سعيد بنيس
إن سؤال الحراك الاجتماعي في ظل ما أطلق عليه الربيع العربي وإشكالية مقاربته العلمية تطرح تحدي حرية الهامش المعرفي والمفاهيمي للإلمام بشكل موضوعي بطبيعة الحراك ونوعيته وجدلية وقوعه في زمن حاضر قريب يطرح تحدي إشكال مقاربة الحاضر المتحرك ومخاطر السقوط في التحليلات الآنية للظواهر في إبان انطلاقها وحاضريتها (présentisme) التي تغرف من تموجات وتغيرات وتحولات المسارات دون اخذ المسافة الموضوعية والتاريخية لتحليل الظاهرة في عمقها ومن جميع الزوايا. تلتقي الدراسات المقترحة في هذا العدد في تحليلها للحالة المغربية من زاوية الربيع العربي عبر الخوض في مقاربة متعددة التوجهات تنطلق من مسائلة الأنساق المفاهيمية التي انبثقت عن حراك الشارع و أصبحت عنوانها الأبرز مثل مفهوم الحكرة وعن علاقة المجتمع المدني بمقولات الاحتجاج والحجاج ودورالقيم والمتغيرات الاجتماعية و التحولات الثقافية في إذكاء السلوكات الاحتجاجية والسياسية.
في هذا السياق، تتناول ورقة سعيد بنيس الأنساق المفاهيمية الجديدة في ارتباطها بالمجتمع المدني عبر رصد طبيعة المفاهيم موضوع البحث لاسيما مفهوم الحكرة والكشف عن الإرهاصات الأولية لظهور المفهوم في خضم الحراك الاجتماعي بالمغرب (منع بعض الجرائد الجهوية والشعارات المرفوعة من طرف حركة 20 فبراير، ... ) وإبراز تجلياته العامة وحضوره في الاحتجاجات والمواقع الافتراضية وتضمينه لحقول مطلبية عدة منها اللغوي والثقافي و الهوياتي و الشخصي و الفردي وحقل العدالة الاجتماعية و التهميش الترابي و المحلي و العلاقة مع الدولة و حقل حقوق الإنسان. في المقابل تقترح الورقة منهجية تتقاطع فيها التخصصات : اللسانيات الاجتماعية والسوسيولجيا الانتربولوجيا. ترتكز هذه المنهجية على مقاربة النسق المفاهيمي ضمن إطار كيفي يمكن من فهم وتحليل التمثلات والسلوكيات من خلال توطين مفهوم الحكرة و استحضار نوعية المتن والصيرورة التي تتولد عن حراك المجتمع المدني وتتبع أجندات وقفاته ومسيراته و مواقعه ومنتدياته الافتراضية.
تتمحور ورقة محمد نعيمي حول علاقة الربيع العربي بالحالة المغربية من خلال تفاعلات الحركات الاحتجاجية لاسيما حركة 20 فبراير مع مقولات التغيير السياسي و الديمقراطية والكرامة و العدالة الاجتماعية. تظهر الدراسة أن الأحزاب السياسية لم تعد هي الفاعل الوحيد الذي بإمكانه أن ينعش الحقل السياسي بنقاشاته وصراعاته، إذ مع بداية ظهور البشائر الأولى للربيع العربي في كل من تونس و مصر، برزت الحركات الاجتماعية و الاحتجاجية بقوة و أصبحت تشارك في الحياة السياسية بوسائل غير تقليدية و أكثر نجاعة. يكمن رهان هذه الدراسة في تبيان أشكال العمل الجماعي الاحتجاجي التي انتهجتها حركة 20 فبراير طيلة سنتي 2011 و 2012 بالمغرب، مع التركيز على نشأتها ومسارها. فحركة 20 فبراير بترافعها في المجال العمومي من أجل الديمقراطية والكرامة والعدالة الاجتماعية ، و بقيامها بتعبئة شاملة غير مسبوقة ، قد تمكنت من خلق دينامية اجتماعية و سياسية. كما أنها ساهمت و بشكل كبير في فتح نقاش عمومي سواء على أرض الواقع أو على مستوى الصحافة الالكترونية و الشبكات الاجتماعية. وبعيدا عن المسيرات المليونية التي عرفتها الميادين التونسية والمصرية ، تقر الدراسة اعتمادا على معطيات البحث الميداني وتتبع عمل التنسيقيات أن حركة 20 فبراير قد استطاعت أن تعبئ شرائح عريضة من السكان في أكثر من مائة موقع شملت جميع مناطق المغرب. وبالتالي تخلص الدراسة إلى أنه بسبب "الأزمة" التي تعاني منها الأحزاب السياسية في المغرب ، فإن حركة 20 فبراير و الحركات الاحتجاجية الأخرى ومنظمات المجتمع المدني ، مدعوة للقيام بأدوار طلائعية في سيرورة الترابط الجدلي بين تنمية حقيقية وعادلة و دمقرطة تشمل المجتمع و الدولة على حد سواء .
تهدف ورقة محمد بوعزي إلى تحليل العلاقة الجدلية بين أطياف المجتمع المدني ومنظومة الأخلاق و القيم في ارتباطها بالفضاء العمومي من خلال مقولات الاحتجاج و المواطنة و السلم المدني. تروم الدراسة الكشف عن بعض المعطيات حول الوضع الراهن للفضاء العمومي بالمغرب، ويتعلق الأمر بكفايات الحجاج والاستدلال السياسي لدى نشطاء المجتمع المدني وكذا القيم و المواقف التي توجههم. وهي تمتح أسسها العلمية من الفلسفة السياسية وفلسفة الأخلاق والسيكولوجيا و السوسيولوجيا قصد فهم رهان السياسي بالمغرب باعتباره تفاعلا اجتماعيا. كما تحاول الورقة الإجابة على بعض التساؤلات من قبيل طبيعة العلاقة بين المعرفي والوجداني ونوعية ارتباط الشعور بالمواطنة وحالة السلم المدني والمحفزات الذاتية والموضوعية للفاعل السياسي على المشاركة السياسية. تم تناول هذه التساؤلات من إطار منهجي ارتكز على بحث ميداني شمل 114 مستجوبا من خلال مقياس روكش والفهم السيكولوجي للفضاء العمومي لهبرماس وبناء نموذج نظري لتحديد المفاهيم وتأويل العلاقة بين الأخلاق والقيم حيث المتغير المستقل هو كفاية الحجاج و الاستدلال السياسي . أما المتغيرات التابعة فهي المميزات السوسيوديمغرافية والحالة العاطفية و القيم و التوجهات السياسية لدى نشطاء المجتمع المدني. وركزت فرضية البحث على أن هناك ترابط بين البعد المعرفي والبعد العاطفي وأن منظومة القيم لدى نشطاء المجتمع المدني بالمغرب تتغير حسب مراحل النمو الأخلاقي.
تحاول ورقة بن أحمد حوكا رصد الملامح السوسيوديموغرافية و الثقافية والنفسية والسياسية لناشطي حركة 20 فبراير في ارتباطها بالوضع السوسيو اقتصادي الذاتي وقيم ما بعد-المادية وقيم التعبير عن الذات والقيم التقليدية من خلال تحليل كمي يهدف الى الإلمام بكفاية الاستدلال السياسي و الحرمان النسبي و درجات عقدة التسلط و تمظهرات الدافعية للإنجاز و السلوك الاحتجاجي. ترمي الورقة إلى إعادة الاشتغال من وجهة نظر مغايرة، على السؤال الأصلي الذي طرحته دوائر المعرفة إبان انبثاق احتجاجات حركة 20 فبراير، وهو السؤال المتعلق بهوية الناشطين الذين كانوا وراء احتدام المظاهرات المطالبة بالتغيير. فمن خلال توضيع سجلات القيم لما يزيد عن خمسمائة ناشط و اتجاهاتهم النفسية- السياسية المرتبطة بمواقفهم تجاه السلطة و درجة نمو كفاية الاستدلال السياسي لديهم و اشتداد مشاعر الحرمان النسبي في أوساطهم، لا تتوقف الدراسة عند حدود البحث الاستكشافي، و لكنها تبحث أيضا في جرد العوامل المتحكمة في إنتاج السلوك الاحتجاجي و ذلك من خلال استعمال أسلوب الانحدار المتعدد. ومن النتائج البارزة للدراسة ضلوع نوع معين من القيم ما بعد-الحداثية و تفكك بنيات الشخصية السلطوية في إذكاء الاحتجاج إضافة إلى بعض المتغيرات السوسيوديمغرافية.
تشكل آخر ورقة المقترحة من طرف حسن دنان محاولة لكشف علاقة العوامل الثقافية والمتغيرات الشخصية و السوسيوديمغرافية بالمواقف والسلوكات السياسية لدى ساكنة إقليم بولمان من خلال تجريب ترسانة من المفاهيم والمقولات من قبيل مؤشر ما بعد المادية و مؤشر الاستقلالية الفردية و قيم البقاء و تأكيد الذات و قيم التطلع للحرية والقيم الأبوية وقيم الفردانية و الفعالية السياسية و إرادة الفعل السياسي. وتكمن أهمية هذا النوع من الدراسات في السماح، من جهة، بدراسة السياسة من منظور رجل الشارع الذي لا هوية له والذي يشكل جمعه الجماهير، ومن جهة أخرى بإعادة التمرين على سلسلة من أدوات قياس القيم. ترتكز الدراسة على مقاربة نظرية تندرج في الإطار العام لما يطلق عليه بالفردانية المنهجية. أجريت الدراسة على عينة تمثيلية، شملت مختلف المجالات الحضرية والقروية لإقليم بولمان، وكذا مختلف الشرائح الاجتماعية، وقد بلغ عدد أفرادها 551. ولقد اقتضت طبيعة مجتمع الدراسة وحجمه اللجوء إلى أسلوب العينة الحصصية ، حيث تم تصميم العينة وسحبها على قاعدة التحصيص، انطلاقا من تقسيم مجتمع الدراسة الأصلي إلى فئات وشرائح حسب السن والجنس وذلك بناء على نتائج الإحصاء العام للسكان والسكنى لعام 2004. وقد تم توظيف مختلف التقنيات التي تستعمل عادة للكشف عن القيم التي تقف خلف المواقف والسلوكات والتي يتعذر الوصول إليها من خلال معالجة كل بند من البنود على حدة؛ يتعلق الأمر هنا بتقنيات التحليل العاملي للمكونات الأساسية ، كما استخدم أسلوب تحليل الانحدار المتعدد لبيان العلاقات بين المتغيرات وتأثير بعضها في بعض، وأسلوب التباين الأحادي لبيان مدى جوهرية الفروق بين الفئات.
تقديم ملف العدد في مجلة " أبحاث " العدد 61 -62 السنة 2015 مطبعة النجاح الجديدة – الدار البيضاء