ترتب عن هذا التأويل من أخلاق، من جهة ثانية. لا يتعلق الأمر بعلاقة سببية، بقدر ما يتعلق بوجود عناصر أخلاقية في الكلفينية، يمكن أن تكون قد ساهمت، في ولادة عقلية تلائم المقاولة الرأسمالية الحديثة. إذن هناك علاقة ترابط، وليس علاقة السبب بالنتيجة.
فإذا كانت خاصيات النموذج المثالي للرأسمالية، هي من جهة، التراكم الدائم، ومن جهة أخرى، وجود سلوك عقلاني للعمل وللمقاولة، سلوك يهتم باستمرار بعلاقة الوسائل بالغايات، كما يهتم بعلاقة الادخار بالاستثمار، بالربح، ثم بإعادة الاستثمار، فإن هذا النموذج من التصرف الاقتصادي قد وجد في بعض بقاع أوروبا، الأرضية الخصبة للتطور، حيث يسود نموذج من الدين مشتق من البروستانتية الحديثة: إنه الكلفينية. إن روح الرأسمالية، سوف تكون منسجمة، مع نوع من نمط الحياة، مع إيمان ديني، ومع أطر أخلاقية للتلقي (M.Weber: 1964).
هكذا بين فيبر، أن ظهور الرأسمالية في جزء مهم من أوروبا، هو أمر لم يكن نتيجة توفر ظروف مادية فقط، بل نتيجة توفر ظروف "روحانية" كذلك. وبالتالي، يمكن أن نستخلص أن الدين قادر على أن يلعب أدوارا طلائعية في التغير الاجتماعي والتجديد الحضاري. وليس فقط في تسويغ وتبرير النظام الاجتماعي القائم. أي أنه ليس بالضرورة وهما واستيلابا ووعيا مغلوطا، كما أشار ماركس. فبالنسبة لهذا الأخير، يعد الدين، من إنتاج علاقات اجتماعية محددة، ولا يمكنه أن يتغير إلا بتغير هذه العلاقات الاجتماعية. فهو، أي الدين، مظهر استيهامي للحياة الاجتماعية، تمثل وهمي للبنى الخفية للعلاقات الاجتماعية وللطبيعة، وهو بالتالي، مجال لاستيلاب الإنسان. هكذا، فدور الدين، باعتباره بنية فوقية، وشكلا من أشكال الإيديولوجية، محدد بالبنية التحتية، أي علاقات الإنتاج (K.Max: 1960). لهذا يمكن للدين أن يعكس النزاعات الاجتماعية المطروحة في مجتمع ما، سواء لتبرير سيطرة الحاكمين، (الدين "عفيون الشعوب" كما قال ماركس)، أو كتعبير سياسي رافض ومتمرد في يد القوى الاجتماعية، التي لا لغة سياسية لها (الدين "زفرة المضطهدين" دائما حسب تعبير ماركس).
ويمكن أن نوضح الاختلاف الكامن بين ماركس وفيبر، فيما يخص مسألة الدين والتغير الاجتماعي، في الإجابة التي يقدمها كل منهما على السؤال التالي: كيف يحدث، في لحظة معينة من التطور التاريخي، أن تنتج في المجتمع، تحولات عميقة في النظام الاجتماعي؟ ما هي الظروف التي تسرع عملية التغير التاريخي؟
بالنسبة لماركس، عامل الدينامية يتمثل في التناقض السوسيو-اقتصادي الذي يضع طبقتين في المواجهة، ويؤدي إلى التغير السياسي، الأمر يتعلق بعامل بنيوي. أما فيبر، فإن الإجابة عن هذا السؤال تقوده في اتجاه آخر: إذا كان المجتمع يتغير، فذلك لأن عوامل الأزمة الاقتصادية الاجتماعية السياسية وجدت من يؤولها ويفهمها بشكل تجديدي. أي وجدت فاعلين اجتماعيين مجددين، اجتماعيا وسياسيا، ولهم القدرة على معرفة وقراءة علامات زمنهم، والاستجابة لحاجيات التغيير التي تعبر عنها اللحظة التاريخية.
وتزداد أهمية دور الدين في التغير الاجتماعي، عند فيبر، عندما يصنف هؤلاء الفاعلين الاجتماعيين ويضع على رأسهم النبي، كنوع من القيادة الكاريزمية التي تقود نحو التغير الاجتماعي والأخلاقي والسياسي. إذن فرجل الدين (وليس رجل العلم وحده)، قادر على أن يحدث تغيرات مهمة داخل المجتمع.
وهكذا، فالدين، مع فيبر، لا تنحصر وظيفته في تحقيق الانسجام الاجتماعي فقط، مثلما ترى الوظيفية، بل هو كذلك، وعلى الخصوص، عنصر قادر على إنتاج التجديد والتغير الاجتماعي. وبالفعل، فلقد استطاع الدين أن يشكل الأساس الحقيقي للمعايير الاجتماعية السائدة في الولايات المتحدة الأمريكية (R.Bellah: 1985). كما شكل منظومة مضادة لدى المجتمعات المهددة من طرف حداثة معيشة كغزو حضاري (المجتمعات الإسلامية مثلا).
لهذا وجب التخلي عن الرؤية التي تقابل بين الدين والمجتمعات الحديثة. إذ أن هذه الأخيرة، ليست هي المجتمعات التي لا تكترث بالدين، وتتخلص من المقدس، بل هي التي تحقق فيها التطور المقترن بتأكيد شخصية الفرد، وبمقاومة تدمير هوية الأفراد والجماعات (A.Touraine: 1992، ص356). فالدين، بهذا المعنى، وخاصة في المجتمعات المصنعة، أصبح يحيل على الفرد ضدا على الأجهزة الاقتصادية والسياسية المركزية المسيطرة (نفس المرجع السابق، ص250). من هنا نستطيع أن نقول إن للدين إنتاجات اجتماعية، مثل التضامن، كشكل من التنشئة الاجتماعية، وكالشعائر والطقوس الدينية، التي لها تأثيرات كبيرة على الحياة الاجتماعية والاقتصادية للفرد والجماعة (شعائر كالأضحيات والصلاة وزيارة الأماكن المقدسة…) (Huber et Mauss: 1899) وكالاعتقادات التي تلعب أدوارا على غاية من الأهمية في الحياة الاجتماعية، سواء على المستوى العملي، أو على المستوى النظري. فهي تقوي التوازن النفسي والاجتماعي للفرد والجماعة، وتحفز على للإنتاج وتنشط العواطف. كما تقوم كقواعد للحياة الخاصة والعامة، وتنظيم العلاقات الاجتماعية والسياسية. وهكذا، يكون الدين، موردا مركزيا لتطور الحياة الاجتماعية.
ـ مشكلة قياس التدين في علم الاجتماع:
قبل التطرق لهذه المشكلة، وجب أولا تحديد تعريف للتدين. ذلك أننا لا يمكن أن نقيس ظاهرة ما دون أن نعرفها، ودون الدخول في نقاشات طويلة أملاها تعدد الاتجاهات والمناهج في علم الاجتماع يمكن الاكتفاء بالتعريف الذي يعتمده C.Y.Glock. إذ يقسم التدين إلى خمسة أبعاد تسمح بتعيينه: بعد الاعتقاد، بعد الممارسة، بعد المعرفة، بعد التجربة، بعد الانتماء. إن هذه الأبعاد تترابط وتتضافر فيما بينها، لتنتج، عند الفرد، كما عند الجماعة، التدين (Glock: 1964). هكذا فعندما نفكك التدين إلى أبعاد مستقلة نسبيا، نستطيع توظيف مختلف المناهج. وأهم تقنية تستعمل في هذا الصدد هي الاستمارة التي تضم مجموعة من الأسئلة، منها المنغلقةو المفتوحة والمبنية. وهذه الأخيرة هي التي تترك مجالا أكثر اتساعا للأجوبة. فمن الوجهة التقنية يمكن اعتبار الأجوبة عن الأسئلة على أنها تأكيدات أو آراء تحيل إلى المواقف العميقة للمبحوثين حول التدين. وعلى أساس هذه التأكيدات والآراء نستطيع بناء سلم المواقع الذي يذهب من الاتفاق الكامل إلى حده الأدنى، مرورا بمواقع وسطى. هكذا نحصل على أداة لقياس المواقف بفضل هذا السلم من المواقف (S.Acquaviva et Enzo Pace: 1994). واضح أن تقنية القياس هذه تتخذ لها كخلفية إبيستيمولوجية، فكرة فيبر حول النموذج الأمثل.
إن القياس بالسلم أفضل من القياس بالأجوبة البسيطة. إذ يمكن تقنيا من عزل الأجوبة التي تهم فقط البعد الذي نريد قياسه وتجميع الأجوبة التي تتوافق مع البعد المراد قياسه، ثم إعطاء "نقطة" لكل جواب خاص. (نقطة تفسيرية، سواء فيما يتعلق بالمصطلحات المفاهيمية، أو فيما يتعلق بالإحصاء).
بهذه الطريقة، يكون السلم أكثر نجاعة من الطرق الأخرى لقياس التدين. لكن شريطة أن يخضع لبعض القواعد: أن يكون إجرائيا ، أي أن تكون الأجوبة التي يتضمنها صالحة حتى عندما يتعلق الأمر بعينات أخرى في لحظات مختلفة، وأن يكون صحيحا أي مكننا من قياس ما نريد قياسه. ثم أخيرا، أن يكون قياسيا، أي يمكن استعماله كقياس للظاهرة، بالاستناد على تقنيات، كالقياس الاسمي، والتراتبي، وقياس المسافة، والقياس النسبي (نفس المرجع السابق، ص76 وما فوق)