علم النفس بين المنظور العلمي والتمثلات الاجتماعية
.
عبد الكريم بلحاج 26 يونيو 2014 في
محاضرات أضف تعليقا ملاحظة تمهيديةبداية يجدر القول بأن لعلم النفس واقعه المعرفي والمجتمعي والثقافي، وهو الواقع الذي تُطرح بصدد معاينته عدة أسئلة، وذلك من حيث كونه يغطي قضايا متباينة في نوعيتها وحجمها بالنسبة للمعرفة النظرية والعالمة من جهة، وبالنسبة للاشتغال التطبيقي والممارسة العملية من جهة أخرى. وبالتالي فمعاينة هذا الواقع، بدورها تستفهم لدينا النظرة الموجهة للسياق التاريخي من منطلق القول الممنهج والقراءة الوظيفية. وتنبني هذه المسألة على أساس الاهتمام بحقيقة ما يحتضنه علم النفس كمنظور أساسي ومرجعياته النظرية والمفاهيمية.
لذلك، عند التعاطي مع هذا الواقع، فإن الأمر يقتضي الفصل في ما يحدد القول والتحليل، كذلك أن مستويات المساءلة والنظر التي تتعلق بالاهتمام بما تستدعيه القضايا المعرفية بالنسبة لعلم النفس، سواء في سياقها التاريخي أو الثقافي، تحيل على تنوع في مستويات استفهام ومساءلة علم النفس، وهي المستويات التي نرصد لها فيما تعبر عنها صبغتها العلمية والعملية.
في واقع علم النفسإن علم النفس هو حقل منظم للمعرفة المتعلقة بالنشاط النفسي والعقلي للإنسان، ويشمل زوايا نظر في معاينة ووصف موضوعه والتي تتنوع أو تتوزع بحسب مجالات المقاربة والاستطلاع المنهجي. وعلم النفس هو من أكثر العلوم ومجالات المعرفة الذي يبقى موضوع إثارة مع ما يستدعيه من حيرة وسحرية لدى الحس المشترك، وهو الأمر الذي يطرح تساؤلات حول ما إذا كان هذا العلم هو “علم” للنفس، أي مجال معرفي يتجه إلى البحث في النفس الإنسانية، وما يحيل عليه أو ما يترتب عنه من تفسير وفهم لهذه النفس. فمظهر الحيرة يبدو حول طبيعة الموضوع الذي يتناوله بالدرس والصفة التي يتخذها كحقل للمعرفة الموضوعية ومجال للاشتغال العلمي، كذلك أن هذه الحيرة تتبدى حاضرة لدى الدارسين وعموم المهتمين في تحديد مفهوم علم النفس وموضعته التاريخية[1]. ثم من ناحية أخرى، ما يثيره من سحرية فيما يتعلق بالانطباع المتمثل في إمكان هذا العلم من سبر أغوار النفس الإنسانية وكذا تقدير وتقويم الحالة النفسية ونوعية الشخصية ومستويات القدرات العقلية لدى الأفراد، وهي تصورات واعتقادات ترتبط بتلك السحرية التي يثيرها لفظ علم النفس. كما يظهر أيضا أن هناك انعكاسا لمسألة الحيرة والسحرية هذه، في عدد من المؤلفات والمنشورات سواء الخاصة بعلم النفس أو التي تعرض لموضوعاته بكيفية مباشرة وغير مباشرة.
وحتى نقدم معاينة لواقع هذه المعرفة العلمية يمكن إيجازها من خلال الملاحظتين التاليتين:
1- يعرف علم النفس اليوم أكثر من أي وقت مضى استفسارات ومناقشات متنوعة، وكذلك عدد من مواقف القبول والرفض لنتائجه وللحقائق التي يفضي إليها. وهذه النقاشات والمواقف رغم اعتبارها بمثابة مؤشر على الاهتمام الذي يستدعيه هذا العلم، فإنها مع ذلك تبقى متباينة في الغايات والمقاصد، بالإضافة إلى كون قضايا علم النفس بشكل عام صارت من موضوعات الزمن الراهن والأكثر ارتباطا بالإنسان المعاصر على مستوى الإثارة والتداول، سواء بفعل دوافع وحاجات مجتمعية أو تبعا لتزايد وتنوع قنوات استثمار هذه الموضوعات، مع ما يرافق ذلك من مظاهر الإقبال على كل ما يتم تقديمه تحت غطاء علم النفس من أشكال متنوعة من الخطابات والممارسات. وتجدر الإشارة إلى أن الفضاء المجتمعي العام يبقى المستقبل الرئيسي لهذا الاهتمام.
2- إن مهام علم النفس في تنوعها من حيث ما يستدعي تناوله بالبحث والدراسة وبالتطبيق والمعالجة، تبقى حاضرة إلى حد ما ضمن انشغالات ذوي الاختصاص. وهذا التنوع في المهام يجد تعبيره في مجالات المقاربة التي يغتني بها علم النفس كما يجد تبريره في تعدد وتنوع الموضوعات (القضايا والظواهر) التي تملأ الواقع اليومي والمجتمعي العام. أما بالنسبة لأشكال المقاربة المتمثلة في النظر والتفسير والمعالجة، رغم ضعف توفر إمكانات تحقيقها وإنجازها، فإنها لازالت لم تستوف هذه الموضوعات، وبكيفية متجددة، نصيبها من المعرفة والفهم.
وعلى أساس هاتين الملاحظتين، يمكن استقراء واقع علم النفسمن خلال مجموعة من المؤشرات التي تعتبر أساسية في رصد وتمييز محدداته المعرفية والعملية:
المؤشر1:إن علم النفس مثل باقي العلوم له أكثر من مهمة يسعى إلى القيام بها ومن ثم إلى تحقيق غاياتها. وتتمثل هذه المهام في الفهم والوصف والتفسير والضبط والتنبؤ. كما أن تعدد مظاهرالمهام التي ترتبط بالاشتغال العلمي في علم النفس تعكس تنوعا يغطيه الهدف العام للعلم، ومن الواضح أن إحدى المهام الأساسية لعلم النفس تتجلى في القدرة على التفسير العلمي للمظاهر المختلفة التي يتضمنها موضوعه، وما يرتبط بها من وصف لهذه المظاهر، وبالتالي توقع ظهورها. وبطبيعة الحال، فإن هذه المهام تستوجب التنظيم والدقة في إنجازها، والعمل على تحقيق ما يستتبع ذلك من مصداقية على المستوى المعرفي ومشروعية المأسسة العلمية.
المؤشر2 : إن الوضعية الإبستمولوجية والخصائص المعرفية التي يتسم بها علم النفس، جعلته يكتسي مكانة كعلم إنساني متميز، وعلى أنه أساسا ذلك العلم المتعلق بالذات الإنسانية من حيث فضاؤها الداخلي والخارجي. بصيغة أخرى، إنه العلم الذي يأخذ بالاعتبار على التوالي الأسس البيولوجية والاجتماعية التي ينبني عليها نشاط ودينامية الشخصية. وفي سياق متصل، بحكم المسعى المؤسس لعلم النفس من خلال قيامه كعلم مستقل، وبخاصة من حيث إعادة ترتيب العلاقات بالعلوم الطبيعية والاجتماعية وبالفلسفة، فإن هذا المسعى عمل على إبراز كيفية اندماج هذا المجال المعرفي في النسق العام للعلوم. وقد كان هذا الإجراء أحد أهم الخطوات بالنسبة لعلم النفس لكي يثبت ويؤكد هويته العلمية من ناحية، والإطار الذي يعكس مهامه داخل حقل المعرفة العقلانية من ناحية ثانية.
المؤشر3:من بين خصوصية القضايا التي يثيرها كل من الموضوع في تجلياته المختلفة والمنهج من حيث الرصد الكمي والكيفي، وكذلك المحددات المعيارية والأخلاقية في الاشتغال العلمي، طرحت مسألة الموضوعية والذاتية باعتبارها قضايا استدعت مساءلات ومطارحات عدة بالنسبة للإطار المعرفي المحدد لعلم النفس، خاصة فيما يتعلق بالتفسير. فموضوع العلم هو الإنسان والمشتغل بهذا العلم هو أيضا الإنسان، بحيث تبرز إشكالية استقلال الذات العارفة عن موضوع المعرفة، وما تحيل عليه فيما يتعلق بالتفسير العلمي للإنسان من حيث عمومية وخصوصية التفسير من جهة، وكونية الإنسان من جهة أخرى.
المؤشر4: خلال القرن 19م ساهمت مجموعة من العوامل في تنظيم السياق العام الذي يطبع هوية علم النفس، ومن بينها:
- نضج شروط طرح الاستقلال بالموضوع والمنهج فيما يخص درس وتناول الظاهرة النفسية بشكل عام والسلوك بشكل خاص.
- قيام مناخ فكري وثقافي بإتاحة المجال لإفراز السؤال السيكولوجي بصيغة تتميز عن الخطاب الفلسفي وعن المنظور الطبي.
- سعي الفكر العلمي إلى الحسم مع الفكر الديني والذهنية الخرافية.
- انخراط الجهود النظرية والأمبريقية والعملية في مقاربة واستقصاء القضايا العقلية والنفسية لدى الإنسان.
المؤشر5: يزخر تاريخ علم النفس بوقائع وقضايا إشكالية رافقت محطات التأسيس العلمي التي تمتد من مساعي البحث عن المشروعية إلى مرحلة التجديد التي تطبعه في الوقت الحاضر حتى صار علما معرفيا بامتياز. ذلك أن تاريخ العلم لا يحتضن فقط تطورات حصلت على المستوى النظري والمنهجي والعملي، بل أيضا على مستوى مفهوم وتصور علم النفس ذاته، بحيث لم ينحصر الأمر فقط في مساءلة موضوع العلم، ولكن أيضا هذا العلم بذاته كموضوع، بمعنى مساءلة علم النفس كعلم منذ فترة النشأة إلى اليوم مرورا بالقرن العشرين الذي كان حافلا من حيث الإثراء والتطوير.
المؤشر6:إن علم النفس في صيغته العلمية الراهنة يتخذ له كموضوع دراسة سلوك الإنسان، بمعنى ما تعكسه مجموع النشاطات الخارجية والداخلية التي تتم ملاحظاتها بشكل مباشر أو غير مباشر، أي كل ما تعلق بالسيرورات العقلية والعاطفية والانفعالية التي تفيد هذه النشاطات والتي تبقى قابلة لتفسير وإعطاء معنى لها. وتحيل مجالات الاشتغال والإشكاليات المطروحة والشروط المنهجية على كون تحديد السلوك لا يتم فقط من حيث ما هو وظيفي باعتباره بعدا ظاهرا وقابلا للملاحظة، بل أيضا من خلال الأهمية التي يمكن أن تتخذها الأبعاد البيولوجية والعصبية والاجتماعية المحددة لهذا السلوك. ثم إن الاشتغال العلمي كما هو مطروح ومعمول به اليوم سواء بالنسبة للأسئلة النظرية أو الإشكالات العملية، جعل من القضايا التي تستدعي اهتمام علم النفس كونها تعكس كافة نواحي النشاط والتغيرات التي تحدث لدى الإنسان خلال تفاعلاته البيئية (في مظاهرها الطبيعية والمجتمعية والثقافية…) مع ما يقتضي ذلك من توافق، والتي يمكن ملاحظتها بكيفية مباشرة كما هي مدركة، أو بكيفية غير مباشرة وذلك بملاحظة نتائجها، من هذا المنطلق جرى تقليديا اعتبار موضوع علم النفس هو السلوك.
إشكالية المفهوم والهوية العلميةمن ناحية المصطلح الشائع الاستعمال في اللغة العربية، يبقى علم النفس هو التعبير المحدد للمجال وفي كثير من الأحيان يرد استعمال مصطلح
“سيكولوجيا” كمرادف في التعبير، وذلك لاعتبارات وضرورات إجرائية، فمصطلح علم النفس إذن، هو المقابل لكل من المصطلح الفرنسي psychologie والإنجليزي Psychology. وبالتالي، فإن تراث هذا الحقل المعرفي يشير إلى أن المصطلح الأجنبي تبعا لأصوله الإغريقية يتركب من شقين: Psukhê النفس/الروح وLogos المعرفة، وهو ما يفيد من الناحية الاصطلاحية “دراسة النفس”[2]، أي بالمعنى الفلسفي للدراسة. ويتبين من خلال أصل المصطلح أن هذا المعنى يرتبط بالقول الفلسفي، والذي لازال يقدم اجتهادات قيمة حول عدد من القضايا والإشكالات التي تتحدد بها هذه الدراسة ووفق هذا المنظور. وهذا القول له امتداد تاريخي يعود إلى فترة ازدهار الفلسفة اليونانية، مرورا بمختلف المحطات الهامة التي قطعتها الفلسفة إلى الوقت الحاضر، لاسيما مع الفينومينولوجيا والوجودية وفلسفة الذهن. كما كان للفلاسفة المسلمين أمثال ابن سينا والرازي وابن رشد نصيب في هذا الاهتمام الفلسفي الذي شمل بعض القضايا المرضية في الحياة النفسية، وفي هذا السياق هناك من يقرن نشأة علم النفس بالفلسفة.
ولذلك فالمفهوم القائم على الأصل الأول للمصطلح لازال متداولا بشكل من الأشكال إلى يومنا هذا، وبخاصة في إطار صنف من الخطاب الفلسفي، وكذلك الخطاب ذي المرجعية الإسلامية. فمن المحتمل أن من يسعى إلى البحث في موضوعات النفس والروح سيلجأ بالضرورة إلى أنماط من الخطاب والمرجعيات التي ليس لها مكان في جسد المعرفة السيكولوجية، وهي مرجعيات تتوزع بين مجالات الدين والفلسفة. وارتباطا بهذه الاعتبارات نجد شيوع اعتقاد وفهم حول فكرة مفادها أن علم النفس هو علم يسعى إلى دراسة النفس أو الروح، وهذا أحد المظاهر البارزة التي تعكس التمثلات الاجتماعية السائدة إلى حد ما حول علم النفس، بحيث تكتنفها عدد من الملابسات التي تهدف إلى إضفاء غموض على هذه المعرفة وخلط الأوراق في الخطاب والتفسير العلميين، وأيضا إقحام مرجعيات غريبة عن المجال. فمثل هذه النظرة تقف عند المعنى السطحي لمصطلح علم النفس للتعبير عن موضوعات النفس، والتي تعمل أيضا على إقحام موضوعات الروح ضمن هذا المعنى. وهو المعنى الذي يُراد منه منطلقا لتغيير الاتجاه نحو تفسير وتقديم فهم “للنفس” الإنسانية تبعا لمضامينها اللاعلمية. والسؤال الذي نطرحه بهذا الصدد هو: هل يمكن دراسة النفس أو الروح؟، أي عن مدى التزام هذه الدراسة بقواعد ذات أسس ابستمولوجية ومنهجية منظمة.
وبصفة عامة، نجد أنها موضوعات ليس لها تحديد علمي واضح، وغير قابلة للفحص والضبط العلميين. كما أنها لم تكن محط اهتمام التفسير والاشتغال العلمي في علم النفس، ما عدا في الفترات التاريخية السابقة على نشأته، بحيث إنها موضوعات أثارت حولها نقاشات معينة أدت إلى رسم حدود بين ما هو “روحي” وما هو سيكولوجي. والحال أن الإبقاء على مصطلح “النفس” كموضوع مزعوم لعلم النفس، في الغالب ما نجده عند التعرض للإشكاليات المرضية، أي فيما تعلق بالأمراض النفسية والعقلية، وهي الأمراض التي يتجه الاعتقاد حولها من كونها أمراضا تصيب “النفس”. كما تساهم في هذا التوجه بعض الخطابات الفلسفية والدينية والعامية، بل وأيضا خطابات تمررها بعض الكتابات التي يفترض أنها تنتمي إلى حقل العلوم النفسية، وتدعي التخصص في القضايا النفسية المرضية. وسوف نؤكد في نطاق هذه المعاني وبإلحاح على أن مسألة “النفس” ليست من اختصاص علم النفس.
المجال العلمي وقضايا الموضوع بالنسبة للمعرفة العلمية، يختلف الوضع فيما يتعلق بصياغة مفهوم علم النفس، سواء من حيث المعنى الذي يتخذه هذا المفهوم أومن حيث الخطاب الذي ظل يؤطره منذ البدايات، أي أواخر القرن التاسع عشر وإلى وقتنا الحاضر، على اعتبار أن المفهوم العلمي اتجه إلى الاستقرار حول موضوع سلوك الإنسان بكيفية تلتزم الشروط الموضوعية للاشتغال العلمي، ومن ثم استوطن مفهوم السلوك كموضوع لعلم النفس. ففي هذا السياق، تفيد مجمل التعريفات بأن علم النفس هو العلم الذي يهتم بالسلوك والعمليات العقلية[3]، وهو ما معناه أن علم النفس انخرط في ذلك المجهود العلمي الذي يقوم على نماذج/براديغمات فكرية ومعرفية منظمة والذي جعل من العلوم تتعاطى مع موضوعها وفق منطق ما هو قابل للضبط الموضوعي والتفسير المنظم.
وعلى هذا الأساس، فإذا كان التأكيد قائما على أن علم النفس يتناول بالدرس والتحليل موضوع السلوك والنشاطات النفسية والعقلية القابلة للضبط والتحقيق والبرهنة، فذلك لأن الشروط المنهجية في الدراسة العلمية تقتضي تدبير هذا المنحى. وبمعنى آخر، أن المنهج المعتمد في دراسة موضوع علم النفس يفترض فيه درجة من المشروعية والمصداقية الابستمولوجية، وبخاصة اتصافه اللامشروط بالموضوعية، على غرار باقي العلوم الأخرى، خاصة العلوم الطبيعية التي اتُخذت كنموذج يُقتدى به. وبالتالي فإن تحقيق هذا المسعى صار ممكنا بفضل المنهج التجريبي؛ ذلك أن علم النفس منذ بداياته، اعتمد في إنتاج معارفه وحقائقه على التجريب داخل المختبر، إذ يُعتبر العلم الوحيد من بين العلوم الإنسانية الذي جد في اقتفاء مناهجه على تلك التي أثبتت قيمتها في الفيزياء أو البيولوجيا[4].
بصفة عامة، يمكن القول بأن بعض الاختلافات التي رافقت تحديد المجال لم تعد بنفس الحدة كما كانت في الماضي، حيث صار هناك اليوم نوع من الإجماع حول ما يدل عليه مصطلح علم النفس وكذلك فيما يحدد هويته العلمية، من ذلك اعتبار «موضوع الدراسة لعلم النفس هو الإنسان في المنظور المزدوج لأشكال سلوكه وتصرفه من جهة، ولحالات وعيه من جهة أخرى، ويبحث هنا العلم في صياغة قوانين هذه الظاهرات، وفي تفسير عناصر تكونه، لكي يمكن تغييرها عند الاقتضاء»[5]. هكذا يظهر أن تحديدا وفق هذا المعنى يتوافق إلى حد ما وبشكل أفضل مع الصفة التي تعكس اليوم علم النفس.
علم النفس والمجالات الأخرى المعنية بالتعاطي مع الحياة النفسيةمن المجالات الأساسية التي اقترن وجودهما بعلم النفس إلى حد التداخل والتماثل على مستوى الاهتمام والفهم، هناك التحليل النفسي والطب النفسي، بيد أن المحددات المعرفية (المنظومة والبراديغم) والأهداف والمهام تبقى جد متمايزة، كما أن السياق الطبي والعلاجي باعتباره واقعا مشتركا بين هذين المجالين يجعلهما في مفترق طرق مع علم النفس، مع أن التقاطعات موجودة، ولاسيما على مستوى المقاربة العملية للحياة النفسية.
بالنسبة
للتحليل النفسي، فإنه يتميز بمجاله كمعرفة وممارسة، ويستمد مشروعيته من خلال الإطار (الخطاب والتفسير) الذي يؤسس له، ومن ثم يمكن القول بأن مهام التحليل النفسي المعرفية والتطبيقية لها ما يميزها عن مهام علم النفس، بحيث يبقى تحديد مجال التحليل النفسي وفق ثلاثة مستويات تعكس إطاره العام[6]، وهي على التوالي:
1- طريقة في الاستقصاء والبحث تتلخص أساسا في تبيان المعنى اللاشعوري لكلام وأفعال شخص ما ولإنتاجه الخيالي (من أحلام وهوامات وهذيانات).
2- طريقة في العلاج النفسي تقوم على الاستقصاء والبحث بغاية علاج الاضطرابات النفسية، ويرتبط بهذا المعنى استخدام”التحليل النفسي” كمرادف للعلاج.
3- مجمل النظريات والمفاهيم النفسانية التي تنظم من خلالها المعطيات التي تقدمها الطريقة التحليلية النفسية في الاستقصاء والعلاج.
إلى جانب هذا المعنى الذي يتخذه التحليل النفسي فإن ما يميزه كمجال معرفي كونه يعكس وضعا فريدا من بين العلوم الإنسانية، فعوض أن يتوخى استبعاد الذاتية لحساب الموضوعية، يكون موضوعه هو الذاتية نفسها.
أما
الطب النفسي وهو المجال الطبي الذي يختص في الصحة العقلية (النفسية) باعتباره يوفرممارسة عملية تتجلى في الفحص والعلاج، فإنه يبقى بمثابة المجال المستحوذ على الممارسات العلاجية المنظمة وبكونه الاختصاص المشروع، بحسب أهله، للتعاطي مع المرض العقلي. والحال أنه في الغالب ما يُقحم علم النفس كمرادف لهذا المجال، بيد أنه شتان بين المقاربة الطبنفسية والمقاربة السيكولوجية من حيث التعاطي مع الصحة العقلية. طبعا فهذه المقاربة الأخيرة، لاتعكس حقل علم النفس في شموليته بقدر ما أنها تنتمي إلى أحد مجالاته العملية وهو علم النفس العيادي والمرضي.
يبدو بالنسبة لمصادر التداخل والخلط التي تكرسها التمثلات والاعتقادات القائمة حول هذه المجالات “النفسية”، بأن عضها يرجع للجهل بالثقافة النفسية وأدوات نشرها كما هو الحال في البلاد العربية، أو أن ما تقدمه وسائل الإعلام والنشر يساهم في تحريف حقيقة علم النفس. من ناحية أخرى، يظهر أن هذا النوع من التمثلات والاعتقادات، وبخاصة فيما تعلق بالصورة النمطية التي التصقت بعلم النفس، عملت على ترسيخه واستمراريته مجموعة عوامل ترتبط بتدبير المعرفة العلمية الخاصة به والشروط السوسيوثقافية التي تحيط بحضور هذه المعرفة عبر نشاطات البحث أو التدريس والتكوين.وللتذكير، فالتمثلات الاجتماعية تُعتبربمثابة سيرورة نفسية اجتماعية ذات مظاهر وتعبيرات جماعية، بحيث تعكس منطق المعرفة العامية العادية وأشكال تدبيره الإدراكي والذهني للواقع بموضوعاته وتجلياته في الحياة اليومية[7].
نحن وعلم النفسبناء على ما تقدم، من حيث استطلاع واقع المعرفة العلمية وفق ما يحددها في نطاق العلوم عامة والعلوم الإنسانية خاصة والعلوم المعرفية بشكل خاص جدا[8]، أي من خلال تلك المؤشرات التي نعتبرها أساسية في رصد هذا الواقع، من الواضح أن هناك من العوامل التي يبقى اعتبارها حاضرا ومستدعيا للاهتمام به، وذلك في حدود معقولة، وهي العوامل التي تُحسب لقيام العلم وتطوره وتلك التي تُعد في حكم المشتغلين به، أي من حيث هوياتهم الثقافية.
إن علاقتنا بعلم النفس تبدو علاقة غنية بالظواهر والمفارقات من جهة، وفقيرة من حيث الفوائد والإنتاج من جهة ثانية. وقد ترتب عن هذه العلاقة نشوء وضعية يتضارب فيها الفهم والجهل، والاهتمام والاختزال، والاعتراف والتجاهل إلى غير ذلك من المواقف التي تطبع تفاعلاتنا مع هذا العلم.
والحال أن هذه الوضعية قامت بفعل مجموعة عوامل، منها على سبيل الذكر لا الحصر:
- أننا لم ننتج هذا العلم، كما أننا لم نساهم ولو بقسط قليل في إرساء قواعده، أو الدفع أيضا بعجلة التنمية المعرفية الخاصة به.
- أننا نعاني من بعض القصور في الاشتغال به، وذلك بحكم انعدام الوسائل والإمكانات وغياب الأفق.
- أن البيئة المجتمعية تبقى بيئة لم تستسغ بعد سبل التفاعل المفيدة والناجعة مع هذا العلم.
- أننا نقبل ببعض أشكال الاختزال فيما يخص النظريات والمعارف لأجل استخدامات غرضية أو ظرفية.
- ليست لدينا ضوابط أكاديمية أو مؤسساتية، ولا حتى مهنية، بالنسبة لتنشيط وتدبير وإنعاش هذا العلم ونشره سواء لما يفيد التعليم والتكوين أو لما يفيد الممارسات والتطبيقات المتفرعة عنه.
بصفة عامة، إن هذه العلاقة التي تجمعنا بعلم النفس، تبقى علاقة لها امتدادات متشعبة تتداخل فيها عوامل تاريخية وأخرى ثقافية، وما ينتسب إلى الذهنية السائدة في المجتمع. وقد اقترنت بهذه العلاقة، نزعات متضاربة يتجاذبها الانتماء إلى المجال والانعزال والتميز في الأخذ به والفعل فيه. كما أن تفاعلات هذا الواقع من خلال بعض المؤشرات المشار إليها والتي تسمح بالإحاطة بوضعية هذا العلم، تبقى لها انعكاسات مؤثرة سلبا على تطور المعرفة العلمية، رغم بعض مظاهر الانتشار، وكذلك عبر ملاحظة ما يعتري هذه الوضعية، إن ذلك على مستوى الهوية العلمية من خلال تبيان بعض شروطها ومحدداتها المعرفية، أو على مستوى واقع الحضور الاجتماعي لعلم النفس من حيث مظاهره وتمثلاته وأشكال التعاطي معه في مجتمع تتجاذب ديناميته جدلية التقليد والمعاصرة، وثقافة تتراوح مرجعيتها بين الدين والعلم، بل إن حياة الإنسان من موقع ذاته وتفاعلاته يتجاذبها مد وجزر، حتى إن العقل لم يتوفق في تدبير ديناميتها. ويكون علم النفس قد ظل الطريق بيننا لتقديم فهم للسلوك وتطوير أدائه. فالتمثلات الاجتماعية لعلم النفس يبدو أنها مستمرة في مقاومة كل نهضة علمية من شأنها أن تضعنا على سكة الممارسات الجيدة التي يوفرها مجال علم النفس إن في البحث العلمي[9] أو الممارسات المتنوعة التي تحتاجها مختلف قطاعات الحياة الاجتماعية التي يبقى الإنسان محورا لها.
لاشك أنه أمام الرهانات الموضوعة في وجه المشتغلين في مجال علم النفس ، باحثين وممارسين، وكذلك بالنسبة للتحديات التي تواجهها مجتمعاتنا ومختلف الفئات المشكلة لها، فإن المسألة تقتضي اعتماد مساعي تتمثل في تعزيز أو إصلاح ما هو موجود وتحديد الأهداف المتعلقة بقطاعات التدخل والعمل، مع احتمال تجديد أو ابتكار أشكال من الممارسات التي تتطابق مع الواقع الاجتماعي ومع خصوصية القضايا التي قد تميز حياة الإنسان في مجتمعاتنا. لذلك، فلا شك أن الأخصائيين في علم النفس من مختلف الاهتمامات والأفق، لا يطمحون إلا في استثمار معرفتهم ومهاراتهم، وأيضا استخدام الخبرات المناسبة للحاجات والمتطلبات الاجتماعية. إن علم النفس من خلال أهله، وكما سبق التأكيد على ذلك في عدةأعمال[10]، مطالب بدوره الآن أكثر من أي وقت مضى بالاهتمام بإعادة صياغة وترتيب مساره، حتى ينسجم مع المنظور العام الذي يطبعه على مستوى النشاط العلمي وحتى ينخرط في السياق الذي يتحدد في إطاره هذا العلم مؤسساتيا (مختبرات بحث، جامعات، مؤتمرات…).
مستويات الاشتغال والممارسة في علم النفس بالاطلاع على واقع حال علم النفس والتقدم الذي يطبعه على مستوى المهام والانجازات، نستشف بأن الكثير من الجهود يتطلب بذلها لتحقيق نقلة في أشكال التعاطي لدينا إن على مستوى الممارسة العلمية أو العملية.
- المستوى العلمي: في هذا الإطار نشير إلى مختلف أوجه النشاط العلمي، أي تلك التي ترتبط بالإنتاج المعرفي في إطار البحث، سواء كان أساسيا أو عمليا، وذلك من حيث إنه يفترض درجة من الموضوعية في الطرح وإنتاج الخطاب، ومن حيث التقيد بالروح والأخلاق العلمية في تناول قضايا علم النفس، وبالتالي الاهتمام بالمساهمة في إنتاج معرفة علمية وخلق تراكم وتقليد في البحث، كما يقتضي لا محالة الانتقال إلى العمل على تسجيل حضور ومشاركة بخطى ثابتة في مختلف المحطات العلمية والفكرية التي يتم التداول والتباحث فيها حول المشترك العلمي.
- المستوى العملي: بالنسبة للإطار العملي الذي يفيد التطبيقات والممارسات، فهو يحيل على كل ما يرتبط بالمجالات الحياتية التي يكون فيها علم النفس مطالبا بتقديم أجوبة واقعية حول مجموعة من القضايا التي لها حضور كبير ولها تفاعلات متنوعة ومتعددة في المجتمع. والجانب العملي لعلم النفس له أشكال تتمايز في أهدافها والقواعد التي تنظمها، وهذه الأشكال العملية تتجلى أساسا في الاشتغال التطبيقي والممارسات والمهن، بحيث تتراوح من بين أدوار المساعدة والإرشاد والتوجيه وخدمات الاستشارة والخبرة والتدخل إلى إنجاز التجارب ومهام التحليل والعلاج. ومن القطاعات الحياتية الأكثر استقبالا للانشغال والانخراط العملي، نجد:
- قطاع التربية، وذلك لمايستهلكه من معارف وتطبيقات محصلة في علم النفس. ولاشك أن من فوائد علم النفس في هذا السياق، ما يقدمه من فهم لأهم الآليات والعمليات التي تتوقف عليها التربية، ولمتطلبات الأفراد في التعلم والتعليم، من ذلك مثلا، ما تعلق بتنمية القدرات العقلية وطرق تهيئة المهارات والكفايات العملية، وكذلك ما يفيد كل أشكال التكوين التي يكون الإنسان بالنسبة لها الموضوع المركزي بامتياز.
- قطاع الصحة النفسية، بحيث إنه في الغالب، وكما سبقت الإشارة، ما يتم جعل علم النفس كمرادف لهذا القطاع، أي أن التمثل الشائع لعلم النفس يجعل منه قطاعا مقترنا بقطاع الصحة العقلية. وبقدرما يقدم علم النفس إطارا معرفيا ومفاهيميا جد مهم حول قضايا المرض العقلي والنفسي، فإنه يحيل أيضا على عدد من ممارسات الاستشارة والعيادة والعلاج. كما أنه بحكم ما أثبته علم النفس من إسهامات في مجموعة من القطاعات الحيايتة، بل وفي عدد من المجتمعات، أمكن توسيع نطاق التعاطي مع مشكلات الصحة النفسية والعقلية وتنويع الخدمات الوقائية والاستشارية والعلاجية في هذا المجال[11].
في إطار هذه المعاني، يمكن القول بصفة عامة، إن كل القطاعات التي تنتعش منها حياة الإنسان ويتفاعل ضمنها هذا الأخير، كونها تستدعي حضور علم النفس، ليس فقط على مستوى السؤال النظري أو العلمي، ولكن بكيفية رئيسية على المستوى العملي والتطبيقي. بحيث إن ” أشكال الاشتغال العملي والتطبيقي لعلم النفس تتخذ كموضوع لها الإنسان في وسط حياته المألوف، وبالتالي فإن لهذه الأشكال من الاشتغال ارتباط مباشر بالتنمية العامة للمجتمع”[12]، ويكفي إلقاء نظرة في أي دليل ملخصات أو مرجع معاصر لعلم النفس، فإننا سنجد أن هذا الأخير يحيل على عدد لا يحصى من مجالات البحث والممارسة والتطبيق. ذلك أن أغلب المجالات الكبرى لعلم النفس المعاصر يمكن ” تصنيفها حسب أبعاد القضايا السيكولوجية المطروحة، وهي من حيث بعدي السواء والمرض من جهة، وبعدي الاجتماعي والبيولوجي من جهة أخرى، بمعنى أن مختلف المجالات تتوزع اهتماماتها ومحددات الموضوع لديها وكذلك في طبيعة المقاربة بحثية كانت أم تطبيقية، وذلك من خلال مدى حضور هذه الأبعاد كمؤشرات جوهرية. فمثلا، أن البعد الاجتماعي له حضور في انشغالات علم النفس الاجتماعي وعلم النفس الشغل. أما بعد السواء الذي يهم المعرفة العلمية ممثلة في علم النفس العام أو علم النفس التجريبي والمعرفي، في حين أن البعد المرضي فإن حضوره بارز في مهام علم النفس العيادي والمرضي”[13]. ووفق هذا النوع من التصنيفات تتفرع اشتغالات نظرية وتطبيقية لكل منها إسهامات نوعية ومهام عملية.
على هذا الأساس، فإن مجالات البحث والممارسة والتطبيق في علم النفس، هي مجالات تنشط على مستوى قطاعات مجتمعية متنوعة بقدر ما تتنوع نشاطات الإنسان في الحياة اليومية، بحيث يمكن استخلاص ما مفاده أن المستوى العملي لعلم النفس يحتل مكانة قوية وغنية فيما يتعلق بالانشغالات والاهتمامات بشكل عام، والانفتاح على التجارب والخبرات العالمية يبقى مفيدا لتطوير وترسيخ الأداء إن على مستوى البحث أو الممارسات.
استشرافاتبالنظر إلى واقع علم النفس كما يشهد على ذلك حضوره المميز على مستوى البحث وعلى مستوى الأعمال المنجزة (مؤلفات، مؤتمرات، برامج…إلخ)، فهو واقع لا جدال في الأهمية التي صار يكتسيها على الصعيد العالمي[14]، غير أننا ندرك أن المسافة التي تفصلنا معه تكبر باستمرار. والحال أنه ليس مستحيلا، أن يتم تسجيل حضور بإمكانه أن يُذكر، بحيث يبدو أنه من السبل الناجعة لكي نحقق تطورا في هذا المجال، وهو ذلك الذي يتمثل في النهج على خطى ثلاث مراحل، تتوقف كل واحدة منها على مهام لها شروطها ورهاناتها.
- في مرحلة أولى، يتعلق الأمر ببساطة باستيراد نماذج نظرية وتصورات وتقنيات، والتعاطي مع نفس الإشكاليات والقضايا بدون الأخذ بالاعتبار السياق أو الحاجات المحلية.
- مرحلة ثانية، تتمثل في البحث من أجل إبراز وترسيخ الهوية، مع الأخذ بالاعتبار للخصوصيات الثقافية والحاجات المحلية.
- مرحلة ثالثة، يمكن من خلالها إدماج الأعمال والأبحاث التي أنجزت في بيئات ثقافية متنوعة بمميزاتها وخصوصيتها ضمن السياق العام للبحث السيكولوجي، وبذلك تصبح المسألة ليست فقط مجرد “نقل أو تحويل” ولكن “تبادل” المعارف[15].
إن نهج من هذا القبيل وعلى هذه المراحل، في الغالب، يعكس نفس السبل التي تعتمد في تدريس ونشر المعرفة العلمية ضمن المنظومة التعليمية والأكاديمية. ثم إن تجارب بعض البلدان التي تبنتها كاستراتيجيات في الاشتغال العلمي[16] أبانت عن نتائج جد معبرة ودالة.
وفي هذا الإطار، فإن مسألة تطوير المعرفة السيكولوجية محليا والمساهمة في الانشغالات المطروحة على المستوى العالمي، فيما يتعلق بالبحث والممارسات، يقتضي منا تفعيل تواصل حقيقي وتسجيل حضور محترم من خلال الإنتاج والعطاء والإبداع. وذلك سواء بالنسبة لتبادل المعلومات والأبحاث والتجارب، أو بالنسبة للقضايا التي تطرح في التظاهرات العلمية[17]. وهذا التواصل من شأنه أن يحقق دينامية في العلاقات العلمية، ويفتح آفاقا في التعامل من شأنه أن يحفظ الهوية في ظل العالمية.
لقد حاولنا الإحاطة بمجموعة من الاعتبارات التي رأينا على أنها أساسية فيما يخص وضع وواقع العلم السيكولوجي سواء كمعرفة أو كممارسة في سياقه المجتمعي. والغرض من هذه الإحاطة هو تبيان مدى أو حجم الإسهام الذي يمكن أن يتحقق، وذلك بالنظر إلى الثروة الهائلة في المعارف والممارسات والتطبيقات التي يزخر بها هذا العلم من جهة، ومن جهة أخرى فيما يتعلق بالفرد بالنظر إلى الاعتبار الذي يضفى على إنسان الزمن الحاضر في سياق عالم معولم بالفعل والقوة. وبالتالي فقد بات ملحا بأن ينصب الاهتمام بهذا العلم في اتجاه إنجاز وتفعيل أرضية تشمل مختلف جوانب المشروع العلمي المؤسس والمنظم له. وكذلك في اتجاه طرق أبواب يتم من خلالها تحقيق مشروعية مجتمعية[18]، بحيث يكون بإمكانها استيعاب هذا العلم والقبول به كإطار مستقل ومتميز بالنسبة للمعارف والتطبيقات والممارسة. كما أن الفائدة قد تكمن في العمل على استثمار سياق العولمة وليس فقط البحث عن صيغ لمواجهته والاعتكاف إلى الخصوصية الثقافية[19].
يمكن القول كفكرة أخيرة، أن علم النفس يبقى مشروعا معرفيا قابلا للإنجاز وذلك في أفق إمكان تحقيق إعمال العقل في تدبير شؤون الحياة والمجتمع، وهو ما سيجعلنا من خلال ممارساتنا في إطاره أن نكون في مستوى التحديات التي تقترن بالمكانة العالمية له كعلم. نحن نتواجد في عالم واحد، ولا يمكن أن نقر لعلم النفس الذي نشتغل به إلا بأنه بدوره حقل علمي واحد، فقط يبقى علينا أن نُحدد موقعنا ومكانتنا في هذا الحقل، وذلك من حيث الإفادة به والاستفادة منه معرفيا ومجتمعيا وثقافيا.