قراءة موجزة في رحلة الغفران
تعتبر "رسالة الغفران" ردا على رسالة ابن القارح للمعري، وقد عمل أبو العلاء المعري في هذه الرسالة على تصوير ابن القارح وهو في رياض الجنة. وقد تميّز البناء القصصي للرّحلة بالفوضى، فاختلط الديني الغيبي بما هو دنيوي والواقعي بما هو خيالي. وسنحاول في قراءتنا المبسطة استجلاء ملامح الفوضى والتناقض لنتبين دورها في التخييل والسخرية والنقد.
ونلاحظ هذه الفوضى في مستوى الشخصيات التي تنتمي إلى مجالات متنوعة، فنجد شخصيات واقعية مثل ابن القارح والأعشى والرسول عليه الصلاة والسلام، وأخرى خيالية مثل "الزبانية" و"رضوان خازن الجنان". ويوظف المعري هذه الشخصيات المختلفة المنتمية إلى أزمنة متباعدة لخلق جو خيالي عجيب، ومن ذلك نذكر الحوار الذي أقامه بين امرئ القيس وابن القارح [1].
وتحيلنا الشخصيات على الطبيعة الأسطورية للزمن الذي تدور فيه الأحداث، مثل الجمع بين الإنس والجن والعفاريت وتخيّل حوارات تدور بينها [2]، وتسمح هذه الطبيعة الأسطورية بنقد المجتمع وتناقضاته ومفارقاته [3]. وهنا يعتبر الإطار الزماني من أبرز ملامح الفوضى، إذ اعتمد المعري زمنا سرمديا مطلقا كقوله: "لا يزال كذلك أبدا سرمدا". كما اعتمد أيضا على زمن موضوعي دنيوي كقوله : "أقمت في الموقف زهاء شهر أو شهرين".
وتبدو الفوضى جلية في مستوى الإطار المكاني، إذ نجد أمكنة خيالية مثل "الجنة" و"المحشر" و"الجحيم" مقابل أمكنة أخرى دنيوية مثل "البيت" و"القصور". وتظهر الفوضى في اختلاط الأحداث الدنيوية كالأكل وشرب الخمر بالأحداث الدينية مثل الشفاعة والغفران.
إن هذا الاختلاط الحاصل بين الدنيوي والديني والخيالي بالواقعي في العديد من المستويات يوحي بفوضى الوجود الإنساني فوق الأرض، هذا الإنسان المنشطر بين الدنيوي النسبي والديني المطلق وما يحملانه من تناقض. وقد حاول المعري رسم ملامح عصره وإظهار الانقلاب الحاصل في القيم والأخلاق من خلال تعمّد الفوضى في البناء القصصي، فقد نقد النفاق والكذب من خلال نقد الأدب على أيامه، واعتبر المدح كذبا ومغالطة، فهو لا ينبع إلا من نفس كاذبة متسلّقة.
ويظهر هذا الموقف جليا في تلك الأبيات التي نظمها ابن القارح في "رضوان خازن الجنان" قصد دخول الجنة، لينتقد بذلك الغاية النفعية من شعر المدح. ويقول ابن القارح مؤكدا نفاقه: "زيّنت لي النفس الكاذبة أن أنظم أبياتا في رضوان" [4]، ولمّا فشل ابن القارح في مسعاه لجأ إلى حمزة عم الرسول مادحا إياه بشعر، وذلك ابتغاء تجاوز محنة الوقوف في المحشر، غير أن حمزة استهجن أسلوبه ورفض أن يساعده لدخول الجنة [5].
إن هذا الموقف الساخر من ابن القارح مبني على التناقض بين الرغبة في الدخول إلى الجنة من جهة واستخدام الحيلة والكذب للدخول إليها من جهة أخرى، ويعتبر هذا التناقض من ملامح الفوضى التي تساهم في بناء وتشكيل المواقف الساخرة التي كانت أداة لنقد النفاق والتسلق في المجتمع الإنساني.
حاول المعري بوساطة الخيال تجسيم الفوضى الدنيوية على أرض الجنة، ومن ذلك نذكر عبثه بشخصية ابن القارح وهو في رحاب الجنة المفترضة، حيث جعله شهوانيا لا يهتم إلا بالخمر والحوريات، وهنا تبرز لنا حقيقة توبة ابن القارح التي قامت على النفاق والكذب، فهو قد انتهز وجوده في الجنة لإشباع غرائزه الجنسية ورغباته الدنيوية المادية. وقد
وشملت سخرية المعري المجال الأدبي، إذ تخيل خصومة بين النابغة والأعشى ليثبت ضمنيا أن مقياس الشعر يقوم على الجدة والطرافة لا على الإسهاب، وقد وصلت الخصومة إلى حد الشتم والسب والتهكم والتنابز بالألقاب، إذ يخاطب النابغة الأعشى قائلا: " أتكلمني بمثل هذا الكلام يا خليعة بني ضُبيعة، وقد متّ كافرا، وأقررت على نفسك بالفاحشة" [6]، فيردّ الأعشى عليه قائلا: " أتقول هذا وإن بيتا ممّا بنيت ليعدل بمائة من بنائك، وإن أسهبت في منطقك، فإن المسهب كحاطب الليل، وإني لفي الجرثومة من ربيعة الفَرِسِ وإنك لمن بني جعدة "[7]. وهنا تبرز بعض ملامح السخرية.
وكان نقد المعري قد شمل القضايا الاجتماعية وخاصة مسألة الطبقية والتفاوت الاجتماعي، وعلى سبيل المثال نذكر أنه قد صوّر جماعة من أهل الجنة يعيشون في قصور فخمة في حالة نعيم وترف مقابل جماعة أخرى كانت تعيش منفية في "بيت في أقصى الجنة". وتعرض المعري لوضعية المرأة في عصره من خلال إبراز مكانة المرأة في الجنة، فهي كانت لا تحضر في الجنة إلا باعتبارها أداة لتحقيق اللذة والمتعة الجنسية [8].
وكان للتخيل أثر في النقد السياسي، ومن ذلك تخيله لصورة الملوك الشوس الجبابرة وهم في الجحيم تقودهم الزبانية إلى العذاب، وهنا يتّضح جانب من رؤية المعري السياسية وموقفه من أهل السلطة.
بنيت رسالة الغفران على الفوضى من خلال التناقضات الحاصلة في مستوى الشخصيات والأحداث والزمان والمكان نتيجة اختلاط ما هو ديني بما هو دنيوي، وقد ساهم هذا التناقض والاختلاط في بناء الفضاء المتخيل العجيب الذي أسقط فيه المعري واقع الإنسان وقضاياه على الجنة ليعرض فوضى الوجود الإنساني بأسلوب نقدي يعتمد على المواقف والمفارقات الساخرة، وهو ما جعل رسالة الغفران تتّسم بالجدّة والطرافة.
= = = = =