لا تقتصر أهمية ماكس فيبر كما هو معروف على كونه أحد أباء علم الاجتماع، فتأثيره يشمل تيّارات فكريّة واختصاصات علميّة مختلفة. كما أنّ مكانته لم تزدها الأيام إلاّ توهّجا رغم مرور أكثر من تسعين سنة على وفاته سنة 1920 بمدينة مونيخ الألمانية.
وماكس فيبر هو أيضا رجل سياسي عرف الاهتمام بالشأن العام منذ سنوات الدراسة الجامعيّة، وتحظى أعماله بالشهرة على نطاق واسع في العالم. ولكنّ الشخصيّة العبقرية التي كانت وراء تلك الإسهامات العلمية الفذّة ربمّا بقيت شبه مجهولة عند الكثيرين رغم ما يكتنفها من ثراء.
ولد ماكسيميليان كارل إميل فيبر في الحادي والعشرين من أفريل سنة 1864 بمدينة إرفورت التابعة لمقاطعة تورنغن، بالجزء الشرقي من ألمانيا الحاليّة. وتعود أصول العائلة إلى مدينة بيلفلد غرب ألمانيا حيث استقرّ أجداده بعد أن انتقلوا إليها من مدينة سالزبورغ النمساوية هربا من الاضطهاد بسبب اعتناقهم المذهب البروتستانتي.
وتنتمي عائلة ماكس فيبر إلى الطبقة البرجوازية، وكان أبوه ماكس فيبر الأب رجل قانون قبل أن يصبح نائبا بالرايشستاغ (البرلمان الاتحادي) عن الحزب الوطني الليبرالي، في حين عرف أخوه الأصغر ألفرد فيبر كرجل اقتصاد وكأستاذ جامعيّ لعلم الاجتماع.
كان ماكس فيبر الطفل معتلّ الصحة، فقد أصيب في الرابعة من عمره بمرض التهاب السحايا (ميننجيتس) وهو ما تسبّب في سعي أمّه إلى حمايته وتربيته بحرص بالغ. غير أنّه في مقابل ذلك بدت عليه علامات النبوغ المبكّر، فقد قرأ وهو في الثالثة عشر من العمر أعمالا فلسفية لشوبنهاور وسبينوزا وكانط إلى جانب أثار أدبية لغوته. واشتكى معلّموه من عدم احترامه لسلطتهم ومن قلّة انضباطه رغم كونه أقرب إلى الخجل والانطواء.
لقد تميّزت شخصية فيبر إذن بالنشأة وسط عائلة ثريّة. فأبوه رجل سياسي مؤثّر ومحترم وأمّه تنحدر من عائلة كبيرة. وعرفت عائلة فيبر علاقات واسعة بالنخبة الألمانية حينها من سياسيين ومثقفين ورجال اقتصاد. وتفتّحت عبقريته ومواهبه وسط ذلك الجوّ، غير أنّ قوّة ذهنه اقترنت بضعف بدنه وهشاشة أعصابه التي رافقته طيلة حياته.
أما في الجامعة فقد درس فيبر القانون والاقتصاد السياسي والفلسفة والتاريخ بجامعة هايدلبرغ ثمّ حصل على درجة الدكتوراه من جامعة هومبولدت ببرلين في مجال القانون بأطروحة عنوانها “تطوّر مبدأ المسؤوليّة المشتركة والثروة الخاصة للشركات التجارية المفتوحة انطلاقا من المجموعات العائلية بالمدن الإيطالية” (1). ثم استكمل دراسته الجامعية بتقديم بحث سنة 1892 حول “التاريخ الزراعي الروماني وأهميته بالنسبة للقانون العام” ( 2).
وقد مكّنه ذلك من الحصول سنة 1893 وهو في التاسعة والعشرين من عمره على رتبة أستاذ متميّز للقانون التجاري ببرلين. غير أنّ دراسته لم تكن متواصلة فقد قطعها سنة 1883 لأداء الخدمة العسكرية بسترازبورغ ضمن القوات المسلّحة الألمانية. ويعتبر البعض أنّ اختيار دراسة القانون يعود إلى سعي ماكس فيبر الشابّ للتماهي مع شخصيّة أبيه، وهو ما قد يفسّر أيضا تحوّله في الجامعة من الانطواء والخجل إلى الانغماس في شرب البيرة مع الأصدقاء ممّا جعله يتخلّص من نحافته ومن شحوبه الذي عرف به من قبل. ولكنّ ذلك لم يصرفه عن دراساته الجادّة، فأضاف إلى الاختصاصات التي درسها بالجامعة قراءات موسّعة في اللاّهوت بمساعدة قريبه “أوتو باومغارتن” المتخصّص في الميدان.
ولعبت عائلة قريبه الآخر المؤرخ “هرمان باومغارتن” دورا كبيرا في تكوينه حيث كانت بمثابة العائلة الثانية له. وكان باومغارتن هذا بمنزلة عرّابه ومحلّ ثقته في المسائل الفكرية والسياسية. كما لعبت خالته دورا كبيرا في تكوينه حيث دفعته إلى التعمّق في القراءات الدينية وبخاصة أعمال المفكّر اللاهوتي “وليام إليري شانينيغ”. ( 3)
اشتغل فيبر إثر تخرّجه مباشرة بالتدريس الجامعي في جامعات برلين وفرايبورغ وهايدلبرغ ثمّ مونيخ المحطّة الأخيرة. وكانت الاختصاصات التي درّسها تتراوح بين القانون والتاريخ الاقتصادي والاقتصاد السياسي بتقسيماتنا المعاصرة. ولعلّ أهمّ ما في فترة اشتغاله بالعمل الجامعي انقطاعه عنه سنة 1903 لأسباب صحيّة حيث عانى من الاكتئاب الشديد واقتصر دوره على منصب أستاذ فخري بجامعة هايدلبرغ. واستغلّ فترة الانقطاع تلك للقيام ببحوث علمية كثيرة والسفر والعمل السياسي. ولم يعد فيبر إلى التدريس الجامعي بشكل رسمي إلا سنة 1919 تلبية لدعوة كلية العلوم السياسية بجامعة مونيخ وتحديدا كرسيّ “علوم المجتمع والتاريخ الاقتصادي والاقتصاد السياسي”.
ويعتبر العمل السياسي ثاني المهن التي شغلت فيبر، حيث كان من المساهمين في تأسيس “الحزب الديموقراطي الألماني” سنة 1918 وهو بمثابة تتويج لنشاط بدأ منذ سنوات الشباب. كما انتمى فيبر من سنة 1893 إلى سنة 1899 إلى “الرابطة الألمانية”ِ (Alldeutscher Verband ) التي تدافع عن مواقف سياسية قومية. وكان فيبر إلى ذلك مؤسس “الجمعية الألمانية لعلم الاجتماع” سنة 1909 إلى جانب فرديناند تونيس ( Ferdinand Tönnies ) وغيورغ زيمل ( Georg Simmel). كما احتضن بيته بهايدلبرغ من سنة 1903 إلى سنة 1918 لقاءات منتظمة لكبار الشخصيات السياسية والفكرية مثل كارل ياسبرز وجورج لوكاتش وارنست بلوخ.
وتعتبر شخصيّة فيبر متناقضة ومليئة بالمفارقات (4)، فقد كان يمارس تأثيرا سياسيا دون الحصول على مناصب أو وظائف سياسية، فلم يتمكّن مثلا من الفوز بمقعد في البرلمان إثر نهاية الحرب العالمية الأولى. كما كان يعلن التخلّص من الأوهام، غير أنّه خضع مع ذلك، ولو نسبيّا، لتأثير شعور قومي ألماني. وهو مدافع عن الديموقراطية البرلمانية ولكنّه مع ذلك يعتبر وجود كاريزما للقيادة السياسية تجذب الجماهير أمرا ضروريا. كما كان يدافع عن استقلالية القرار الشخصي ولكنّ كلامه كخطيب لا يخلو من إشارات ديماغوجية. ويؤكد هذا ما روي عن شخصيته إثر وفاته ممّن عرفوه عن قرب. فقد رأى فيه البعض شخصا ذا مظهر يشبه الأنبياء وآخرون اعتبروه مجرّد خطيب بارع أقرب إلى خطباء اليونان وهبه الله “ضحكة هوميرية”، أو ممثّلا أو رجل مسرح لا يهمّه غير التأثير في الناس باعتبارهم متفرّجين، أو أعظم ألمانيّ في عصره أو ملكا دون مملكة. غير أنّ كلّ تلك التناقضات الظاهرية وجدت من يوحّدها وهو كتاب زوجته ماريا فيبر الذي يحمل عنوان “ماكس فيبر، صورة حياة” ( نشر سنة 1926) وأعطت عنه صورة متناسقة.
وقد أكّد كارل ياسبرز الفيلسوف الألماني الذي عرف فيبر عن قرب ذلك التناسق من وجهة نظره. ولكن بصرف النظر عن ذلك فإنّ الغالب في صورة فيبر لدى الآخرين هي صورة مفكّر ذي شخصيّة بالغة الثراء، بعيدة عن الروتين وشديدة الحضور الاجتماعي. ولكن ما علاقة شخصية فيبر بأعماله ؟ ذلك أمر يصعب الخوض فيه ويحذّر بعض الدارسين من الوقوع في استنتاجات متسرّعة حول علاقة شخصيّة فيبر وحياته الخاصة بأعماله. ( 5)
ومهما يكن من أمر فإنّ كتابات فيبر الكثيرة لم تصدر في طبعة شاملة لمجمل ما كتب إلا بعد عقود كثيرة من وفاته. وإذا كان تأثير فيبر في العلوم الإنسانية لم تزده الأيام إلا قوّة، فإنّ شخصيّته ستظلّ أيضا موضوعا للدراسة. إن التوقف عند شخصية ماكس فيبر يكشف جانبا مهمّا لعلّه يستمدّ جذوره من الثقافة الألمانية الحديثة عموما وهو علاقة الفكر الحداثي بالدين وبالاتجاه القومي على الأقل في فترة من الفترات من تاريخ ألمانيا. فمن المعروف عن فيبر تأثّره كما أسلفنا بالفكر القومي الألماني. وقد لازمه ذلك بشكل من الأشكال طيلة حياته وتجسّد في مواقفه السياسية لا سيما من خلال رفض نتائج أو “إملاءات” مؤتمر فرساي إثر الحرب العالمية الأولى (6).
أما نظرته للدين فتتجلّى في دراسته المعمّقة للاّهوت التي ساعدته على إظهار العلاقة بين الرأسمالية والروح البروتستانتية من خلال كتابه الشهير الذي لا يزال مصدر إلهام لعلماء الاجتماع والمفكرين. (7) وهو يعكس نظرة حياديّة عقلانيّة أسّست لرؤية للدين تسود إلى حدّ الآن لدى قسم كبير من المثقفين الألمان كما يقول هابرماس ( 8 ).
فالفكر الحداثي عند ماكس فيبر لا يعني بالضرورة قطيعة مع التراث الديني بل يمكن أن يكتسي صبغة علميّة بعيدا عن أيّ تطرّف. أما الجانب الآخر المهمّ الذي تكشفه سيرة ماكس فيبر فهو طبيعة العلاقة بين العلم والسياسة. فقد استطاع فيبر بفضل ممارسته للبحث العلمي وللسياسة بصورة متوازية أن يسلّط الأضواء بشكل غير مسبوق على جوهر السياسة كمهنة من خلال كتابه “مهنة السياسة” Politik als Beruf . ولعلّ إضافة ماكس فيبر تتمثل في دراسته للسياسة كما تتجلّى في ممارسة رجل السياسة في المجتمع وليس كفنّ أو خبرة كما عند ماكيافيلي ومازارين مثلا.
ثمّ إنّ فيبر استطاع أن يحلّل طبيعة العلاقة بين العالم ورجل السياسة بشكل ربّما يمثّل أول نقض حقيقي للفكرة الأفلاطونية التي سادت لقرون حول “أسطورة” الملك العالم. فرجل العلم يمكن أن ينجح في السياسة ولكن ليس بفضل علمه فقط. تلك بعض الجوانب البسيطة التي يمكن التوقف عندها إثر استعراض سيرة فيبر، أما استيعاب وتأويل عمله الضخم فقد بدأ منذ عقود في أنحاء متفرّقة من العالم ولم ينته ولعلّه قد يبدأ بشكل فعلي في الثقافة العربية بعد ترجمة أعماله الكاملة إلى اللغة العربية وفق مشروع أعلن عنه مؤخّرا ( 9) ونتمنّى أن يتمّ ذلك قبل اكتمال مائة عام على وفاة فيبر
الخميس يوليو 30, 2015 1:35 pm من طرف سميح القاسم