[rtl]حدود ومحدودية السجال الإيديولوجي[/rtl]
[rtl]قراءة في "نقد الفكر اليومي" لمهدي عامل[/rtl]
[rtl]كمال عبد اللطيف[/rtl]
[rtl]استهلال[/rtl]
[rtl]اسمحوا لي في البداية، أن أعبر عن اعتزازي الكبير، بمشاركتي في هذا اللقاء الرمزي، الذي لا أتحرج في أن أطلق عليه، لقاء الاحتفاء بالفكر المستقبلي، في الثقافة العربية المعاصرة(*).[/rtl] [rtl]إن قراءة آثار مهدي عامل، في إطار الأوضاع العربية الراهنة، وبمناسبة ذكرى محددة، تشير إلى مرور عقد من الزمان، على امتداد يد الظلام إليه، يبعث في النفس العزة والأمل، والوفاء والتفاؤل، والثقة في التاريخ. وهي كلها قيم كان مهدي عامل يؤمن بها، وقد عمل طيلة حياته القصيرة، على الاسترشاد بها، فيما أنجز من أعمال، وترك من آثار. ونحن نجتمع اليوم لنقرأ آثاره، في ضوء أسئلة حاضرنا بمختلف مستجداته، نشعر بكثير من القرب منه، ومن سيرته الفكرية المكافحة، ومسيرة حياته المناضلة. فقد استطاع المواءمة بين المثقف والمناضل، وقدم من خلال تجربته في الفكر وفي الحياة، نموذجاً فريداً، يحق لنا في مثل هذه المناسبة، أن نراجعه، أن نعيد التفكير فيه، أن ننتقده، أن نستعين به ونحن نواجه معارك الحاضر، ونتطلع إلى المستقبل. إننا بهذا العمل نحتضن شجرته اليانعة والمثمرة، نسقيها بما يهب جذورها مزيداً من الامتداد في الماضي، والاستطالة في الأعالي، ليظل بيننا مهدي، في نص من نصوصنا، وفي سؤال من أسئلتنا، وفي خلاصة أولية يستقر عليها الرأي، ليطالها السؤال بعد حين، فنكشف محدوديتها، ونعيد التفكير فيها، بجدلية لا تتوقف، جدلية قادرة على خلخلة سواكن ثقافتنا وتحريكها، في أفق التغير والتغيير، لبناء فكر مطابق لطموحاتنا التاريخية الكبرى. لنستعر هنا جملة لمهدي عامل يقول فيها:[/rtl]
[rtl]"فليدخل الفكر المناضل في صراع، يستحث الخطى في طريق الضرورة الضاحكة".1[1]قلت لنردد معاً هذه الجملة، ونحن نتحدث معه عن الضرورة الضاحكة، أو الضرورة المغتبطة، تعبيراً عن تفاؤلنا التاريخي، واعتزازاً بالأثر الذي بلورته تجربته في النضال، من أجل توطين الماركسية، في الفكر العربي المعاصر.[/rtl] [rtl]بعد هذا الاستهلال التحية، أعود إلى الموضوع الذي اقترح علي من طرف اللجنة التحضيرية للندوة، أقصد بذلك قراءة كتاب "نقد الفكر اليومي" لمهدي عامل.[/rtl]
[rtl]رغم تحفظي في البداية، على إنجاز هذا العمل بالذات، ورغبتي بالمشاركة إما بعرض عام حول الماركسية العربية، في وجه من أوجهها المتعددة، وذلك بحكم اهتمامي بالموضوع، ومعاينتي لنصوص بعض ممثلي هذا الفكر، في الثقافة العربية المعاصرة. أو تقديم ورقة حول جهود مهدي عامل، في تجديد الماركسية العربية، من خلال قراءة مصنفاته الأخرى، في مجال البناء النظري. أقصد بذلك مصنفاته: "في التناقض"، "في نمط الإنتاج الكولونيالي"، وفي "المسألة الطائفية". إلاّ أن إلحاح الأخ كريم مروة باسم اللجنة التحضيرية للندوة على موضوع "نقد الفكر اليومي"، بناء على المخطط العام للندوة، شجعني على قبول المغامرة، فقرأت النص أولاً، وأعدت قراءة فصول من أعماله الأخرى، ثم أعدت قراءة النص ثانية، وأثمرت القراءة هذه المحاولة التي تتجه للامساك بخيط محدد داخل مساحة النقد، في هذا الكتاب. يتعلق الأمر بالسقف النظري للسجال في النص، حدوده ومحدوديته.[/rtl]
[rtl]النص المبتور، النص المفتوح: نحو إعادة ترتيب محتوى النص[/rtl]
[rtl]عندما نقسم كتابات مهدي عامل، إلى الكتابات النظرية الرامية إلى المساهمة في تأسيس مجال النظر الماركسي، في الفكر العربي المعاصر، والكتابات السجالية المتجهة لمحاصرة تيارات معينة، في الفكر العربي، بهدف دعم وتعزيز الفلسفة المادية والتاريخية داخل هذا الفكر، ندرج كتاب "في التناقض" و "حول نمط الإنتاج الكولونيالي" و"في المسألة الطائفية" ضمن الخانة الأولى، رغم أشكال الاختلاف والتنوع القائمة بين هذه المصنفات. ونحن نعتبر كتابه "أزمة الحضارة العربية، أم أزمة البرجوازية العربية"، وكتاب "هل القلب للشرق والعقل للغرب، ماركس في استشراق ادوارد سعيد" و"نقد الفكر اليومي" ضمن الخانة الثانية2،[2]وهذا الكتاب الأخير بكل المعايير، هو جزء ثان للنقد الذي بلوره المصنف الذي انتقد فيه الباحث، ندوة الكويت الشهيرة، »أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي«.[/rtl] [rtl]ما يميز "نقد الفكر اليومي"، عن نقد المؤلف لندوة الكويت الآنفة الذكر، هو أن كتاب "نقد الفكر اليومي" لم ينشر من طرف المؤلف، ولم يقم مهدي بتحرير مقدمته الكاشفة، ولا بترتيب فصوله، ووضع خلاصاته الجامعة، حيث يعود الفضل في نشره بالصورة التي هو عليها، إلى لجنة نشر تراث مهدي عامل، التي بذلت جهداً يستشعره كل من يقرأ النص بترو، حيث يكتشف العناية الكبيرة بترتيب الموضوعات وتقسيمها وعنونتها، إضافة إلى المقدمة الوافية، التي صاغت فيها اللجنة حيثيات الجمع والتنظيم ثم الترتيب والنشر.[/rtl]
[rtl]لهذا النص ظاهر معين في فصوله، وفي ترتيبها، ومعين كذلك في عدم اكتمال جزئه الأخير، حيث يدشن الكاتب أسئلة أخرى، ومجالات أخرى للسؤال والمساجلة. وهو مقسم إلى خمسة أقسام، مبوبة بالتتابع الآتي: ملاحظات أولى، في الفكر العدمي، الفكر الظلامي، الفكر البرجوازي المتأسلم، في عدم وجود نمط معَيّن للإنتاج الإسلامي.[/rtl]
[rtl]لكن هذه الفصول، في تتابعها وفي تقسيماتها وتفاصيلها، تندرج ضمن رؤية محددة، في المقاربة والمعالجة، وهي تتخذ نمطاً بعينه في الكتابة، يمكن أن نطلق عليه بناء على توصيفنا الأول لآثار مهدي عامل، النمط السجالي في الكتابة.[/rtl]
[rtl]نستطيع النظر إلى محتوى الكتاب، خارج التدقيقات التي رَتَّب في إطارها جامعو وناشرو النص، فهو نقد لمختلف تجليات الثقافة العربية المعاصرة غير الماركسية، نقد لبعض مظاهر الفكر الليبرالي والفكر السلفي، وفكر النزعات الإسلامية، وتيارات الإسلام السياسي، وبعض مظاهر وتجليات الثقافة العربية، المنفتحة على آليات القراءة السياسية غير المتحزبة، والقراءات التاريخية لبعض جوانب ومجالات التراث الإسلامي، إلى غير ذلك من النصوص والمقالات والمحاولات والكتب، التي سعى مهدي لمحاصرتها بمبضع التحليل والنقد، واعتماداً على جملة من المبادىء والقواعد والأوليات، المستمدة أولاً وقبل كل شيء، من قراءة محددة للفلسفة الماركسية.[/rtl]
[rtl]وقد لا نجانب الصواب، إذا ما قلنا إن "نقد الفكر اليومي"، يبلور جهداً ماركسياً في نقد بعض أوجه الأيديولوجيا العربية المعاصرة، وذلك من خلال نقد عينة من كتابات مثقفي الشام، باعتبار أن أبرز الأسماء المنتقدة، تنتمي بالدرجة الأولى إلى لبنان وسوريا، ومقالاتها منشورة على صفحات الجرائد والمجلات ودور النشر البيروتية. هذا رغم وجود إشارات وأمثلة أخرى، تتعلق بباحثين ومثقفين من الأردن وفلسطين والعراق، لكن العينة المنتقدة في أغلبها لبنانية.3[3][/rtl] [rtl]يبلور "نقد الفكر اليومي"، محاولة بل محاولات في نقد كيفيات مواكبة الثقافة العربية، لقضايا الصراع السياسي والأيديولوجي، في الحاضر العربي، وهو نقد يواجه فيه الكاتب، مختلف مدارس وتيارات الفكر السياسي العربي المعاصر، بِعُدَّةٍ فكرية محددة، بهدف كشف تهافت هذه التيارات، ودحض مواقفها، والدفاع على أسلوب معين في التحليل، يعتقد الكاتب بنجاعته وعلميته وتاريخيته وماديته وصوابه، دون أن يرى أي حرج، في نعت الآخرين بمختلف النعوت، لمصلحة تيار في الفكر وفي الفلسفة، يعلن أنه التيار الأصلح والأبقى والأفضل، لمعرفة الحاضر، ومقاربة التاريخ، وترتيب كيفيات تحقيق المأمول، »الانتقال الثوري إلى الاشتراكية".4[4][/rtl] [rtl]ليس من السهل مقاربة هذا النص، فهو يخوض في قضايا خلافية متعددة، ينتقد ما يسميه الفكر العدمي في المجال السياسي، ويُشَرِّحُ الأيديولوجيا الظلامية والثقافة البرجوازية، والنزعات الإسلاموية الجديدة والمستجدة. لا يكل ولا يمل، يحلل يستنطق النصوص، يسخر، يُذَكِّر بمقدمات الرؤية المادية، يجتهد لبلورة مقاربة جديدة لتاريخ مجتمعات لا تتوفر بالضرورة، بنياتها الاقتصادية والاجتماعية على معطيات تجعلها قريبة من نمط الإنتاج الرأسمالي، وآلياته في العمل والإنتاج والأيديولوجيا.[/rtl]
[rtl]ينفي، يقرر، يستنبط، يُعْنَى بالصياغة، كما يعنى بدقة العبارة، يُشَدِّدُ على بعض الجمل والمفاهيم والأدوات المنهجية، يستطرد، يشير إلى مجالات في البحث دون أن يتوقف عندها. لنقل إننا أمام نص يقظ، يفكر فيما ينتقده، ويقوم بدحض أطروحاته مفاهيمه، مقدماته، توجهاته العامة. وإن شئنا الدقة، قلنا إننا أمام "تمارين في الإنشاء"، ليس بالمعنى الانتقادي الذي يوردها به الباحث، أثناء نقده لمقالات موسى وهبة، بل بالمعنى الإيجابي، الذي بلورته الكتابة الفلسفية المعاصرة، حيث أصبحت مسألة الإنشائية، تعد جزءاً من امتياز الكتابة المعاصرة، وحيث تقوم قيمة كثير من النصوص في الفلسفة المعاصرة، على كفاءتها التعبيرية الاستعارية، التي تجعلها تبني بالرصيد اللغوي نصوصاً فاتنة، يتداخل فيها سحر المكتوب بإيحاءات الدلالة المفتوحة.[/rtl]
[rtl]وقد أصبح من الثابت اليوم، أن وعاء النظر يعتبر جزءاً من النظر، وكفاءة التطريز اللغوي، غير المتحذلقة، تعتبر دليلاً على حيوية في الفكر، لا ينبغي الاستهانة بها. ثم إن التمييزات التقليدية بين نص إبداعي ونص فكري أو علمي، لم تعد صحيحة دائماً ولا دقيقة تماماً، في زمن التناص والقراءة والتأويل، وتداخل المناهج، واستعارة المفاهيم، فقد وَلَّدت هذه المعطيات ثورة أخصبت كثيراً من مجالات الفكر المعاصر.[/rtl]
[rtl]النقد في النص معركة أيديولوجية[/rtl]
[rtl]يقوم النقد في "نقد الفكر اليومي"، بوظيفة محددة، إنه يتجه لمحاصرة أوجه متعددة من المقالة السياسية والفكرية والتاريخية، المعبرة عن تجليات الجدل القائم، في فضاء الفكر العربي في حركيته اليومية، حيث يقوم الكاتب بكشف خلفياتها النظرية، وأبعادها المعرفية، ليصل إلى إبراز علاقتها بالفكر السائد في المجتمع، موضحاً دورها الوسيط، في لحم الصراعات الطبقية، لمصلحة الطبقة السائدة، سياسياً واقتصادياً، الطبقة التي تجد في النصوص والمحاولات المنتقدة، ما يسند وجودها، بعدم نقض طبقيتها، استغلاليتها وتبعيتها، لمراكز الرأسمالية الإمبريالية العالمية.[/rtl]
[rtl]لا يحترس الباحث أثناء اختياره للنصوص، لا يفاضل، يخاصم الجميع، يُقَارِع كل أنواع الخصوم، مهما تباعدت واختلفت أساليبهم في النظر، وهو بهذا الموقف لا ينتبه إلى موقع أقدامه، بل لعله لا يراها. يستنفر حاسته النقدية إلى حدودها القصوى، فيندفع في تقطيع النصوص والجمل والأمثلة والإشارات، تستهويه لعبة التمرين الإنشائي الملعونة والممارسة، في الآن عينه، فيقوم بها بكثير من التفاني، فتصبح العبارة المركبة والمحبــوكة، سيـدة المكتوب بامتياز، وخلفها يحتمي الكاتب بمنطق معين لا يحيد عنه.[/rtl]
[rtl]تسلم نصوص "نقد الفكر اليومي"، باكتشافها لمفتاح سحري جاهز، في أغلب الأوقات، وفي أغلب النصوص المتضمنة في الكتاب، مفتاح قادر على فك المغلقات. يتمثل هذا المفتاح، في مقدمات الفلسفة المادية التاريخية، في نمطيتها النصية (بعض مفاهيم ماركس)، مدعومة ببعض جهود المعاصرين، أمثال شارل بتلهايم، التوسير، بولنتزاس وغيرهم.[/rtl]
[rtl]يخاصم الكاتب الجميع، استناداً إلى المفتاح المذكور، يستعمل أدواته، مفاهيمه وفرضياته الكبرى، وبعض خلاصاته، لمقارعة مختلف عينات الخصوم، لا يقيم أي تمييز كما قلنا، بين هذا وذاك، فكلهم وبدون استثناء، يمثلون بأساليبهم المختلفة، فكر الطبقة والطبقات المسيطرة، الفكر الذي يتوخى تحييد الوعي، تأمين استسلامه، إلى غير ذلك من الصفات التي يطلقها الكاتب على النصوص المنتقدة وأصحابها.[/rtl]
[rtl]لكن من أي موقع ينتقد مهدي عامل كل هذه النصوص، وبهذه الثقة والوثوقية؟[/rtl]
[rtl]يتجه النقد في أغلب المحاولات المنتقدة، وهي في مجملها مُسْتَلَّةٌ من الصفحات الثقافية لجريدتي "السفير" و"النهار" البيروتيتين، لكشف وظيفتها في الصراع الدائر في الراهن العربي اللبناني، حيث تقوم في نظره، بالتشكيك في العقل وفي العلم والتاريخ والسياسة، وهو الأمر الذي يؤدي إلى تهميش الفعالية النظرية الثورية للإنسان، الفعالية التي تقضي بضرورة مواجهته لواقع الصراع الطبقي، في زمن ومرحلة، يطلق عليها الكاتب »مرحلة الضرورة السياسية، في أن تحتل الطبقة العاملة، موقع القيادة الطبقية، في حركة التحرر الوطني".5[5][/rtl] [rtl]البديل والهدف واحد ووحيد، البديل ليس جبهة ثقافية، ليس اختياراً مفتوحاً على المستقبل، تتضافر جهود متعددة ومختلفة لبنائه وتشكيله. البديل أيديولوجي بالمعنى الذي يستعمله الكاتب للمفهوم، أي بالمعنى الذي يرادفه فيه بالعلم والعلمية، عندما يقول في لغة شعاراتية تبشيرية، »إنه زمن الفكر العلمي، في عصر الثورات الاشتراكية«.[/rtl]
[rtl]سقف النقد يتحدد في ماركسية بعينها، تخاصم الأفكار والأزمنة، وتصنع الأوهام بلغة تنتقد الأوهام، ولا تدري أنها تُعَلِّبُ الأفكار في قالب متحجر، رغم مساعيها وأمانيها الجميلة في إعادة تأسيس بعض المفاهيم، داخل دائرة العقيدة، لا داخل صيرورة تاريخ الفلسفة.[/rtl]
الأربعاء فبراير 10, 2016 11:50 am من طرف فدوى