2013-11-10 إدوارد سعيد مروِّضا جان بول سارتر
|
| |
كثيرا ما تمّ التشديد، ومن قبل دارسين كثيرين، وفي سياق دراسة موضوع "المثقف" في "المنجز السعيدي": نسبة إلى الأكاديمي الأمريكي والكاتب الفلسطيني الأبرز والأشهر إدوارد سعيد (1935 ــ 2003)، على تأثير المنظـِّر الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي (1891 ــ 1937). ثم إن إدوارد سعيد كان بدوره لا يكفّ، وسواء في كتاباته التحليلية أو في مقابلاته الصحفية، عن التشديد على هذا التأثير... وكل ذلك في دلالة على الاعتقاد في جدوى أطروحة "مركزية المثقفين (لا الطبقات الاجتماعية) في المجتمعات العصرية". الأطروحة التي كان إدوارد سعيد يقابلها بأطروحة سابقة، ومتداولة، وهي أطروحة "خيانة المثقفين" في دلالة على عنوان الكتاب الأشهر الذي نشره جوليان بندا العام 1927. وفي هذا الصدد أخذنا نقرأ، وفي إطار من الثقافة العربية المعاصرة، مقالات تخوض في محور "من بندا الفرنسي إلى غرامشي الإيطالي إلى إدوارد سعيد الفلسطيني".
وحتى إن كان موضوعنا لا يتعلق بـ"المصادر" التي اعتمدها إدوارد سعيد في بناء "مرجعيته" المعرفية المحكمة، وعلى النحو الذي جعله "علامة" على نظرية مستقلة وقائمة بذاتها وهي "نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي" (Postcolonialism)، فإن ذلك لا يحول دون التذكير بأسماء أخرى كان لها هي الأخرى تأثيرها في المنجز السعيدي ــ وهذه المرّة ــ في جبهاته المتعدّدة، والمفتوحة، كتأثير الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو والروائي الإنجليزي (من أصل بولوني) جوزيف كونراد والفيلسوف الجمالي الألماني تيودور أدورنو ومواطنه ــ أو "عالم الأدب العظيم" كما تمّ توصيفه ــ إيريك أورباخ والمؤرخ والمفكر الإيطالي جيامباتسيتا فيكو... إلخ. والغائب الأكبر، ضمن هذا التأثير، يظل دوما هو المرأة في حضورها بدورها في حقول الفلسفة والأدب والسياسة؛ وقد طرح السؤال على إدوارد سعيد، في أحيان، وكان له "جوابه" الذي لا يفارق "الخطاب النظري" حين "يمثـِّل، وبكل بساطة، امتيازا ذكوريا" إذا جازت عبارة صديق إدوارد سعيد الفيلسوف ومؤرخ الأفكار تزفيتان تودوروف(1).
وجان بول سارتر (1905 ــ 1980) واحد من الأسماء، الأخرى، التي "استحضرها" إدوارد سعيد، في ترسانته القرائية المسافرة بين اللغات والثقافات، وفي تنظيره المحكم لـ"مفهوم المثقف"، ومن خلال التركيز على "صور" أو "تمثيلات" (Representations) هذا الأخير إذا جاز أن نأخذ بعنوان الكتاب الذي خصـّه سعيد نفسه للمثقف (1994)(2). وليس من شك في أن الفيلسوف الفرنسي سارتر، كان قد أكـَّد حضوره، وفي العالم ككل، وعلى مدار الخمسينيات الصاعدة والسبعينيات النازلة؛ ودونما تغافل، هنا، عن انتشار "البنيوية" الذي أخذ في الاكتساح منذ منتصف الستينيات من القرن الماضي، وعلى النحو الذي دفع بالبعض إلى أن يتصوّر كيف لو أن كارل ماركس عاش في هذا المناخ لصار "بنيويا". إجمالا لقد كان لهذا المذهب، الذي تصوّره البعض "ديانة"، تأثيره على مستوى الحد من بريق توهج سارتر المتزايد في سياق العالم الساخن.
ولقد تمكـّن سارتر على تأكيد حضوره سالف الذكر من خلال جبهات متعددة استطاع أن يصل داخلها ما بين النشاط الفلسفي والسرد الروائي والتأليف المسرحي وكتابة المقال والتعليق على الأحداث والوقائع والمستجدات التي كانت تعصف بالعالم وقتذاك. هذا بالإضافة إلى دور المثقف الذي يكون، ومن منظور الحاضر، هو الأهم أو هو الأبقى في سياق النظرة الإجمالية للمنجز السارتري؛ ذلك الدور الذي أصّر عليه سعيد وبما في ذلك ــ وعلى نحو أرجح ربما ــ داخل "الحيز" أو "المشهد العام" الذي كثيرا ما كان سارتر يؤثثه بحضوره اللافت والساطع الذي بلغ حد "التحريض" في أحيان. والتحريض، هنا، على التمرد والثورة وعلى "العنف الشرعي" (أو "المطهـَّر" بترجمة أخرى) إذا جازت عبارة صديق سارتر الطبيب والمثقف فرانز فانون. ومن هذه الناحية، وعبر هذا النوع من الحضور المتنوع والكثيف، فإن سارتر بلغ حد "أيقونة العصر" التي تجاوزت التأثير في مجال الذهن نحو التأثير في مجال السلوك. وألم يكن في تلك الفترة من كان يرجـِّح أهمية اليسار على مستوى صيغ الوجود وطرائق العيش والإحساس مقارنة مع طرائق التفكير ذاتها؟(3). ومن هذه الناحية كان سارتر "نموذج مثقف" مثلما كان "نموذج حياة". هذا وإن كان الباحث الفلسفي المغربي عبد السلام بنعبد العالي يمايز، في دراسته "سارتر والثقافة العربية"، ما بين النموذجين حين يقول: «لقد شكل سارتر بالنسبة لجيل بكامله نموذج حياة، أو على الأقل نموذج المثقف»(4).
ومن ثم ارتقى سارتر إلى "ملهم الشباب" و"خادم الماويين" مثلما ارتقى إلى "معبود العالم الثالث" بعد أن ناصر أغلب قضاياه مثل قضية الشعب الجزائري والشعب الكوبي والشعب الفيتنامي وقضية المهاجرين ... والمستضعفين والمضطهدين والمستعمـَرين بصفة عامة، بل وكان وراء إشاعة عبارة "العالم الثالث" التي أطلقها عالم الديمغرافيا الفرنسي ألفريد سوفي (Alfred Sauvy) في مقال له يعود إلى العام 1952. سارتر الذي قضى معظم وقته في الستينيات في الأسفار إلى الصين والعالم الثالث حتى يكون شاهدا على العصر. وكان هذا العالم الأخير لا يعرف، وبـ"القهر القومي" الذي لازمه، وبصورة تامة، إلا من خلال علاقته بالاستعمار.
والظاهر، وهو ما تعلـِّمنا إياه الدراسات التأويلية، أن النص (النص المكرّس والمعتبر، تعيينا) يظل محكوما بـ"تاريخانيته" (Historicité) التي هي قرينة سياقه التاريخي المخصوص الذي هو مدار تشكـّلات هذا النص، وخصوصا من ناحية مفهوم "الخطاب" (Discours) الذي يكون مناط التأويلات أو بالأدق مناط "صراع التأويلات". غير أن هذا الصراع، وعلى أرض التأويل ذاتها، لا معنى له من خارج دائرة الحاضر أو "شرط الحاضر" الذي هو قرين "تاريخية القراءة" ذاتها في التباسها بالسياق التاريخي الراهن. ومن ثم تتبدى أهمية "النص التحتي" في سياق البحث، اللاهب، عن "الأفكار" التي تفيد على مستوى "إضاءة الحاضر" من خلال "التأثير" الذي هو قرين "التخطيب" أو "الاستبناء الخطابي" (Mise En Discours) الذي هو بدوره قرين "الأفكار" التي تتحول إلى "قوة مادية" تبعا للتوصيف الماركسي. ومن ثم فكرة التمييز ما بين "اللهب" و"الرماد" المتضمـَّنة في صيحة الشاعر المفكر أدونيس ("أطالب بالانفصال عن الرماد، لا عن اللهب") وإن في سياق حديث هذا الأخير عن التراث العربي(5)، التمييز الذي تقتضيه القراءة أو بالأحرى "الفكر القرائي".
وعلى هذا المستوى الأخير، وحتى إن كانت تتبدّى، لنا، والآن، أفكار كثيرة، لسارتر، ذات "قيمة تاريخية"، وحتى إن كانت تتبدى لنا، كذلك، في شكل "نتف" و"شعارات" كانت تفرضها المرحلة، التي عاشها، فإن بعض هذه الأفكار ما تزال تنطوي على "قابلية تطبيقية" تسمح بـ"ترهينها" في الحاضر ولاسيما حاضرنا العربي المغلوب والمأزوم والمنهك بإرث الاستعمار وتبعات الاستبداد ومستلزمات التخلف. وفي مقدّم هذه الأفكار فكرة "المثقف" التي سلفت الإشارة إليها قبل قليل. غير أن مثل هذا الترهين سيبدو عديم الفائدة من خارج دائرة "الفكر القرائي" الذي سلفت الإشارة إليه قبل قليل والذي يتواشج مع الواقع وعبر إواليات "الاستقطار" لا "الاستنساخ" أو عبر إواليات "التأثير المتبادل" لا "التوصيف المتهالك"، وكل ذلك في المنظور الذي لا يفارق مدار "التناص الموجب" الذي يصل، وفي حال فكرة المثقف ذاتها، ما بين "تاريخية النص" (المتمثـِّلة، هنا، بفكرة المثقف السارترية) و"تاريخية القارئ" (المتمثـِّلة، هنا، بإدوارد سعيد في انقلابه على "فعل القراءة" ذاته تأكيدا على "المتوالية القرائية" التي بموجبها يتكشـّف تصوره لموضوعه).
وفي الحق فإن التأثير السارتري، في العالم العربي، أوسع، بكثير، من أن يتم حتـّى جرد علاماته الكبرى. ولا يبدو غريبا أن تتواصل "استعادته" و"محاورته"... في هذا العالم، وفي دلالة على استمرارية الحاجة إليه في الثقافة العربية ولاسيما من خلال خطاطات وعناوين مثل "نحن وسارتر" و"راهنية سارتر" و"سارتر والفكر العربي المعاصر" و"حضور سارتر في العالم العربي". و"مهما اختلفنا حول قيمة فكر سارتر فإننا لا نستطيع أن ننكر أن الرجل تمتع عندنا بحضور قوي خلال فترة لا يستهان بها" و"لنقل إنه شكـَّل [...] جزءا من تراثنا الفكري المعاصر" كما يقول الباحث المغربي عبد السلام بنعبد العالي في مقاله "سارتر والثقافة العربية". وعلى ذكر المغرب لا بأس من أن نشير إلى مجلة "الأزمنة الحديثة" (الورقية، تعيينا) في هذا البلد، وفي دلالة على عنوان مجلة سارتر (Les Temps Modernes) التي ظهرت العام 1945. وقد بلغت المجلة، بالمغرب، وحتى الآن، عددها المزدوج (6 ــ 7/ 2013) الذي تضمن دراسات حول "فلسفة هايدجر" و"الفلسفة التفكيكية عند دريدا" ومحور "الدين والفلسفة"... إلخ. ولا داعي لاستنطاق "مدلول العنوان"، وفي إطار من "المواجهة الأعرض"، بالنظر لشبكات التطرق ونيران التخلف وحرائق الظلام... التي لا تزال تعوق المغرب، والعالم العربي بعامة، في تقدّمه من أجل الانخراط في مطلب "الأزمنة الحديثة".
وعلى ذكر العالم العربي، وفي حال إدوارد سعيد تعيينا، فإنه لا ينبغي أن تفوتنا الإشارة إلى أن صاحب "الاستشراق"، ورغم بعض ميوله العربية، يظل، في النظر الأخير، نتاج "السياق الأكاديمي الأمريكي". وكان سارتر بدوره يتصوَّر، في كتابه "ما الأدب" (1947)، أن المثقفين، في الولايات المتحدة الأمريكية، كانوا يشبـِّهون الأفكار الأوروبية بباقة ورد تشم غير أنها سرعان ما تذبل وتلوى ويلقى بها طالما أنها تذبل بسرعة(6). وفكرة المثقف ذاتها، وكما سنلاحظ بعد حين، لم تكن متداولة في السياق الأمريكي بالنظر إلى لغة "التخصّص" و"الاحترافية" التي تبدو مهيمنة وكاسحة في هذا السياق. وأهمية إدوارد سعيد تكمن من هذه الناحية بالذات: ناحية البحث عن دور مفترض، ومحتمل، لـ"المثقف" داخل السياق الأمريكي المرتـَّب والمعاكس. ولذلك كان إدوارد سعيد أوّل من درّس غرامشي في أمريكا كما يقول، لكن دون أن تفوته الإشارة إلى "العقبات" التي كان يطرحها تدريس غرامشي والحديث عنه هناك [وإن من خارج التركيز على "أولوية العامل الإيديولوجي"](7).
ويمكن الوصل، بصدد مفهوم "المثقف"، ومن بعض الوجوه، بين تصور إدوارد سعيد وتصور جان بول سارتر. وكان هذا الأخير قد صاغ تصوره في أكثر من كتاب وبخاصة في كتابه "دفاع عن المثقفين" (1972) الذي ضم ثلاث محاضرات كان قد ألقاها في اليابان العام 1965 جنبا إلى جنب حوارات لاحقة حول المثقف ذاته والكاتب والوضع السياسي في فرنسا (أحداث 1968 بخاصة) وحول أحداث كانت لا تزال ــ وقتذاك ــ تلقي بظلالها في العالم ككل كحدث "حرب الفيتنام" ومخلفات "الاستعمار البشع" الذي تعرضت له الجزائر... إلخ. والظاهر أنه يمكن أن نصل بينهما من ناحية أفكار عديدة كتلك التي تعنى بـ"المثقف الفرد" و"واجب المثقف" وعدم "استقرار مفهوم المثقف" وخطورة "استعمال المثقف" وخطر اختزال دور هذا الأخير في "التقنية"... إلخ. وسيكون من المفيد، في سياق الوصل بينهما، التذكير بالمثقفين الذين "ناصرهم" كل من إدوارد سعيد وجان سارتر مثل الكاتب العبقري جان جنيه والطبيب فرانز فانون. فقد خص سارتر جان جنيه بكتاب خلافي "القديس جنيه" (1952)، مثلما خصّ كتاب فرانز فانون "معذبو الأرض" (1961) بمقدمة قوية اعتبرها بعض منتقدي سارتر "دموية". الكتاب الذي صودر في الحين داخل فرنسا التي كانت على مشارف أن تصبح، بتعبير سارتر، في المقدمة ذاتها، "مرضا نفسيا" لا "بلدا" كما في الماضي، وعلى وجه التحديد في تلك الفترة التي كان يكفي فيها أن يلتقي فرنسيان حتى تكون بينهما جثة كما يواصل سارتر في نص المقدمة. وكما لخّص سارتر أيضا: "أقرؤوا فانون: فستعلمون أن جنون القتل هو لاشعور المستعمرين الجماعي، في زمن عجزهم"(8).
هذا بالإضافة إلى مناصرة سارتر لبعض قضايا "العرب" و"العالم الثالث" بصفة عامة عدا قضية فلسطين التي صمت عنها لفائدة "موقفه القوي المؤيد" لإسرائيل. وفي هذا الموقف "شيء من الجبن"، وصاحبه كان "يخشى أن يتهمه أصدقاؤه في باريس بمعاداة السامية إن قال أي شيء يساند به حقوق الفلسطينيين" كما قال جان جنيه. فقد "استعبدت الصهيونية" هذا "المفكر الغربي العظيم" كما لخص إدوارد سعيد في المقال نفسه الذي خصـَّه لجان جنيه(9).
وكان من الواضح أن يتمّ تسجيل هذا الموقف على سارتر ومنذ فترة طويلة تعود إلى زيارته للقاهرة، وبدعوة من "دار الأهرام"، العام 1967. ودون التغافل عن العمل الذي كان قد خصـَّه لليهود والذي كان قد ظهر العام 1946، ونقصد إلى كتابه "تأملات في المسألة اليهودية". هذا عدا إشاراته المتكرِّرة بخصوص الموضوع نفسه. وإذا كان الكاتب سهيل إدريس (وهو واحد من مترجمي ومقدمي سارتر في العالم العربي) قد استقرّ، في تقديم الملف الذي كرسته مجلته "الآداب" (السنة 28، العدد 4 ــ 5، 1980)، وفي إثر وفاة سارتر، على أن موقف هذا الأخير من القضية الفلسطينية "محيّر" فإن الكاتب أحمد أبو زيد تصوّر أن سارتر خان مبادئه وتنكر لها حين وجد نفسه في موقف قد يثير ضده يهود فرنسا والعالم كما ورد في الدراسة التمهيدية ضمن الملف، الآخر، الذي كرسته مجلة "عالم الفكر" لجان بول سارتر (المجلد 12، العدد 2، 1981).
لقد تحدث إدوارد سعيد، في كتابه "مسألة فلسطين"، وبأسلوب أخـّاذ، عن "تواطؤ الغرب ومثقفيه تجاه المأساة الدائمة" (فلسطين)، مثلما تحدّث عن "نفاق الخطاب الغربي" ــ بخصوص المأساة ذاتها ــ وعلى نحو ما يشترك في صياغته صحفيون ومثقفون وبعض الصهاينة الليبراليين... إلخ. فالمشكل، هنا، هو مشكل ثقافة متجذرة وقائمة بذاتها، في فرنسا والغرب بعامة، تجاه الفلسطينيين(10). والظاهر أن الحيرة التي انتابت كل من سهيل إدريس وأحمد أبو زيد، ومن خارج "الإسمنت الثقافي"، انتابت سعيدا بدوره، لكن على نحو مباشر وسافر وجارف، هذه المرة، بالنظر للقاء الذي أتيح له مع سارتر (العجوز) في شرفة الفيلسوف ميشال فوكو بباريس يومي 13 و14 آذار مارس من عام 1979؛ مما جعل صاحب "الثقافة والمقاومة" يتساءل عن "سرّ تعلـُّق سارتر بالصهيونية".
إجمالا لقد خصّ سعيد هذا اللقاء بمقال انطباعي، نقدي، سيظهر بعد عقدين من الزمن على رحيل سارتر وتحت عنوان "لقائي مع سارتر" (الفيلسوف، إسرائيل والعرب) بـ"لوموند ديبلوماتيك" (عدد أيلول/ سبتمبر 2000). مقال لا يخلو من نقد مبطن لسارتر الفيلسوف أيضا، ومن شك في مدى تمكـّنه من الفلسفة الألمانية التي كتب عنها. فهو، وكفيلسوف، لم يِؤخذ البتة على مأخذ الجد في العالم الأنجلوسكسوني كما ورد في المقال. ونقد من هذا النوع صيغ داخل فرنسا أيضا، ومن قبل كبار فلاسفتها من الذين أخذوا في "خلخلة الفكر الفلسفي السائد" منذ منتصف الستينيات ومن أمثال لويس ألتوسير وميشال فوكو وجاك دريدا، وهو نقد تمَّت معارضته من داخل فرنسا أيضا. ولذلك فإن نقد إدوارد سعيد ينبغي التعامل معه بـ"تحفظ"، إضافة إلى أنه لا يستند إلى "خلفية فلسفية". فسارتر، ومهما كان الخلاف معه، غيـّر من التصوّر السائد للفلسفة، وخصوصا في المدار الذي يقرنها بـ"الأكاديميا" المعزولة عن مشكلات العصر والناس والمجتمع.
وحتى نظل في إطار من "إشكالية الموقف من الصهيونية" فالمسألة لم تكن ترتبط بجان بول سارتر فقط، وبسيمون دوبوفرار التي ارتبطت به والتي كان لها هي الأخرى تأثير بالغ في العالم العربي، وإنما كانت ترتبط بـ"اليسار" الفرنسي ككل وبمختلف أطيافه الماركسي والسارتري والمسيحي كما يشرح عبد الكبير الخطيبي في كتابه "النقد المزدوج". وقد اتسمت مواقف هذا اليسار بـ"الالتباس" و"العجز" عن اتخاذ "موقف منسجم" من الصراع الذي يدور بين الصهيونية والقومية الفلسطينية. غير أنه في حال سارتر كان لموقفه تأثير مغاير، خصوصا وأن "العالم [وقتذاك] أصبح في جزء منه سارتريا" كما يعلق الخطيبي(11).
وكما يمكن أن نصل بين تصوّر سارتر وتصوّر إدوارد سعيد، اللاحق، من ناحية "البعد السياسي" للمثقف أو "المثقف السياسي" الذي هو نتاج "الأزمنة الحديثة" أو "ناتج تاريخي" كما يقول سارتر، ودور هذا المثقف المتمثل في أن "يجهر بالحقيقة" أو في أن يكون "شاهدا" على "المجتمعات الممزقة التي تنتجه، لأنه يستبطن تمزقها بالذات". ومن ثم منشأ تمييز سارتر بين ما يسميه "المثقف الحقيقي" [كمعادل لـ"الهاوي" عند سعيد] و"المثقف المزيف" الذي لا يقول "لا"، مثله مثل المثقف الحقيقي، بل يقول "لا، ولكن..." أو "أعلم ذلك حق العلم ولكن ينبغي أيضا..." وما إلى ذلك. هذا بالإضافة إلى أن "المثقف المزيف"، ومن حيث هو "كلب حراسة" تبعا لتصور نيزان الذي يشير إليه سارتر، هو العدو المباشر الألد للمثقف(12). ويتمركز جهد إدوارد سعيد، في "صور المثقف"، وكما يلخص تركي الربيعو، حول أمرين: الأول هو "البحث عن المثقف الحقيقي الحق" على حد تعبيره، والثاني "تفعيل دور المثقف لمواجهة السلطة"(13).
وكما يمكن أن نصل، ونفصل في الوقت ذاته، بين إدوارد سعيد وجان بول سارتر، من ناحية تصوّر كل واحد منها للكاتب. فهذا الأخير، بدوره، يقوم بـ"دور المثقف" كما يتصور إدوارد سعيد في "صور المثقف"(14). وهي الفكرة التي كان قد قال بها جون بول سارتر في كتابه "دفاع عن المثقفين"، لكن دون أن يماهي بين الطرفين. يقول هذا الأخير في هذا الموضوع: "فلن تكون للمثقف من مهمة غير فنه. ولكن لا مرية مع ذلك في أن هناك كتابا يلتزمون وينخرطون في معترك النضال من أجل تحقيق الشمولية إلى جانب المثقفين، إن لم نقل في صفوفهم"(15). وكان سعيد قد أكد من قبل على فكرة "الكتابة" باعتبارها "مشروعا" يطوِّعه صاحبه في "المواجهة الأعرض"؛ والكتابة، هنا، باعتبارها "حضورا نقديا مستقلا" لا باعتبارها "مهنة" تمتهن صاحبها وتشل من حضوره النقدي. وكما عرض سعيد للصلة التي تصل ما بين الطرفين في كتابه اللاحق على "صور المثقف" (1994)، ونقصد إلى كتابه "الإنسية والنقد الديمقراطي" (2004) الذي أنهاه بفصل حول "الدور العمومي للكتاب والمثقفين". وكما يشرح: فالكاتب، في الاستخدام اليومي للغات والثقافات التي ألفتها، هو الإنسان الذي ينتج الأدب، أي هو الروائي والشاعر والكاتب المسرحي. غير أنه، وكما يعترض، تصاعد، على مدار الفترة الأخيرة من القرن العشرين، اكتساب الكاتب لصفات الجدال والاعتراض المنسوبة عادة للمثقف ولا سيما من ناحية عبارة سعيد الأثيرة حول "قول الحق في وجه السلطة". ومن ثم منشأ الوصل أو الدمج بين الطرفين في سياق التأكيد على انتماء كل طرف إلى الآخر على الرغم من الأصل والتاريخ المنفصلين لكلاهما. ولذلك لا حاجة للتمييز بينهما ما دام كلاهما فاعلا في الحيز العام، ويتصور سعيد أن أحد معالم الحداثة هو كيفية احتياج الحيز الجمالي والحيز الاجتماعي في حال من التوتر المستدام(16).
وهذا لكي لا تفوتنا الإشارة إلى موقف كل واحد منهما من دور الناقد الذي كثيرا ما شدّد عليه سعيد، بل وتصور أنه أهم ما يدلّ عليه في سلـّم الجبهات والواجهات التي خاض فيها. هذا بالإضافة إلى حس الناقد الذي تجلي في النقد الموسيقي والنقد السياسي الذي خاض فيه سعيد، وهذا بالإضافة إلى ما اشترطه سعيد من دور للمثقف وفي المدار ذاته الذي يحمي الناقد من السقوط في دائرة التخصّص(17). إجمالا فقد ظل سارتر ينظر بعين الريبة والتشكيك إلى دور النقد، بل وسخر سخرية قاسية من النقاد الذين ظلـّوا يقتصرون في نقدهم على دراسة جوانب الكتاب من نواحي الصياغة أو النواحي النفسية كما يشرح محمد غنيمي هلال مترجم "ما الأدب". يقول سارتر: "ولا يصح أن يغيب عن الأذهان أن أكثر النقاد هم من بين الكتَّاب الذين لم يواتهم الحظ، والذين وجدوا لأنفسهم، على شفا اليأس، عملا هادئا هو حراسة المقابر"(18).
أجل لقد لعب إدوارد سعيد دور المثقف المسؤول في عالم الثمانينيات والتسعينيات وحتى السنوات الأولى من القرن الجديد بنفس الطريقة التي لعب بها جان بول سارتر هذا الدور في الستينيات، وإن اختلفت تجليات كل من الدورين بتمايز المرحلتين وتباينهما كما قال الناقد الرصين صبري حافظ في مقاله "إدوارد سعيد: حضور فعّال ودائم"(19). إلا أنهما اتفقا، ورغم الاختلاف في السياق والظروف، حول جذر محاذاة "الألغام" والمخاطرة ــ تاليا ــ بالذات. وقد اتهم سارتر بـ"خيانة فرنسا"، وحرم من العديد من الأنشطة الرسمية، ونسف بيته في مناسبتين (1960 و1961)، ورفع ضده شعار "أعدموا سارتر"، بل وتعرض لمحاولات اغتيال من قبل منظمة الجيش السرية التي استولت على مجلة سارتر "Les Temps modernes" خمس مرات. وكما كان لسارتر مريدين وأعداء، وهو ما تلخـِّصه عبارة: "صاحب "الوجود والعدم" وكلابه" لصاحبها الفيلسوف الشاب ــ وقتذاك ــ ميشال أونفري. غير أن سارتر، ورغم ما سلف، لم يعتقل أو يودع في السجن، وثمة تعليق طريف في الموضوع نفسه لديغول الذي كان يقول: "لا نستطيع القبض على فولتير" و"أن سارتر هو فرنسا وفرنسا هي سارتر". وكما لخّص آرنسون فقد حرم البوليس سارتر ودوبوفوار من شرف الاستشهاد فتركهما حريّن طليقين. وكان إدوارد سعيد بدوره قد هدّد كثيرا في حياته، مثلما كان مراقبا من قبل أجهزة المخابرات الأمريكية، ونعت بـ"بروفيسور الإرهاب"، وتعرض مكتبه للإحراق.
سيكون، إذا، من الصعب القول بأن إدوارد سعيد حاول أن يستعيد "المثقف السارتري" كما يتصور البعض، أو القول بأن سعيد هو "سارتر العرب"(20)، طالما أن صاحب "الكلمات" لم يكترث، كثيرا، بالتمييز بين "الاختصاص" ("المثقف المحترف") ونقيضه ("المثقف الهاوي") الذي أصر إدوارد سعيد على التأكيد عليه في نطاق استخلاصه لـ"مفهوم المثقف". فـ"تـقني المعرفة" بدوره يطرح، في تصور سارتر، ولو بـ"القوة"، مفهوم "المثقف"(21). وكان المؤرخ المفكر المغربي عبد الله العروي قد لفت الانتباه، في حوار معه، إلى أن المثقف الخبير قد أدى دورا إيجابيا، وطورا دورا سلبيا(22). ومعنى ذلك أنه لا ينبغي أن ننظر، وأبدا، إلى المثقف الخبير بعين من التشكيك ... ما دام أنه بدوره يضطلع بدور متعين داخل جوقة المثقفين.
إضافة إلى عدم خوض سارتر، ورغم سفرياته الكثيرة، في أمور مثل "المنفى" التي تبدو "حاسمة" في تصور إدوارد سعيد للمثقف؛ بل إن صاحب "صور المثقف" يعد من بين المنظـِّرين الأساسيين للمنفى. والمؤكد، هنا، أن إدوارد سعيد، وهو ما نكون قد أومأنا إليه كذلك، كان يستجيب للسياق الأمريكي. أمريكا التي كان جان بول سارتر بدوره لا يرتاح لها، وأمريكا التي كان إدوارد سعيد لا يتصور إمكانية العيش خارجها على الرغم من تناقضاتها. وكما يضيف: "فالمنفى، وبـ"إنجازاته" و"فوائده"، يندرج في صميم مفهوم "الأمة" في الولايات المتحدة الأمريكية؛ بل إن المنجز الأساس في الثقافة الغربية الحديثة، ككل، صنعه المنفيون، والمهاجرون، واللاجئون كما يضيف إدوارد سعيد(23). والأهم كان لهؤلاء تأثير حاسم على مستوى التنظير والإسهام الأكاديمي. كتب العروي في خواطره: "تتجول في أمريكا، تسمع الأخبار، تقرأ الصحف، تحاور الناس... ثم تستخلص: يعلمون كل شيء عن الدنيا، ولايهتمون بشيء في الدنيا... أخبارهم المسترسلة كلها محلية، بحوثهم الأكاديمية كلها عالمية الأفق. ما كان يؤخذ عليها من نقص تنظيري صححه السيل المتزايد من الأساتذة والباحثين المهاجرين"(24). ولعل هذا ما يدخل في نطاق ما يصطلح عليه، في "نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي"، بـ"مفهوم الفضاء الثالث" (Third Space).
يبدو جليا، من خلال هذا البحث، أننا وصلنا ما بين إدوارد سعيد وسارتر من ناحية مرتكز المثقف ولاعتبارين: أولهما يتصل بالنظرة التراتبية التي تفضي بنا إلى التشديد على موضوع المثقف مقارنة مع باقي المواضيع التي يتشكل من مجموعها "العمل السارتري" (وهو ما أومأنا إليه في مقدمة البحث)، وثانيهما يتصل بتصوّر إدوارد سعيد للمثقف الذي لاح أنه "رسم الملامح الأولى لمثقف القرن الحادي والعشرين"(25). وفي السياق ذاته فإنه يمكن أن نوافق عبد السلام بنعبد العالي على أن سارتر "لم يمدنا بنظرية كافية عن المثقف"... "وربما لأن ذلك كان يستلزم إعادة نظر في مفهومات لن تتبلور إلا فيما بعد كمفهوم السلطة وعلاقتها بالمعرفة، وكل ما سيسفر عنه البحث في ما سيسمى "الاقتصاد السياسي للحقيقة" كما يشرح بنعبد العالي نفسه.
وفي ضوء المأخذ الأخير يمكن أن نبرّر إحالات إدوارد سعيد المعدودة على سارتر، في "صور المثقف"، مقارنة مع غرامشي وجوليان باندا وماتيو أرنولد وتشومسكي... إلخ. ورغم ذلك فإنه لا يمكن شطب سارتر ما دام أنه "مندمج" في نسق إدوارد سعيد القرائي التوليدي/ التصوري الكوني للمثقف. ذلك النسق الذي يتداخل فيه معطى الاستعمال والتوظيف بآليات الجدل والاعتمال والاعتراض والترويض. فسعيد ليس من النوع الذي تتسرّب الترجمة أو "الفكر الترجمي" في تحليلاته وتعليقاته ومحاضراته، فـ"صوته" يظل واضحا ومكشوفا. ومن ثم فهو لا يستخدم هؤلاء، وإنما يخدمهم؛ وهو يخدمهم بالقدر نفسه الذي يخدم خطابه الإشكالي والآسر. ولذلك فـ"ترويض سارتر"، ومن منظور "عدسة إدوارد سعيد"، دليل على أهمية سارتر ودليل على "آلة التحليل" في الوقت ذاته