القراءة التفكيكية
اختلف في ترجمة مصطلح "ديكونستركشن" (déconstruction) إلى العربية، فترجم بـالتفكيكية، والتقويض. وترجمه بعضهم بالتشريحية. ولكن الأول أكثرها تداولا، والأخير أبعدها عن الدقة[1]. المصطلح مضلل في دلالته المباشرة، لكنه ثري في دلالاته الفكرية، فهو في المستوى الأول يدل على التهديم والتخريب والتشريح، وهي عادة تقترن بالأشياء المادية المرئية.
لكن المصطلح في مستواه الدلاليّ العميق يدل على تفكيك الخطابات والنظم الفكرية، وإعادة النظر إليها بحسب عناصرها، والاستغراق فيها وصولا إلى الإلمام بالبؤر الأساسية المطمورة فيها. يقول الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا (Jaques Derrida) في حوار مع كريستيان ديكان:
"إن التفكيك حركة بنيانية وضد بنيانية في الآن نفسه، فنحن نفكك بناء أو حادثا مصطنعا لنبرز بنيانيه وأضلاعه وهيكله ولكن نفك في آن معا البنية التي لا تفسر شيئا فهي ليست مركزا ولا مبدأ ولا قوة فالتفكيك هو طريقة حصر أو تحليل يذهب أبعد من القرار النقدي"[2].
وما يؤكده التفكيك ويتحول عنده إلى هدف هو أنّ الخطاب ينتج باستمرار، ولا يتوقف بموت كاتبه، ولهذا فهو يدعو إلى الكتابة بدل الكلام لانطوائها على صيرورة البقاء بغياب المنتج الأول، في حين يتعذر ذلك بالنسبة للكلام، إلاّ في حدود نطاق ضيق، وبفهم العلاقة الجدلية القائمة بين ثنائية الحضور والغياب في جسد الخطاب باعتبار الحضور رهينة مرئية والغياب ظلاله الكثيفة العميقة الغائرة، وهو المدلول الذي ينفتح على خاصية القراءة المستمرة في تحاور مع القارئ.
نشأت التفكيكية عن "ما بعد البنيوية" في أواخر الستينات على وجه التقريب. وترتبط التفكيكية أو التقوّيض باسم دريدا، الذي عرف بتعدد جوانبه وخصب اهتماماته، فهو فيلسوف وقارئ نصوص من التراث الفلسفي الغربي[3]. ولقد وجه هذا الفيلسوف انتقادا حاسما للفكر البنيوي، فلقد ذهب إلى أن فكرة" البنيوية " كانت تفترض دائما "مركزا" من نوع ما للمعنى حتى في البنيوية، هذا المركز يحكم البنية، ولكنه هو نفسه ليس موضوعا للتحليل البنيوي.
وذهب دريدا إلى أن البشر يرغبون في مركز لأن المركز يضمن لهم الوجود من حيث هو حضور، فنحن نفكر على سبيل المثال في حياتنا العقلية والمادية على أنها مرتكزة حول "أنا" وهذه الأنا هي مبدأ الوحدة الذي تقوم عليه بنية كل ما يدور في فضائها[4].
يرى دريدا أن الفكر الغربي قائم على الثنائية ضدية عدائية تتأسس عليها ولا توجد إلا بهذه الثنائية كثنائية: العقل/العاطفة؛ الذات/الآخر؛ المشافهة/الكتابة؛ الرجل/المرأة. وهذا الفكر يمنح الامتياز للطرف الأول على الثاني هو ما يسميه دريدا بـ"التمركز المنطقي" أي أنّ المعنى وظيفة المتحدث وسابق على اللغة التي هي مجرد وسيلة ناقلة له من موقع "أصلي" إلى محطة أخرى.
ويرى دريدا أن الأسبقية تكون للكتابة على اللفظ والكتابة عند دريدا لا تعني الكتابة بمفهومها المألوف الذي يرى فيها مجرد تصوير وتمثيل للأصوات المنطوقة ويؤكد أن الكتابة كانت دائما تخضع لهيمنة اللفظ مما جعل التمركز المنطقي عنده مرادفا دقيقا للتمركز الصوتي[5]. ويرى دريدا أن التفكيك ليس عملية نقدية بل النقدية موضوعها التفكيك لأن عملية التفكيك ترتبط أساسا بقراءة النصوص وتأمل كيفية إنتاجها للمعاني وما تحمله بعد ذلك من تناقض فهي تعتمد على حتمية النّص وتفكيكه.
معنى هذا أن التفكيكية تأخذ على عاتقها قراءة مزدوجة فهي تصف الطرق التي تضع بواسطتها المقولات التي تقوم عليها أفكار النّص المحلّل، تضعها موضع تساؤل وتستخدم نظام الأفكار التي يسعى النّص في نطاقها بالاختلافات وبقية المركبات لتضع اتساق ذلك النظام موضع التساؤل[6].
وقد فسرت كثير من القراءات على أنها هجوم على الكتاب لأنها تكشف عما عندهم من تناقضات مع أنفسهم أو وجود عوامل تفكيك ذاتية لأننا اعتدنا على اعتبار أن التناقض مع الذات أمرا لا محيد عنه فيما يقول دريدا أولا محيد عنه أي نص يطرح مشكلات كبرى على الأقل7].
من هنا فالتفكيك حلقة أساسية في التّصور التّفكيكي وهي تهدم تراكيب الكتابة مع غيرها من المستويات، والتفكيكية بهذا المفهوم نشاط قراءة يبقى مرتبطا بقوة النصوص واستجوابها8].وحسب دريدا فالتفكيك ليس عملية نقدية بل النقدية موضوعها التفكيك. ولتحقيق أهدافه وطموحاته يقترح التفكيك مجموعة من المصطلحات أهمها:
=1= الاختلاف:
تعد مقولة الاختلاف إحدى المرتكزات الأساسية للمنهجية التفكيكية واستنادا لكشف الدلالة المعجمية (différence) التي تتألف من فعل أو مصدر يدل على عدم تشابه والمغايرة والاختلاف في الشكل والخاصة،(differ) وتعني التشتت والانتشار والتفرق والبعثرة والمغايرة في المكان والزمان. يقوم مصطلح الاختلاف على تعارض الدلالات بين الحضور والغياب، فـدريدا يرى أنّ الخطاب الأدبي يكون تيارا غير متناه من الدلالات وتوالد المعاني لا تعرف الاستقرار والثبات فإنّها تبقى مؤجلة ضمن نظام الاختلاف، وهي محكومة بحركة حرة أفقية وعمودية دون توقع لنهاية محددة لها."
إن الوظيفة المهمة للاختلاف هي ما يصطلح عليه دريدا بالكتابة البدائية (archi-writing) وهي نمط من الكتابات سابق للكتابة نفسها، أي ذات ميزة قبلية متصوّرة للكتابة قبل تجربة الكتابة، فهي تنتج شكل الحضور وعادة ما تكون أنظمتها موضوعية بالنسبة لموضوعها وكل أشكال المعرفة الأخرى"[9].
الاختلاف عند دريدا هو فعالية حرة غير مقيدة، ويوجز تعريفه لها بالقول: "إنّ الاختلاف لا يعود ببساطة لا إلى التاريخ ولا إلى البنية فالاختلاف يوجد في اللغة ليكون أول الشروط لظهور المعنى"[10].
=2= التمركز حول العقل:يعنى به دريدا "التضافر لتأسيس بنية قوة في خارطة الفكر ويعتمد على اقتحام سكونية الميتافيزيقا [... ] وإعطاء الكلمة المنطوقة قيمة عالية بسبب حضور المتكلم والمستمع وقت صدور القول، فليس ثمة فاصل زماني أو مكاني، بينهما فالمتكلم يستمع في الوقت الذي يتكلم فيه، وهو ما يفعله المستمع في الوقت ذاته، إن سمة المباشرة في الفعل الكلام تعطي قوة خاصة في الفهم المباشر سواء تحقق كاملا أو غير كامل [...] أمّا الكتابة فإنها تكتسب أهميتها من خلال التمركز حول العقل، حيث يصبح الكلام مستحيلا ولهذا يضع الكاتب أفكاره على الورقة، فاصلا إياها عن نفسه، ومحولا إياها إلي شيء قابل لأن يقرأ من شخص آخر بعيد، حتى بعد موت الكاتب، وكل هذا يفتح الآفاق لمزيد من الاحتمالات ومن هنا ينشأ الاختلاف الكبير بين الكلام والكتابة[11].
وأبرز الحقول المعرفية التي امتد إليها نقد دريدا حول التمركز المنطقي وهي في الحقيقة منظومة حقول معرفية متداخلة تصدى لها بمنهجية التفكيكية في القراءة لكشف مظاهر التمركز المنطقي فيها وهي:
=أ= الأولية الابستمولوجية: ولقد عدّ العقل والإدراك مركزا للحضور وحقيقة الأمر أنهما ليسا إلا نتاجا لوحدة العقل والحقيقة فالوعي يحضر حالا من تلقاء نفسه.
=ب= الأولية التاريخية: تتحقق انطلاقا من الماضي صوب المستقبل في ثلاث حالات التمظهر تعالي الأشكال – مقولات الخالق.
=ج= الأولية الجنسية: تتحقق بواسطة حضور الذكورية المتمثلة في سلطة الرجل، والغياب عند المرأة[12].
=د= الأولية الوجودية: أهم الحقول المنهجية لدى دريدا لما يمثله الوجود من حضور ذاتي صاف مقابل الغياب العدم[13].
=هـ= التأويل الأدبي: تتجه إلى التعدد القرائي الناتج عن التأويل، والسعي إلى التعدد اللانهائي للمعنى.
=3= علم الكتابة:التأسيس إلى تحديث الفكر بقلب التدرج التقليدي من أفضلية الكلام على الكتابة مع إمكانية تصوير الكلام على أنه مشتق من الكتابة[14].
=4= القراءة:يرى دريدا أن النّص ليس ساحة تباينات، ومجال للتوتر والتعارض وحيز للتبعثر والتشتت وذلك حيث يولد دوماً عن القراءة تفكك البنى وانفجار المعنى وتشظي الهوية.
إنّ تفكيكية دريدا كممارسة نقدية تفكك النّص لتكشف أن ما يبدو عملا متناسقا وبلا تناقضات هو بناء من الاستراتيجيات والمناورات البلاغية. إن فضح ذلك البناء ينسف الافتراض بوجود معنى متماسك غير متناقض ومفهومه (يمكن تفسيره بشكل واضح) ويؤكد دريدا أهمية تحطيم كل الجاهز والمؤطر والمشكل والنظامي سواء كان نظريا، أم ثقافيا، أم مؤسسيا. ويلاحظ دريدا على النصوص أنها ليست متجانسة دائما ويحدد مطلبه من القراءة بقوله:
"ما يهمني في القراءات التي أحاول إقامتها هو ليس النقد في الخارج، وإنما الاستقرار والتموضع في البنية غير المتجانسة للنصّ، والعثور على توترات، أو تناقضات داخلية، يقرأ النصّ من خلالها نفسه، ويفكك نفسه [...] أن يفكك النصّ نفسه فهذا يعني أنه يتبع حركة مرجعية ذاتية حركة نصّ لا يرجع إلاّ إلى نفسه، ولكن هناك في النّص قوى متنافرة تأتي لتقويضه وتجزئته"[15].
ويقول دريدا معارضا البنيوية: إنّ الكتابة (إيكرتير) هي أصل اللغة، وليس أصلها هو الصوت الذي ينقل الكلمة المنطوقة. ويهدف علم الكتابة الذي وضعه دريدا إلى الحلول محل سيميولوجيا سوسير، والكتابة في تصوره المفصل تعني أية ممارسة من التفريق والإيضاح والفصل بالمسافات[16]. ويستخدم دريدا مفهوم الأركى–كتابة هذا ليحدث انقلابا في الأقطاب الموجودة في التمركز التقليدي حول اللوجوس:
الكتابة/الصوت؛ الصمت/الصوت؛ عدم الوجود/الوجود؛ اللاوعي/الوعي؛ الدال /المدلول، إلى آخره. ونجد أن النظام المتمركز حول الصوت أو اللوجوس يصور العلامة تقليديا على أنها تتألف من الدال والمدلول، والعلامة تقع برسوخ في القلب من ذلك النظام وتدل فيه على قرب الصوت من الحقيقة ،والصوت من الوجود ،والصوت من المعنى[17].
والإنسان التفكيكي عند دريدا وعلى العكس من أسلافه التقليديين يؤكد على لعب العلامات ونشاط التفسير، وهو يتتبع حول المركز اللعب الحر للدوال والإنتاج ذا الغرض للأبنية، ويتخلى عن الحلم بالأصول والأسس الوهمية ويشطب على الإنسان الأنطو-ديني والإنسانية الميتافيزيقية[18].
إنّ القراءة التفكيكية ليست هي التي تقول ما أراد القول قوله، بل تقل ما لم يقله القول وليس في قولنا طلامس ولا سحر ولا شعوذات ولا لعب على الألفاظ ،والقراءة بهذا المعنى تتيح تجدد القول ،أي قراءة ما لم يقرأه المؤلف، وهذا معنى قول التفكيكيين أن النّص ينطوي على فراغات، لأن النّص في حقيقته كوّن من المتاهات وهكذا يبنى النّص على الغياب والنسيان الأعلى الحضور والتذكر والغياب هو غياب الجسد والدال والحجب هناك يلجأ إليه المؤلف عمدا، لسبب من الأسباب ولكنه أيضا حجب يتم من دون قصد المؤلف، بسبب مضامين أيديولوجية تتسرب إلى النّص، ويقتصر تأثيرها على تغليف الحقيقة بقشرة خارجية أو جعل ما ليس بحقيقي تعلقا من خارج[19].
وهكذا فإنّ التفكيكية تعطي السلطة الحقيقية للقارئ لا للمؤلف كما تركز تركيزاً كبيرا على الكتابة باقتلاع مفاهيم الكلام والصوت وتقتل أحادية الدلالة وتدعو إلى تشتت المعنى بتخليص النّص من القراءة الأحادية وتدعو التفكيكية إلى موت المؤلف وميلاد القارئ وتعتبر النصّ جملة من النصوص السابقة أو إقصاء لنصوص متعددة –التناص.
أما إذا رجعنا إلى الخطاب النقدي العربي المعاصر فإننا نجد بعض الأقلام المتميزة التي اهتمت بهذه القراءة وحاولت تطبيقها على بعض النصوص العربية ومن أبرز هذه الأقلام: عبد الله الغذامي في مؤلفيه "الخطيئة والتكفير" و"من البنيوية إلى التشريحية"، و عبد المالك مرتاض في تطبيقاته على "حمال بغداد: تحليل سيميائي تفكيكي"، و"ألف ياء: دراسة سيميائية تفكيكية لقصيدة أين ليلاي لمحمد العيد آل خليفة، و"تحليل الخطاب السردي: معالجة تفكيكية سردية".
التفكيكية عند العربتجمع جل الكتابات على أنّ القراءة التفكيكية قراءة متضادة، تثبت معنى للنص ثم تنقضه لتقيم آخر على أنقاضه في إطار "إساءة القراءة"، إنّها تسعى إلى إثبات أنّ ما هو هامشي قد يصير مركزيا إذا نظرنا إليه من زاوية مغايرة[20].
لذا رأى عبد العزيز حمودة أنّ التفكيكية "تبحث عن اللَّبِنَة القلقة غير المستقرة، وتحركها حتى ينهار البنيان من أساسه ويعاد تركيبه من جديد. وفي كل عملية هدم وإعادة بناء يتغير مركز النص وتكتسب العناصر المقهورة أهمية جديدة، يحددها – بالطبع – أفق القارئ الجديد. وهكذا يصبح ما هو هامشي مركزيا، وما هو غير جوهري جوهريًا"[21].
هاهنا نستشف أنّ القراءة التفكيكية تهدف إلى إيجاد تصدع وشرخ بين ما يصرح به النّص وما يخفيه أي بين ما يقال ومالم يتم التصريح به.
أمّا التحليل التفكيكي عند عبد المالك مرتاض فيقوم على "تقويض لغة النّص أجزاء أجزاء، وأفكارا أفكارا [...] لتبيّن مركزيّ النّص والاهتداء إلى سر اللعبة فيه، ثم يعاد تطنيبه، أو بناؤه، أو تركيب لغته على ضوء نتائج التقويض"[22].
هاهنا نلفي أنّ التفكيك عند عبد المالك مرتاض يقوم على تفكيك النّص إلى أجزاء وتحليل أدق تفاصيله ليصل القارئ أو الناقد إلى عمق النّص فيهتدي إلى سر البناء فيه.
وتقوم تشريحية عبد اللّه الغدامي، في جوانب أساسية من ممارسته النقدية على ما سماه مبدأ "تفسير الشعر بالشعر" الذي اتخذ منه شعارا نقديًا تصدر عنه قراءاته الشعرية المختلفة، يقوم هذا المبدأ على "إدماج كل قصيدة في سياقها، ولكل قصيدة سياق عام هو مجموعة شفرات جنسها الأدبي، وآخر خاص هو مجموعة إنتاج كاتبها، وهذان سياقان يتدخلان ويتقاطعان بشكل دائم ومستمر"[23].
وعليه فإنّ التشريح يقوم على تفكيك النصوص إلى وحدات، يُعّملُ الناقد أدواته وذلك بتسمية كل وحدة وتحليل النّص الإبداعي إلى أصغر وحداته الجملة.
والجملة الشعرية عند الغذامي هي غير الجملة النحوية، إنها قول أدبي تام ليس له حدٌّ قارٌّ، فقد نجد قصيدة من خمسة أبيات لـدريد بن الصمة تشكل "جملة أدبية واحدة" لدى الغذامي[24] الذي توقف عند بيتها الشهير:
وما أنا إلاّ من غزية إن غوت غويت، وإن ترشد غزية أرشد
فهذا البيت شاهد على العصبية القبلية، ولكن عندما أعاده عبد الله الغذامي لسياقه (جملته) تراءت دلالته مغايرة لما عهدناه، إذ أبان عن قمة الدلالة الديمقراطية.
لعلنا لا نحيد عن جادة الصواب إن قلنا إنه تأويل يكتب النصوص بإعادة قراءتها قراءة "تُقَوِّضُ" المركزية القرائية الأحادية المهيمنة القائمة على فهم سيء وتفسير النصوص ببترها عن جملها الشعرية" سياقاتها" أو ما يسميه الغذامي "ذاكرة النّص".
ويقر الغذامي بان هذا المبدأ التشريحي الذي يصطنعه هو مبدأ توفيقي يقوم على استثمار جملة من المقولات النقدية، ويقوم هذا المبدأ على جملة من المبادئ الجزئية[25].
=1= مبدأ "الاختلاف " أي اختلاف الحاضر عن الغائب، أي أن استحضار الغائب تفيد في تحويل القارئ إلى منتج للنص، وهذا يثري النص بجلب الدلالات لا تحصى إليه، كما تفيد في إيجاد قراء إيجابيين يشعرون بأهمية القراءة.
=2= إعادة قراءة النص، العمل الإبداعي، قراءة تختلف عن القراءات السابقة.
=3= يستثمر الغذامي ضمنيا مفهوم "التناص الداخلي"؛ بما هو تقاطع للنص مع النصوص الأخرى.
=4= يرى الغذامي أن عملية إحضار عناصر الغياب إلى النص هي في حقيقتها محاولة لكتابة تاريخ ذلك النص[26].
=5= إن "تفسير الشعر بالشعر" المناهض لشتى أشكال القراءة الإسقاطية، في احتفائه بالسياق اللغوي الداخلي، يقلّد صنيع بعض المفسرين الذين فسروا القرآن بالقرآن.
ويقر الغذامي صراحة بأن تشريحيته تختلف عن تفكيكية دريدا "تلك التي تقوم على محاولة نقض منطق العمل المدروس من خلال نصوصه، وأنا لم أعمد إليها هنا لأنها لا تنفعني"[27]. ولكنها أقرب إلى تفكيكية (بارت) القائمة على تشريح النص من أجل إعادة بنائه، وهذا ما يجعل المؤلف يسمو بنصه إلى التداخل معه.
إن كل ما ذكر آنفا يدل على أن القراءة هي عملية تشريح للنص، وكل تشريح هو محاولة استكشاف جديد للنص الإبداعي ولذلك تعطى هذه القراءات سيلا من الدلالات.
نقد التفكيكية:إنّ التفكيكية اعتبرت الخطاب بنية متعالية على الجملة، فكشف بذلك عن إرادة القوة (نيتشه) آو الإرادة (هيدجر) التي تقبع داخل كل نسيج خطابي، وهي نقطة أثارتها مدرسة فرانكفورت وبلورها أدورنو بصفة خاصة.
والتفكيكية شأنها شأن كل نص فلسفي لا تخلو من بعض التناقضات والمآزق، وهذا شيء طبيعي فهي تعبر عن لحظة تاريخية وتقدم أجوبة معينة لأسئلة تطرحها المجتمعات الغربية بحدة في القرن العشرين[28].
إنّ دريدا وأتباعه يعتقدون أن كل النصوص عرضة للتناقض والاستحالة الدلالية إنهم يعيدون إنتاج الأفق الهيغلي بطريقة غير مباشرة وبدون وعي كما لاحظ بعض النقاد والمفكرين أن النسق الفلسفي التفكيكي يفتقر إلى البعد السوسيولوجي التاريخي.
هكذا استطاعت النظرية التفكيكية التي ارسي دعائمها دريدا، أن تؤكد حقيقة نقدية لا يمكن تجاهلها، وهي إن اللغة أبعد ما تكون عن التعبير الموضوعي الشفاف، ولذلك يجب تناولها بقدر كبير من التشكّك وعدم اليقين، فاللغة بجميع أنواعها، هي لغة استعارية تعتمد في عملية التوصيل على إحداث تأثير أو تكوين صورة، وذلك لعجزها عن نقل الواقع أو الأفكار نقلا موضوعيا، ومن هنا كان التشكّك النقدي الذي تمارسه التفكيكية في دقّة المعاني المباشرة للّغة[29].
إذن التفكيكية هي قراءة لنصوص، قراءة تستبعد تأويل الأعمال الفنية. إنّ الانتقال من العمل إلى النص هو كما بين بارت ليس تحوّلا من الهرمنوطيقا إلى السيميولوجيا فقط بل، هو أيضا انتقال من جزء ماديّ إلى حقل منهاجيّ[30].
نقد بورديو لدريدا:يعد بورديو أبا لعلم الاجتماع المعاصر في فرنسا، بفضل مرجعيته السوسيولوجية التي يستحيل على علماء الاجتماع تخطيها. ويأخذ بورديو على دريدا فصله لنسقه الفلسفي عن العلوم الإنسانية وعن المؤسسات المجتمعية ،متهما إياه بالمثالية والهروب من الواقع السوسيولوجي والمؤسساتي، فدريدا يعيد إنتاج الفلسفة المثالية الكانطية (بطريقة غير مباشرة).
يعتقد بورديو أن التفكيكية أتت بأجوبة فلسفية لازمة ثقافية وإنسانية وحضارية كما أن دورها التاريخي دور نخبوي لم يتجدر في الديناميكية الاجتماعية[31].
نقد التفكيك:التفكيكية منهج نقدي خطير لأنها نقد وتفكيك للمفاهيم السائدة قامت على التشكيك وزعزعة كل يقين.
= انطلقت التفكيكية من التشكيك في العلم ثم تحوّل إلى شك في كل شيء.
= شككّت التفكيكية في العلاقة القائمة بين الدال والمدلول والمعنى المتولد عنهما وهذا ما لا يقبله المنطق[32].
= إنّ شك التفكيكية في اللغة نتج عنها شك في كل قراءة أو تأويل للنصوص، وهكذا فتحت التفكيكية الباب على مصراعيه لتعدد القراءات.
= تعسف التفكيك في الاحتكام إلى اللغة، وإقصائها الملابسات الخارجية جميعها.
= إلغاء المؤلف والحكم عليه بالموت، وبهذا يصبح المؤلف ناسخا فقط لنصوص أدبية وتجاهل لمواهب الأدباء وفرديتهم وتميّزهم[33].
= تركيز التفكيك على الكتابة ونفيه للأشكال الأخرى للتواصل.
= غموض التفكيك واستخدامه لمصطلحات غير واضحة سعيا لإبهار القارئ وإقناعه بأن ما يقال استثنائي وغير عادي[34].
بعد ما كان النص الأدبي مغلقا لا أفق له في الدراسات السياقية حيث كان مرتبط حينا بصاحبه وبمحيطه (الاجتماعي والسياسي) أحيانا أخرى، فغدا وثيقة تاريخية تبررها مواقف وأفعال، وهّمش القارئ، وكان مجرد مستهلك متلق لا ينتظر منه أي رد فعل مهما كانت قيمته وشكله.
ولكن ما إن حدثت الخلخلة في النظام الابستيمولوجي الذي حرك المناهج السياقية ووجهها، عادت للقارئ سلطته التي فقدها فصار أكثر قدرة على استنطاق النص وفك شفراته من خلال إعادة تركيبه وفق ما يرتضيه هو أو ما يمنحه النّص من إمكانيات فعل ذلك[35].
من ها هنا فتحت المقاربات النسقية للنص الأدبي أفاقا رحبة لفعل القراءة عندما منحتها سلطة تتجاوز إلى حد بعيد الصفة الاستهلاكية[36].
إذن ما نخلص إليه من خلال هذه الدراسة هو أنّه إذا كانت المناهج السياقية قد حامت حول النّص الأدبي، فإنّ المناهج النّسقية قد ولجت عالم النّص ولم تر فيه إلاّ شكلا لغويا جماليا، ولم تعد تعيرُ اهتمامها بما يقدمه النّص ولا عن دوره في المجتمع.
إنّ للدرس الحديث دورا في تأسيس لمنهج نقدي معاصر يسعى لإلغاء السياق وتبني الطرح النسقي المحايث الذي يسعى إلى مقاربة نقدية مبنية على مقاربة النّص الأدبي لذاته وبذاته. لكن سرعان ما وقع هذا الطرح في مأزق النّص البنيوي المغلق، فعمل الخطاب النقدي جاهدًا من أجل تأسيس لمقولة أخرى تعمل من أجل تبني "الداخل والخارج" في الممارسة النقدية وجعل الخطاب الأدبي هو الوثيقة الأساسية التي تسعى المقاربة النقدية لقراءتها فتلمس علاماتها الدلالية من خلال المستويات الأساسية التي يؤسس عليها الخطاب الأدبي.
وهذا ما يؤكد أن الخطاب النقدي المعاصر يعمل دائما من أجل الكشف والاستكشاف وذلك لتجديد أدواته الإجرائية ومفاهيمه ورؤاه، حتى يبقي على دم التجديد يسري في عروقه.
= = = = =
الهوامش[1] وليد، قصاب: مناهج النقد الأدبي الحديث، المرجع السابق ،ص:182.
[2] حوار مع جاك، دريدا، كريستيان، ديكان: مجلة الفكر العربي المعاصر، العددان 18-19 (1982)، ص:254 عن عبد الله، إبراهيم، وآخرون ،معرفة الآخر، مدخل إلى المناهج النقدية الحديثة، ص:114.
[3] إبراهيم محمود، خليل: النقد الأدبي الحديث من المحاكاة إلى التفكيك، دار الميسرة، ط1،2003،ص:110.
[4] محمد، شبل ،الكومي: تقديم: محمد، عناني: المذاهب النقدية الحديثة مدخل فلسفي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2004، ص:315.
[5] ميجان، الرويلي، وسعد، البازغي: دليل الناقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، ط3، 2002، ص109.
[6] صلاح، فضل: مناهج النقد المعاصر، ص:130.
[7] نفسه، ص:131.
[8] نفسه، ص:131.
[9] عبد الله، إبراهيم وآخرون: المرجع السابق، ص:121.
[10]علوش، سعيد: معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة، بيروت، الدار البيضاء، دار الكتاب اللبناني، 1985، ص86.
[11] عبد الله، إبراهيم، وآخرون: المرجع السابق، ص:125.
[12] المرجع نفسه، ص، ص: 127،128.
[13] نفسه، ص، ص:129،130.
[14] نفسه،ص:131.
[15] جاك، دريدا: مقابلة أجراها، كاظم، جهاد: مجلة الكرمل، عدد،17 ،ص:59 ،عن عبد الكريم ،درويش: فاعلية القارئ في إنتاج النّص، المرايا اللامتناهية، مجلة الكرمل، 2010،ص:209.
[16] محمد، شبل الكومي: تقديم محمد، عناني: المذاهب النقدية الحديثة مدخل فلسفي،ص:318.
[17] محمد شبل، الكومي المرجع نفسه، ص:318.
[18] المرجع نفسه، ص:319.
[19] عبد الكريم، درويش: فاعلية القارئ في إنتاج النّص المرايا اللامتناهية، مجلة الكرمل، 24/04/2010 ص:221.
[20] يوسف، وغليسي: مناهج النقد الأدبي، جسور للنشر والتوزيع، الطبعة الثالثة، أكتوبر 2010، ص:190.
[21] عبد العزيز، حمودة: المرايا المحدبة، ص:388، عن يوسف، وغليسي: المرجع نفسه، ص:191.
[22] عبد المالك ،مرتاض: مدخل في قراءة الحداثة، ص:13، عن يوسف، وغليسي، المرجع نفسه، ص:191
[23] عبد الله، الغدامي: الخطيئة والتكفير، ص:84، عن يوسف، وغليسي، المرجع نفسه، ص، ص: 192،193.
[24] المرجع نفسه، ص:193.
[25] يوسف، وغليسي: المرجع السابق، ص:194.
[26] الخطيئة والتكفير ،ص:84 ،عن يوسف، و غليسي: ص:194.
[27] المرجع نفسه، ص:195.
[28] الطيب، بودربالة: قراءة في كتاب بيار زيما، "التفكيكية دراسة نقدية"، ملتقى الخطاب النقدي العربي المعاصر قضاياه واتجاهاته، المنعقد بالمركز الجامعي، خنشلة، يومي 22،23،مارس، 2004 ،ص:211.
[29] محمد شبل، الكومي: المرجع السابق، ص:320.
[30] انظر: في هذا المقام: ج. هيوسلقرمان: ترجمة: حسن، ناظم، وعلي حاكم، صالح: نصيّات بين لهيرمنيوطيقا والتفكيكية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط1،2002، ص:44.
[31] الطيب، بودربالة: المرجع السابق، ص، ص: 119،220.
[32] وليد، قصاب: مناهج النقد الأدبي الحديث، ص: 201.
[33] وليد، قصاب: المرجع السابق، ص:211.
[34] النقد الأدبي الحديث، إبراهيم، محمد، خليل، ص: 116.عن وليد، قصاب: المرجع نفسه، ص:211.
[35] منصور، عبدالوهاب: القراءة من موت المؤلف إلى ميلاد القارئ، عن مجلة النقد والدراسات الأدبية واللغوية، دورية محكمة يصدرها فريق البحث لمخبر الدراسات الأدبية والنقدية واللسانية، جامعة سيدي بلعباس، العدد الأول، 1426، 2005 مكتبة الرشاد للطباعة والنشر والتوزيع ،الجزائر، ص:71.
[36] منصور، عبد الوهاب، المرجع نفسه، ص:71.
الثلاثاء أغسطس 11, 2015 5:47 pm من طرف بن عبد الله