05 ديسمبر 2013 بقلم
موسى برهومة قسم:
الدين وقضايا المجتمع الراهنة حجم الخط
-18
+ للنشر:بعد أن حطم متطرفو طالبان تمثال بوذا، وراح متطرفو مالي يهدمون معابد الأولياء والنسّاك، ها هم أعضاء "حلف التطرف الديني" ينقضون بمعاول حقدهم وعمائهم على تمثال شاعر رصد حياته، لتأمل الحياة والكون والوجود، وأهدى البشرية عصارة روحه، وجمال مخياله.
فهل كان أبو العلاء المعري يحدس بلحظة تأتي بعد زهاء ألف عام على رحيله يصدق فيها قوله: "إثنان أهل الأرض: ذو عقل بلا دين، وآخر دين لا عقل له"؟
وهل كان يتوقع أن رأسه سيتدحرج من على النصب التذكاري في مسقطه بمعرة النعمان في محافظة إدلب السورية على يد جماعات متطرفة لا عقل لها ولا دين؟
لقد أضحى "رهين المحبسين" رهينَ محبس ثالث أشد بلاءً هو التطرف بأقانيمه المختلفة التي يعد العنف الديني أكثر أشكالها بغضاً وتنفيراً من الدين، أو من التعبير الديني والسلوك الديني على وجه التعيين.
إنها حرب القبح على الفن والثقافة، بذريعة الدين. كأن الرسالة المتوارية من وراء ذلك أن الدين الإسلامي عدو للجمال والإبداع، وهو أمر لا شك أن الدين منه براء؛ فالعصر الذي عاش فيه المعري كان عصر الثقافة العربية الذهبي، وفيه ازدهرت الفنون، وانتعشت الترجمة، وشيّدت القصور والتماثيل والصروح، وفجّر العقل العربي الإسلامي أبهى مكنوناته، وزها بأرقى تعبيراته.
عصر المعري كان عصرَ التنوير بامتياز، وكذلك عصر التسامح الذي كان يتقبّل أشعاراً كتبها، هي في مقياس الراهن خروج عن نواميس الدين كما يتخيله وكلاء الفتاوى الفقهية الذي جعلوا الحياة معلقة بين قطبيْ الحلال والحرام، حتى شمل الدين الحياة برمتها، وغمرها بالتهديد والوعيد والإباحة والاستحسان والحظر. صار الدين هو الحياة، وأضحت الحياة معطى دينياً.
كلاهما، وكلاء الفتاوى الدينية، والجماعات الدينية المتطرفة يختطفون الإسلام، ويقدمونه على نحو منفّر، ولا يقترحون أي تعبير حضاري لروح الدين بما هو منظومة سامية تنظّم العلاقة بين الكائن وخالقه، أو بين الأرض والسماء.
الفريق الأول؛ وكلاء الفتاوى الدينية باعتمادهم على طاقة التأويل السلبية يتعاملون مع النص الديني بوصفه قماشة يفصّلون منها ما شاءوا من ثياب، يساعدهم في ذلك سيولة لا متناهية من ميراث الأسلاف الذين قدموا تصورات قارة لعلاقة الإنسان بالكون والوجود والمتعالي.
وعلى فتات هؤلاء، يقتات الفريق الثاني؛ أنصار الجماعات الدينية الذين لا يرون العالم بكل تناقضاته وتركيباته إلا من زاوية الفسطاطيْن المعروفين: الخير والشر، أو دار الدنيا، ودار الآخرة، فتراهم لا يأبهون بالدار الأولى، ولا يسعون إلى بنائها، بل يندغمون في الولاء للدار الآخرة عبر تقويض منجز الحضارة، وإزهاق روح الإنسان، وتبديد طمأنينته، وتجفيف منابع سلواه. إن إعمار الآخرة، في نظر هؤلاء، لا يقوم إلا على هدم الدنيا وخنق هوائها، وإزهاق نبضها.
ولو أن شاعرنا العظيم المعري شاهد بعين قلبه رأسه يتدحرج، لعاد وأنشد بكل ما فيه من تعفف وكآبة:
"واللبيبُ اللبيبُ من ليس يغترُّ بكونٍ مصيره للفساد
تعبٌ كلّها الحياة فما أعجـب إلاّ من راغبٍ في ازدياد"!
وغير بعيد عن معرة النعمان، رقص أتباع جماعة "أنصار الدين" في "تمبكتو" بمالي على أنقاض الأضرحة التي ندّ هدمها عن روح انتقامية متأصلة.
كان ثمة رسالة ثاوية في ذلك الفعل، مفادها أن الفكرة الخلاصية التي تبشّر بها الجماعة الدينية الثورية ما تزال أسيرة الإكراه الإيديولوجي الذي لا يضيره لو انتسب إلى أزمنة الماضي السحيق، أو هزيء بمنجزات الحضارة التاريخية، أو تصادم مع الوجدان الديني الذي كان يتخذ من تلك الأضرحة وسيلة لإشباع الروح بالرضى العزيز المنال.
ذريعة الجماعة في هذا الفعل، الذي قوبل بصدمة شعبية واسعة في مالي، أن هذه الأضرحة التي تضم رفات النساك والمتصوفة الزاهدين، هي أمكنة للشرك، وهنا تضع الجماعة الدينية نفسها مكان الشريعة، وهنا بالتحديد يكمن مأزق الجماعة ومثيلاتها ممن تزعم احتكار المعنى الديني، والنطق بلسان السماء.
إن سطوة الفكرة هاهنا والرافلة في زعم المقدس، أشدُ تأثيراً من اعتبارات الحضارة والتراث الإنساني، وأيضاً من نداءات شخصيات دينية معتدلة تمثل مرجعاً في الإفتاء، وتمثل مؤسسات دينية ذات حضور ديني كثيف يحظى بإجماع.
ويستبطن سلوك هذه الجماعات الدينية التي توصف بـ"المتطرفة" نزعة، تجد في النص القرآني دلائل تسندها، ومن بينها آية السيف: "فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ، وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ" (التوبة 9: 5)، رغم أن هذه من الآيات المنسوخة في القرآن، إلا أن الجماعات الدينية التي تستأثر بالصواب ما تزال تتخذ من تلك النصوص الدينية ذريعة لإيقاظ ما هجع في العقل الإنساني من عنف وتوحش.
هذه الجماعات تغض الطرف عن آيات قرآنية تحض على التسامح والصفح، وهي كثيرة من مثل ما ورد في سورة النساء (4: 63): "فأَعرِضْ عنهم وعِظْهُم" أو "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ" (البقرة: 256).
وفي غضّ هذه الجماعات الطرف عن رؤية الحقيقة الدينية، في وسطيتها وتعايشها مع الحداثة والتمدن والمنجز الحضاري، رغبةٌ بإدخال الدين في الزمن الخوارجيّ، إذ يغدو الإسلام، وفق تلك الرغبة، حاثّاً على قتل المخالفين وتعقبهم وترصدهم، ومنصة لتفريغ الأحقاد الدينية والطبقية والعنصرية، وأداة للثورة على السائد، بما تضمره هذه الثورة من تصادم مع المعتقدات الشعبية الراسخة في الوجدان، ومن تدمير للمنجز الروحي، ومن اعتداء على الحرية الإنسانية بدعاوى الحرص على الفضيلة، وإلزام الإناث، سيدات كنّ أم فتيات قاصرات، بارتداء ما تعتقد تلك الجماعات أنه الزي الشرعي.
هذا الإكراه الذي تمارسه الجماعة الدينية ينزع عنها الشرعية بالمعنى الفقهي والاجتماعي؛ فتغدو بلا رصيد أهلي، ولا عمق وجداني، وتصير شعاراتها ذريعة للتندّر، حتى لو تلطت بأكثر العبارات الثورية الحماسية بريقاً وإغواءً؛ ففي اللحظة التي تختنق فيها الحرية، بمختلف وجوهها وتعبيراتها، لا يكون للشعار أي معنى، حتى لو اكتسى أشدَّ المعاني قداسة!