دوارد سعيد -(أرشيفية)فاطمة حاتممن المعلوم أن مؤلفات إدوارد سعيد المختلفة والمتنوعة، والتي تحوز على قابلية الشرح وإعادة التحليل، لم تكن بَلْهَ إعادة تأويلها والدفع بها إلى أقصى حدودها المعرفية، مجرد نصوص معرفية كُتبت لذاتها، من أجل تحقيق مآرب خاصة بها، تستمع فقط إلى صوتها، وكأنها أحادية المعنى والجهة، وإنما هي أعمال متعددة الأبعاد، برؤوس متكثرة، وبزوايا نظر منفتحة، بالرغم من وجود بعض الخيوط الناظمة لفكره، مثل "الاستشراق" و"المثقف" و"النقد الدنيوي" و"المنفى" و"المقاومة"، لأنّها مفاهيم تشتغل في غالب أمرها بصورة سافرة، وأحياناً أخرى متخفية عن أنظار الفكر الذي يعشق الترصد، وبمستوى مكثف من الإضمار.
الدراسة التي حررها الباحث الجزائري ربوح البشير، ونشرت في موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث تحت عنوان "النقد الدنيوي للدين عند إدوارد سعيد: مدخل تأسيسي لمنظورية تاريخية"، تروم وضع رتبة من الإنساء بين ما اكتسبه من قراءته لمختلف مؤلفات إدوارد سعيد والكتب التي تشرحه وتحلله وتنقده، والمستوى الذي وصل إليه نص إدوارد سعيد في حدّ ذاته، دون أ، يعني ذلك بأن الباحث امتلك ناصية فهم نصوصه، واستطاع أن يتحكم في مفرداته التفسيرية وأسالبيه التحليلية.
ويفتتح الباحث دراسته بالإشارة إلى أن أغلب نصوص إدوارد سعيد تحيل على مداخل متعددة، بل إن كل واحد من هذه النصوص يقودنا مباشرة إلى عالم إدوارد سعيد المعرفي، ومنه تتولد لدى أي باحث فكرة مفادها أنه حاز على المعنى الكامن في رؤية سعيد، وبصورة أرخميدية يهلل للاكتشاف، لأننا أمام حشد كبير من المداخل، مثل: الاستشراق، المثقف، الهوية، السرد، الثقافة، الامبريالية،... غير أنها مداخل متعثرة في منتهاها وليس في منطلقها.
أمام هذا الزخم الكبير من النصوص، تغدو مسألة المدخل حسب الباحث، هي أكبر عائق يواجهه الباحثين في فكر إدوارد سعيد، ولتجاوز هذا الإشكال على مستوى التنقيب عن مولج، يتوقف الباحث عند مقترح يتأسس على قاعدة، يعتقد في صلاحيتها لإحداث مقاربة لمشروع سعيد، وهي قاعدة: التأسيس الإبستيمولوجي، باعتبار ما هو إبستيمولوجي في أي بحث أكاديمي، خاصة في مجال العلوم الإنسانية، هو المجال الأعمق، أو هو الإبستيمي الذي تشتق منه كل المفردات التحليلية، والعبارات التفسيرية.
على هذا النمط من الاشتغال التأسيسي، يتوقف الباحث عند المنهج الأنسني الذي يضعه في مرتبة الربان المعرفي لسفينة إدوارد سعيد الفكرية، ومنطلقه في فهم معنى العالم التاريخي
على هذا النمط من الاشتغال التأسيسي، يتوقف الباحث عند المنهج الأنسني الذي يضعه في مرتبة الربان المعرفي لسفينة إدوارد سعيد الفكرية، ومنطلقه في فهم معنى العالم التاريخي، وتقعيد دلالة النص، وتعبيد طريق للنقد، وبلورة رؤية حداثية للدين، واستنبات منظورية محايثة للتاريخ، ومنه نستطيع أن نقترب من فضاء سعيد البنائي، وتأسيساً عليه، يتساءل الباحث في أفق هذا المنحى: هل بالإمكان أن نبدأ في فتح درب فكري يقودنا جهة القبض على معاني الأنسنية والدين والتاريخ، كي تكون في نهاية التحليل منارات تضيء لنا طريق اكتشاف فكر سعيد المعرفي؟، وما هي روابط هذه الشبكة المفهمية؟، وهل الانخراط في التاريخ يعني السقوط في النسبية؟، ماذا ينتج عندما نفر من النسبية؟ هل يؤدي ذلك، إلى التموقع خارج التاريخ وبالتالي السكن داخل الرؤية اللاتاريخية التي تنظر من علِ إلى الكائنات البشرية ولا تكترث بالشرط التاريخي المتغيّر، فيحدث تزاوج كاثوليكي مع النزعة النصية؟
واختتم الباحث دراسته بشهادة للباحث التونسي فتحي المسكيني حول كتاب "الفيلسوف والإمبراطورية" لإدوارد سعيد، وهي شهادة شبيهة بالبيان جاء في صيغة الإعلان عن الهدف النبيل الذي يعد بمثابة ضوء يشع باستمرار من أمواج عباراته وأفكاره وأنغامه الموسيقية، إذ يقول: "من أجل ذلك فإن رهان إدوارد سعيد ليس رد الكتابة إلى تدبير إستطيقي للمنفى، بل بناء سردية مفكّرة تؤرّخ لواقعة المنفى من أجل التحرر منه. وبعبارة أدق هو إنتاج سردية للمقاومة، لا تقنع بما هو محلي، من فرط أنّها حركة كونية أصلية. وبعبارة واحدة: إنّ طرافة سعيد هو أنّه ربما كان "أول" مفكر إمبرطوري". يمكن لنا أن نتحدث عن مفكر سعى في جلّ أعماله إلى تقعيده منجزاته المختلفة في: الاستشراق، الثقافة، المقاومة، المثقف، على أساس معرفي أصيل من حيث ارتباطه بالإرث الإنساني، بخاصة عندما عمل على تفعيل المنهج الدُنيوي بطابعه النقدي، والذي يبنى على فكرة المقاومة التي لا تكل في وجه كل القوى اللاتاريخية، ومنه يحرص سعيد على مقارعة كل نزعة تريد أن تخرج من التاريخ بحثاً عن نصية كاذبة، أو تفكيراً في أفق لا يأتي، أو التقدم صوب الإمساك بالحقيقة.
إن المقاربة الإنسانية التي قدمها صاحب "الاستشراق" ذات مداخل عديدة، لكن المدخل الأنسني هو الذي جعل منه متفلسفاً أصيلاً في حديقة الفكر الفلسفي الغربي أولاً، وفي الفكر العربي ثانياً، بحسبانه مشروعاً رائدا في التبشير بفكرة العالم، والنقد، والقراءة الطباقية، والإخلاص لقضايا الأمة العربية في بداية ألفية جديدة.
لقراءة الدراسة كاملة على الموقع الإلكتروني لـ "مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث"، انقر هنا: