I.مقدمة:صدر كتاب”الجزائر في مؤلفات الرحّالين الألمان (1830-1855)”، للأكاديمي الجزائري
دودو أبو العيد، سنة 1975، وقدّم فيه المؤلف صوراً متعددة للجزائر كما جاءت في بعض مؤلفات الرحّالين الألمان في الفترة الممتدة بين سنة 1830، وهو العام الذي احتلت فيه فرنسا الجزائر، وسنة 1855.
عرفت الجزائر قبل سنة 1830 عدداً كبيراً من الأسرى الأوربيين، كما قام بزيارتها مجموعة من الرحّالين والكتّاب والعلماء والشعراء، الذين أصدروا كتباً على شكل رحلات أو رسائل أو مذكرات عن الجزائر ضمّنوها تجاربهم الشخصية وعلاقاتهم بأهلها ومواقفهم من قضايا المجتمع الأجنبي عنهم، كما وصفوا تقاليد البلد وعاداته في المدن والأرياف. قام المؤلّف بدراسة مجموعة من النصوص التي اختارها بعناية وعرض أهم ما ورد فيها بغرض تحديد ملامح الشخصية الوطنية من خلال ما كتبه هؤلاء الرحّالة الألمان في الفترة المحدّدة.
اهتمّ الألمان بالجزائر أول الأمر بترجمة ما كتبه مؤلفون أجانب، مثل كتاب الرحّالة الانجليزي
توماس شو “رحلة من ولاية الجزائر” سنة 1765، وكتاب الشاعر الايطالي
فيليو بنانتي “رحلة إلى سواحل البرابرة” عام 1824، وهي كتابات اهتمت أساساً بمسألة الأسرى التي اتخذتها أوروبا ذريعة للاعتداء المتكرر على شواطئ شمال إفريقيا. ويقول المؤلّف إن جلّ ما كتبه الألمان كان دليلاً للمستوطنين الأوروبيين إلى المستعمرة الجزائرية الخاضعة للاحتلال الفرنسي. فهم في الأغلب لهم رغبة في الهجرة إلى” المستعمرة الجديدة الرّائعة” كما وصفها أحدهم. وكان أغلبهم يشاركون الغزاة في عواطف الحقد على الشعب الجزائري تحت شعار”الدين والتضامن الأوربي”.
II.الرحّالة الألمان والجزائر:أصدر
فيلهيلم شيمبر )Wilhelm Schimper1804-1878[1]، وهو عالم نباتات ورحّالة باحث، كتابه بعنوان “
رحلة فيلهيلم شيمبر إلى الجزائر في سنتي 1831 و1832“، والذي تم طبعه في شتوتغارت عام 1834، على إثر قيام شيمبر برحلة إلى الجزائر لجمع النباتات بتكليف من الجمعية النباتية.
أول وصف قدّمه
شيمبر عن الجزائر، كان من خلال مقارنته بين سلوك الحمّالة في ميناء المدينة وتعاونهم مع بعضهم، وسلوك الحمّالة في موانئ أوروبا الذين وصفهم بالجشع والغدر. وزار عالم الطبيعيات
موريتس فاغنرMoritz Wagner الجزائر لمدة قصيرة سنة 1835، ثم عاد إليها مرة أخرى في أكتوبر 1835 كمراقب وجامع لعناصر الطبيعة، محمّلاً بتوصيات من باريس. وألف
فاغنر كتاباً عن الجزائر سمّاه “
رحلات في ولاية الجزائر في سنوات 1831،1837 و1838“، بدأ فيه بوصف ميناء الجزائر، فذكر أن وصول السفن إلى الميناء يعد عيداً بالنسبة للأهالي. ويتكون العمّال الجزائريون من العرب والزنوج والبِسَكريين الذين يصفهم بالبخل، ويقول إن اسم الجزائر معناه “
الغزاة”، وهو اسم يوحي بالبطولة والقوّة، ولأنها أخضعت المسيحيين. أمّا
شيمبر فيقول إن العاصمة سميت باسم الجزائر، لأن سهل متيجة تغمره الفيضانات في فصل الشتاء وتحيله إلى بحيرة كبيرة. ويقدر عدد سكّانها بمائة ألف نسمة، وعدد بناياتها بخمسة عشر ألف، أمّا اللغات المستعملة بها فهي العربية والاسبانية والفرنسية والايطالية والألمانية والانجليزية والهولندية ولغات أخرى. وكان
شيمبر يكلّف جارته الاسبانية بالذهاب إلى داخل بيوت الجزائريين لتعد له تقارير عن حياة الأسر وتصف له فيها ما يجري داخل البيوت، وقد مدح الأسرة الجزائرية ووصفها بأنها سعيدة رغم أنه عاب عليها العادة المتبعة التي تجعل من المرأة سجينة، حسب زعمه.
وعن التعليم في الجزائر، يشير شيمبر إلى أن الآباء يرسلون أبناءهم إلى المدارس في سن السادسة، ليحفظوا القرآن ويتعلموا الحساب والعلوم، ثم يواصلون دراستهم عند العلماء أو الفقهاء، أو يسافرون إلى مصر أو إلى تونس، أو إلى أوروبا ليدرسوا الطب. ويتّفق
شيمبر مع ما قاله
بفايفر بأن الطب يكاد يكون غير معروف في البلاد، فلا يوجد سوى طبيب واحد هو في نفس الوقت صيدلاني. ويقول إن الجزائريين يتحدّثون الفرنسية بطلاقة وقلّما يوجد عربي واحد في الجزائر لا يعرف القراءة والكتابة، وهم مثقفون ومتدينون، على عكس شعوب جنوب أوروبا التي قلما وجد فيها الرحّالة من يعرف القراءة والكتابة. ويقول
فاغنر إن العاصمة تتكون من حي الأوربيين وحي العرب، وفيها مدرسة يتعلّم فيها التلاميذ الفرنسية والعربية، ومكتبة تحتوي على حوالي 600 كتاب، كما تتكون المدينة من الحضر واليهود وأجناس أخرى مختلفة من أهل البلاد. ويؤكد
فاغنر ما ذهب إليه
شيمبر من أن الفرنسيين هدموا الكثير من المساجد، وجعلت مساجد أخرى مخازن للتبن أو ثكنة عسكرية أو مسرحاً. يقول فاغنر: “هكذا اعتدت فرنسا على حرمات المسلمين، وذلك ما لن يغفره لهم الجزائريون ولن ينسوه أبداً”. كما احتج
فاغنر على قيام فرنسا بجرح مشاعر المسلمين، وذلك بفتحها للقبور والأضرحة الجميلة بحثاً عن الكنوز والآثار الجميلة وإمعانا في إذلال الشعب الجزائري. ويتعجّب
فاغنر كيف استطاع هذا الشعب أن يتعدى على قداسة الآثار القديمة كأعمدة المعابد المرمرية ونزع نقوشها. وانتقل الرحّالة
فاغنر إلى وصف الحرب، كما أبدى
فاغنر أيضاً إنسانية كبيرة تجاه نفائس الكتب التي سلبها الفرنسيون، وذكّره ذلك بما فعله الفرنسيون بكتب
شيللر في ألمانيا، كما أن الكتب بالجزائر نادرة، ولهذا فهي نفيسة، وقلّما تجد عند العائلة أكثر من كتاب واحد. إلا أن المؤلف يقول إن
فاغنر أبدى إنسانية كبيرة بخصوص الآثار والأشجار، بينما سخر من الموتى حيث استيقظت في نفسه نعرة التعصب الأوروبي. وكان
شيمبر قد تطرّق في كتابه إلى المساجد، وقال إن أروع مسجد في الجزائر قد تم هدمه لتقام مقامه ساحة للاجتماعات، كما أصبحت الكثير من المساجد مخازن للتبن أو بنايات عسكرية. كما قام الفرنسيون بهدم العديد من الأضرحة العزيزة على قلوب الجزائريين. ويدعو في نهاية كتابه الى احترام قوانين الجزائريين ومعتقداتهم ليتمكن الأوروبيون من كسب ثقتهم.
يذكر الرحّالة
شيمبر بأن الجزائر مليئة بالمقاهي، إلا أن الخمول لم يتسرّب بعد إلى طبيعة الجزائريين، ويستمتع العرب في المقهى بسماع الموسيقى والأغاني العربية. ويصفهم بأنهم غير متعصبين، ودليله على ذلك أنهم أعاروه ثيابهم وأدخلوه مساجدهم والتفوا حوله وتحدّثوا معه وسلّموا عليه. ويصف رجالهم بالشجاعة في الحروب، إلا أن تفرقهم وصراعاتهم الداخلية تجعل الفرنسيين يتفوقون عليهم. ويتحدّث الرّحالة
فاغنر عن كثرة المقاهي التي وصلت إلى ستين مقهى عربياً، يتعلّم فيه الأجانب العربية، ويستمعون فيه إلى الموسيقى العربية. وتجمع المقهى بين كل الأجناس، الشريف والوضيع، العربي المسلم والمسيحي واليهودي والأوروبي والإفريقي. وينصح
فاغنر الأجانب بزيارة المقاهي العربية، التي يعتبرها أماكن تتيح الفرصة لهم للتعرف على الشعب ويتعلم لغته والتعابير الشعبية. ويأسف
فاغنر لأن الفرنسيين قضوا على جانب كبير من أصالة المقاهي العربية الشرقية، حيث أقام الفرنسيون مكانها بنايات على الطراز الفرنسي. ويقع أجمل مقهى عربي في شارع البحرية، أما أكثر المقاهي العربية روّاداً في شارع الديوان قرب الكنيسة الكاثوليكية. كما تقع المقهى اليوناني قرب القصبة، لكن هذه المقهى تتمتع بسمعة غير طيبة. ويشير
فاغنر إلى حفلة القرقوز التي تقام في أيّام رمضان في المقهى، والتي يعمل فيها القرقوز على مقارعة الجنود الفرنسيين في رمزية واضحة لمقاومة الأرياف للوجود الأجنبي، مما جعل فرنسا تعمد إلى منع إقامة هذا النوع من الحفلات سنة.
يصف
شيمبر المستوطنين الأوربيين بأنهم مرتزقة وأشرار جشعون ومنهارون خلقيّاً. والتجّار الأوربيين لا أخلاق لهم وأنذلهم التجّار اليهود الذين يصف محلّاتهم بالقذارة عكس محلّات العرب النظيفة والمنظمة. ويستنتج المؤلف بأن
شيمبر تحدّث عن أوضاع الجزائريين بعد الاحتلال من وجهة إنسانية، وكشف النقاب عن جرائم الغزاة، لكنه لم يعترض صراحة على احتلال الجزائر، رغم تحذيره لأبناء وطنه من الهجرة إليها حتى لا يشاركوا الأوربيين فظائعهم ويصبحون أعداءً لشعب لم يسبق له أن أساء إليهم.
وفي كتابه “
تاريخ احتلال الجزائر من طرف الفرنسيين سنة 1830” الذي نشره في يلمناو عام 1832، تحدّث الرحّالة
فينكلمان عن تاريخ الجزائر قبل احتلاله من طرف فرنسا، وعن تاريخها أثناء الاحتلال معتمدًا على ما كتبه
بفايفر. وعلى عكس
شيمبر الذي حذّر مواطنيه من السفر إلى الجزائر، يلاحظ المؤلف بأن
فنكلمان يلح على مواطنيه في السفر إلى الجزائر التي سحرته طبيعتها، وموقعها الجغرافي، لأنها مستعمرة رائعة بالنسبة للألمان. وقد دعّم مشروعه هذا زميله
ماكس ماريا فرايهير فون فيبر الذي نشر سنة 1854 كتاباً يشرح فيه مسالك الهجرة إلى الجزائر. وركّز
فنكلمان على البحث في مدى خصوبة أرض الجزائر ومدى تنوع منتجاتها الزراعية. ويشرح للقارئ الألماني زيادة في التشويق وجود مناطق خصبة مهملة في قسطنطينة وعنابة والجزائر.وقام بعقد مقارنة بين أمريكا والبرازيل التي يجد فيها المهاجر الألماني نفسه غريباً بينهم ومنبوذاً، أما في الجزائر، فالألمان تحت رعاية الفرنسيين الذين لا يسمحون للجزائري أن يعلو فوق رأس المستعمرين. ويستنتج المؤلف بأن
فنكلمان يهمه بالأساس أن يعيش مواطنوه في بلاد تمنح الأرض منحاً.
أما
هيرمان هاوف وباشتراك مع
ادوارد فيدرمان، فقد أصدر كتابًا صغير الحجم سنة 1835، بشتوتغارت، بعنوان”الجزائر كما هي”، وركّز المؤلف في دراسته لهذا النص على مقدمة الكتاب. في هذه المقدمة لا يبدي الرحّالة إعجابه بغزو فرنسا للجزائر، هذا البلد الذي أرعب الشعوب التجارية في عرض البحر الأبيض المتوسط، لكن فرنسا تمكنت من احتلال هذه المنطقة التي يصفها الرحّالة بالجميلة. ويشكك الرحّالة في نوايا فرنسا الاستعمارية فيقول إن هدف حملتها على الجزائر لم تكن فقط وضع نهاية للقرصنة، بل ان هذه الحملة بدت في ظاهرها “عملاً إنسانياً وحضاريّاً”، وفي باطنها تغذية للأطماع الشخصية البحثة. ويقول الرحّالة بأن الجزائريين ظنوا أنهم بطردهم للأتراك سيصبح في مقدورهم أن يرفعوا رؤوسهم، غير أن فرنسا سرعان ما طلبت منهم الخضوع لها أيضاً. وقد عاود الجزائريون الحميم إلى العهد التركي الذي كان الأنسب لهم ولهذا دفع بهم حنينهم إلى الهجرة الى الشرق للالتحاق بالأتراك هناك، لكن المؤلف يقول ان الرحّالة
هاوف أخطأ في رأيه هذا، فهجرة الجزائريين إلى الشرق كانت بسبب افتقادهم للتجربة ولتدنيس الفرنسيين لأرضهم وليس بسبب الحنين للأتراك. وبالنسبة للمؤلف، تتجلى أهمية هذا الكتاب في أن الرحّالة هو الوحيد تقريباً الذي ناقش مسألة الأسباب التي ساقتها فرنسا لتبرير احتلالها للجزائر.
اما عالم الطبيعيات
موريتس فاغنرMoritz Wagner فيتكون كتابه المذكور أعلاه من ثلاثة أجزاء وصف في الجزء الأول مدينة الجزائر والمدن الأخرى التي زارها، وفي الجزء الثاني تحدّث عن تاريخ الاحتلال والمعارك التي حضرها، وخصّص الجزء الثالث للحديث عن المجموعة الحيوانية الجزائرية، وساعده أخوه
رودولف في كتابة الجزء الثالث. وينتقد الرحّالة
فاغنر في مقدمة كتابه الرحّالة
كامبل الذي يقول عنه إنه شاعر ناجح ورحّالة فاشل، ووصف رسائله بأنها عبارة عن انطباعات سائح عادية، كما وصف الأمير
بوكلر موسكاو بدقة الملاحظة وظرافة النكتة لكنه لم ينجح في فهم حياة الجزائريين وكتابه سطحي. ويقول المؤلف إن
فاغنر على حقّ، فكتاب
بوكلار موسكاو “
سيميلسو في إفريقيا” لا يحتوي على معلومات جديرة بالاهتمام، وقد اهتم الأمير أكثر بالتنوع الطبيعي في الجزائر، كما نقل بعض الرسائل التي من بينها رسالة الأمير عبد القادر الى الجنرال الفرنسي الذي يهدده فيها بالحرب، حيث يحذره
الأمير عبد القادر بأن البدوي “لا صنعة له غير الحرب وأنه في انتظار مرتزقته في أي وقت كان”. ويدافع العسكري الألماني
كارل ديكر عن
فاغنر الذي أهدى كتابه إلى ولي عهد فرنسا، ويصف كتابه بأنه أحسن كتاب ألماني وضع عن الجزائر حتى سنة صدور كتابه هو سنة 1844. وقام في نهاية كتابه بإيراد ترجمة مختصرة لشخصيات جزائرية مثل أحمد باي وفرحات بن سعيد والميلود بن عراش، وأطول هذه الترجمات هي ترجمة الأمير.لكن المؤلف يقول بأن كتاب
فاغنر لا يخلو من تعصّب للفرنسيين حيث استعمل أوصافهم ضد الجزائريين الذين كانت له علاقة متينة معهم، فوصف الجزائريين بالهمجيين رغم أن رجال الأمير ساعدوه في أداء مهامه البحثية أكثر من مرّة.
III.أوجه أخرى للجزائر:يعترف
فاغنر بأن توصيات المسئولين لا تنفع مع العرب الذين يرون في كل الأجانب جواسيس لفرنسا، وهم لا يثقون في أحد، وهو نفسه شعر بالخوف من أحد مرافقيه فقط لأنه أدّى الصلاة. وينقل
فاغنر في كتابه مقابلة بين الجنرال
بيجو والأمير
عبد القادر، والتي نقلها الرحّالة عن النقيب السويسري
فون مورالت. ويقول المؤلف إن الاطلاع على هذه المقابلة من مصادر أخرى يجنب القارئ المغالطات التي وقعت فيها الرواية الفرنسية لقصة اللقاء. وكان
مالتسان المستشرق الألماني والرحّالة قد زار الأمير مرات عديدة، ونقل عنه حبّه لنابليون:”السلطان نابليون رجل الفرنسيون الآخرون كلاب”. ويقدم
فاغنر هنا ترجمة مطوّلة عن الأمير عبد القادر، الذي وصفه بالقوة والفروسية والشجاعة والتدين والورع، وكان قد أجاب على رسالة تهديد من
المارشال كلوزيل بعد الاستيلاء على تلمسان، قائلًا:”…فإذا كان السمك صاحب البحر، فان العربي سيظل كذلك صاحب البادية”.
ويقدم المؤلف الصور التي نقلها
فاغنر في كتبه الثلاثة عن المجتمع الجزائري، فعن القضاء، يتحدث الرحّالة عن المحكمة العسكرية الفرنسية ثم المحكمة الشرعية الإسلامية التي تتشكل من قاض مالكي وقاض حنفي. ويصف
فاغنر الشعور الإنساني بالعميق والقوي لفرنسا التي حاولت منع عقوبة الفلقة التي يفضلها الجزائريون على السجن. وهو تصور يدل على مدى ثقافة فرنسا، لكن الجزائري يحس بالعار إذا دخل السجن، لكن الفلقة لا تشعره به.
ويقارن
فاغنر أسواق الجزائر الصغيرة والفقيرة بأسواق بغداد والقسطنطينة وطهران الكبيرة. ويكتري التاجر الأجنبي أو الجزائري واليهودي في السوق محلاً يعرض فيه تجارته، لكن التجارة لم تكن يوماً مربحة أو مزدهرة في الجزائر. أما دكاكين التجار المحليين فهي أكثر بؤساً. وبضائعها على العموم عبارة عن منتجات يدوية ومحلية. فقد قضى الفرنسيون على الأسواق الجميلة وأقاموا مكانها دكاكين ومخازن أوربية. إضافة إلى الروائح والعطور والمصنوعات القطنية، وهي مصنوعات لا تضاهي جمال البضائع الأوربية. وتتكون سلع العرب من محافظ النقود والعطور والمصنوعات الحريرية المصنوعة يدويّاً.
يقول
فاغنر إن عدد المساجد بالعاصمة 39 مسجدًا، وتكون مكتظة بالمصلين. وكان
فاغنر يحضر الصلاة، ويبرر سلوكه هذا “بالفضول، تلك الرغبة الخاصة بنا نحن الألمان في مشاهدة المناظر الغامضة”، وكانت صلاة الجماعة التي يشارك فيها غامضة بالنسبة إليه. وعلى عكس ماقاله جل الرحّالة، فان
فاغنر يقول إن المسلمين لا يمنعون أحداً من دخول مساجدهم.
ويعلن الجزائريون عن بدء شهر رمضان بإطلاق 100 طلقة من مدفع كبير. ويحرص الجزائريون على سماع الموسيقى في الليل والكسكس بالزيت مع اللحم المقلي والفواكه، بعدها ينصرفون إلى مشاهدة العروض الهزلية أو المسرح الشعبي القرقوز ويشبه ما يحدث في القرقوز بما يحدث في مسرح العرائس الألماني، حيث تتصارع الشخصيات فيما بينها من البداية إلى النهاية. وتحتوي العروض على مشاهد وألفاظ خادشة للحياء، يعتبرها الرحّالة سبباً من الأسباب التي أدت إلى انهيار هذا الشعب الجزائري. وقد شجعته الحكومة الفرنسية.
وتسود البهجة الشعب الجزائري في العيد الصغير، ويؤكد الرحّالة أن سيادة شعب غريب لم ينقص من أفراح هذا الشعب. ويكون الشعب الجزائري أكثر تطرفاً في رمضان وأثناء المناسبات الدينية، لهذا لا يغادر القناصلة وأتباعهم واليهود منازلهم حتى لا يتعرضوا إلى المعاكسات والإهانات ضدهم.
ويصف النساء الجزائريات بالمحجبات، والأكلة الرئيسية في الأعراس خروف مشوي يقطع ويوزع على الحاضرين، بعد أن يدخنوا ويشربوا القهوة ويأكلوا قصعة كبيرة من الطعام. ويذكر أهمية الخاطبات في الجزائر اللواتي لهن حرية التحرك تماماً مثل الرجل. ويقول
فاغنر إن المسلم له الحق في الزواج من أربع نساء إضافة إلى الإماء، إلا أن الجزائر ليس فيها أحد يملك حريمًا حقيقياً، وهناك عدد قليل من الحضر له أكثر من زوجة. وكان
فاغنر يسخر من الموسيقى العربية ومن حركات الرقص، ولا يفوت فرصة إلا ويصف فيها رقصاتهم بأنها حركات رتيبة ليس فيها حد من الجمال والإبداع.
في كتابه “
صور شمسية جزائرية” الذي نشره
شترال في مدينة فيينا في 1842، نشر الرحّالة النمساوي قصصاً وحكايات عن الجزائر، واتسم أسلوبه بالتوجه الرومانسي الذي ظهر في ذلك الوقت، كما صور بعض الشخصيات الجزائرية والأجنبية. ويقع كتابه في أربعة أقسام؛ ويحتوي القسم الأول على القصص التالية: انتقام الحضري، والتي تحكي غيرة الرجل الشرقي على نساءه ونتائج التصورات الخيالية عند الغربيين الذين يعلمون بعالم ألف ليلة وليلة. وقصة المعمر المخدوع، الذي تعرض للنصب والاحتيال، وقصة مغامرة خطيرة.
ويحتوي القسم الثاني مجموعة من القصص، مثل قصة الساحرن وقصة صيد الضباع في نواحي الجزائر، وقصص في حسن الضيافة، وقصة اليهود في إفريقيا التي تصور لنا علاقات اليهود بسلطة الباي في تونس والداي بالجزائر وبايات وهران، خاصة معاملاتهم التجارية.
ويضم القسم الثالث من هذا الكتاب نبذة عن تاريخ الجزائر، ثم ينتقل إلى موضوع النباتات بالجزائر، التي يصفها بمملكة النباتات،”ويمجد المؤلف في مقاله هذا خصوبة الجزائر وما تقدمه لأهاليها من خير ونعمة وعطاء. ثم يحاول المؤلف إعطاء صورة عن الخدمات والصناعات المحلية والتحولات التي شهدتها بفعل احتكاك البلاد بالدخيل الأجنبي، من ذلك أنه” لا يوجد من يفوق الجزائري في تعاطيه للنبيذ، فهو لا ينقطع عن تناول الخمر إلا عندما يفقد الشرارة الأخيرة من وعيه”. ويرسم صورة لبنايات الجزائر الجديدة وشوارعها التي “تجعل الإنسان يشعر بأنه يعيش في مدينة أوروبية ومنجزاتها بعد ثمان سنوات من الاحتلال”.
ويصف شترال حماماً حضرياً، وبعض مظاهر المرأة الجزائرية، وخروجها لحضور الحفلات الدينية يوم الأربعاء، أو لزيارة قبور الأولياء، وجوانب أخرى من شخصية المرأة العربية. ويعود شترال إلى تمجيد الطبيعة الجزائرية، فيصور سهل متيجة حزاماً فاخراً وبساطاً أخضر مزدهر بالعمران. ويصف الرحّالة قبر الرّومية، وهو ضريح له أسطورة معروفة في البلاد.
وفي القسم الرابع والأخير يصف المؤلف بعض المدن الجزائرية، ويذكر بتاريخها وآثارها. ويقول المؤلف إن الرحّالة قدم آراءه حول الجزائر بشكل عام، ولكنه قدم أفكاراً خاطئة كغيره، وقد يرجع ذلك إلى تأثره بالأفكار النمطية التي كانت تنشرها الدعاية الاستعمارية، أو إلى سطحية بعض ملاحظاته عن البلاد ونفسية سكانها.
وألّف الضابط
كليمانس لامبينغ الألماني الذي التحق بالفرقة الأجنبية بالجزائر سنة 1839 قبل أن يعود إلى وطنه، كتابا بعنوان “
ذكريات من الجزائر” نشره سنة 1844 بمدينة أولدنبيرغ. واهتم الرحّالة بعلاقاته بالمواطنين حيث جلس في المقاهي العربية بالقليعة ووصف سكّانها بالعرب الأصلاء، ولم يجد ألطف ولا أكثر إنسانية منهم في الجزائر ووهران. ويذكر بأن اختلاط السكان الأصليين بالفرنسيين قضى على بعض طبائعهم الحميدة. ويذكر بأن الإسبانية منتشرة بكثرة. وطبيعة العربي في نظره متناقضة، تجمع بين الشدة والحلم، القسوة والشهامة، الجشع والكرمز وعلى الإنسان إذن ألا يخضع هذه الطبائع لمقاييس أوروبية خاصة.
ويصف العرب بأنهم محبون للشعر والموسيقى، ولا يخلو مقهى واحد من مغن وقصّاص، مثل
الصوفي الملقب بالحافظ الذي ينشد عن الأندلس وبطولات
عبد الرحمان الداخل وعظمة قرطبة. ويصف شجاعة العربي حين يقارن بين
الأمير عبد القادر في شجاعته وانتصاراته وخطره على الفرنسيين
بيوغرطة الذي يعد في ذاكرة الشعب الجزائري رمزاً لمكافحة الاستعمار، ويبدي تخوفه من أن يتعرض الأمير لما تعرض له يوغرطة من خيانة من أتباعه.
ووضع
لودفيغ بوفري كتاباً بعنوان “
مستقبل الجزائر في ظل السيادة الفرنسية” نشره سنة 1855 ببرلين. وأهداه إلى
نابليون الثالث “إعجاباً بالحضارة الجديدة التي دخلت إفريقيا بفضل الفكر الجبّار الذي يهب من فرنسا… وحلّت محل الحضارة القديمة..”، في زعمه. ويصف الأمير عبد القادر تماماً كمن سبقه
بيوغرطة، ويصفه بالبطل ويقول: “إن العقل الشرقي الذي يمتاز بخياله وشاعريته يحمل الشرقيين، وخصوصاً العرب، على تخليد أعمال أبطالهم وانتزاعها من الماضي”، وأن ذلك كفيل بتخليد بطولته، ما بقيت اللغة العربية حية خالدة وما بقي العرب يحتلون مكانهم بين أمم الكرة الأرضية.
ويؤكد المؤلف أن الشعر الشعبي في الواقع ليس غريباً عن المواطنين، فكل إنسان منهم شاعر بالفطرة، وأشعارهم مرتجلة لكنهم يحفظون أيضاً أشعاراً عن الأجداد. ويدندن النساء بأغاني أثناء قيامهن بأعمال البيت، وهي مقاطع تلقي الضوء على خلق المرأة العربية، ويقول الرحّالة إن في بعض أغانيهم رنّة هجائية تفضح عيوب أرفع الناس قدراً لديهم بطريقة هزيلة. ويورد بعض هذه الأشعار التي يرى أهميتها في أنها تلقي الضوء على حياة العرب العائلية والنسائية. ويقول: “إن الإنسان حين ينظر إلى الأوضاع التي تعيش فيها الجزائر…، يظن أن سكانها أبعد الناس عن الشعر، ولكن الواقع خلاف ذلك.” ويقترح جمع هذا النتاج الشعري ونشره بين الناس نظراً لأهميته وخطورته.
IV.استنتاجات:يقول المؤلف إن غاية هؤلاء الرحّالة بتأليفهم لهذه الكتب هي في أغلب الأحيان الدسّ والتشويه، لأن مصالحهم اقتضت دائمًا قطع كل صلة تربط الجزائر بماضي الأجداد. ويحدّد المؤلف مهمته من خلال هذا العمل في المشاركة في إعادة كتابة تاريخ بلاده بما أنه يتقن اللغة الألمانية، وتتم مشاركته في نظره عن طريق عرض النصوص المكتوبة بهذه اللغة وتقديمها للمؤرخين المتخصصين لتقويمها ومقارنتها مع نصوص أخرى وفحص مدى صحّتها وموافقتها للوقائع التاريخية.
نقل إلينا الرحّالة الألمان في مؤلفاتهم التي نتجت عن معاينة مباشرة وباطلاع على ما كتبه الأوربيون أو مواطنوهم الألمان الذين سبقوهم الى الجزائر، صوراً عن العادات والتقاليد والآثار والشواهد الدينية مثل المساجد. وتفتح هذه التفاصيل الدقيقة التي نقلها إلينا المؤلفون الألمان أمام الدارس مجالاً كبيراً لدراسة نفسية الشعب والتطورات التي تطرأ عليه، وتساعد على تفسير بعض التصرفات المعينة في ظروف معينة، إضافة إلى أنها تربط حاضرنا بماضينا وتكون جزءاً من تكويننا الخلقي وشخصيتنا القومية. وينقل لنا المؤلف الألماني أيضاً مشاعره نحو الجزائر والتي تتراوح بين الإعجاب والخوف والحقد، أو كل هذه الأحاسيس مجتمعة. وهي مشاعر تساعدنا أيضاً على فك شفرة نظرة هؤلاء تجاه الجزائر كمواقف تاريخية وسجل لتاريخ البلاد. وركّز المؤلف كثيراً في كتابه على موريتس فاغنر الذي قدّم لنا معلومات علمية مفصّلة عن البلاد وجغرافيته وإثنياته وتاريخه.
ولا شكّ أن سنة 1830 ستكون أيضاً نقطة تحوّل كبيرة في نظرة الرحّالة الأوروبيين عمومًا والألمان على الخصوص الى تونس، وهذا ما سنراه في عرضنا لكتاب الأكاديمي التونسي منير فندري “
الانسان المثقف في البربري الأجنبي، الرحّالة الألمان في تونس القرن التاسع عشر”.