** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
الرئيسيةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوع
 

 إدوارد سعيد - أنسنية بلا ضفاف بقلم د.حازم خيري

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
تابط شرا
فريق العمـــــل *****
تابط شرا


عدد الرسائل : 1314

الموقع : صعلوك يكره الاستبداد
تاريخ التسجيل : 26/10/2009
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 3

إدوارد سعيد - أنسنية بلا ضفاف بقلم د.حازم خيري Empty
21092012
مُساهمةإدوارد سعيد - أنسنية بلا ضفاف بقلم د.حازم خيري

إدوارد سعيد - أنسنية بلا ضفاف بقلم د.حازم خيري





"مهيارُ وجهٌ خانهُ عاشقوهْ"
أدونيس


لم أر إدوارد سعيد فى حياتى سوى مرة
واحدة، كان ذلك قبل رحيله بشهور قليلة، فى محاضرة رائعة، ألقاها فى قاعة
إيوارت بالجامعة الأمريكية بالقاهرة فى مارس عام 2003، وكانت بعنوان:
"فلسطين وعمومية حقوق الإنسان". بدا الرجل ساعتها ـ كما تخيلته دائما ـ
عملاقا، رغم وطأة المرض ودنو النهاية! أذكر أن الحاضرين استقبلوه بحفاوة
بالغة، تليق بمكانته الرفيعة، حتى أنهم ظلوا يصفقون له زمنا طويلا، وكانوا
من مشارب شتى! وأذكر كذلك أنه بعد فراغ إدوارد سعيد من إلقاء محاضرته، أقبل
عليه الكثيرون لمصافحته، وكنت أحدهم بطبيعة الحال، غير أنى لم أكد أقترب
من المنصة التى كان إدوارد سعيد يجلس إليها، حتى خانتنى شجاعتى وتهيبت
مصافحته، احتراما واجلالا للرجل، وهو ما سأظل أذكره بألم، وأندم عليه ما
بقى لى من سنوات، طالت أم قصرت، فى ذمة الحياة!

إدوارد سعيد لم يكن
مفكرا فذا فحسب، ولكنه كان أيضا نموذجا فريدا، حتى أن الناظر إليه لم تكن
عيناه لتخطيء أنسنيا فذا، أودع ذاكرة الحياة أروع ما يملك، وهو بصيرة
ثاقبة، وقدرة عبقرية على النقد والإبداع! وأراني في هذا المقال قاصرا جهدى،
على رصد وتحليل الاسهام الادورى المهيب فى مجال الفكر الأنسني، بكل ما
ينطوى عليه من روعة وثراء، علاوة على سعيي لبيان مدى تأثير هذا الاسهام على
رؤيتى للفكر الأنسني، على تواضعها، مقارنة بالاسهام الادورى! أفعل ذلك رغم
قناعتي المحزنة والمحبطة بوقوف المناخ الثقافي المهيمن حاليا فى عالمنا
العربي حائلا دون تحقيق أُمنيتي، وأظنها كانت أمنية ادوارد قبلي، أن يجد
هذا الفكر له ملاذا آمنا فى ربوعنا، فعلى الساحة تتصارع تيارات ثقافية
بالية، لا تُسمن ولا تُغني من جوع، يبرع أنصارها وهم كثر، بشكل لافت، فى
الترويج لأفكارهم، المعلبة والمشفرة والمغلقة على النقاش، بدعوى صلاحيتها
لكل زمان ومكان، هازئين بذلك من سنة كونية تقضي بديمومة التغير والتطور!

بيد
أنه قد يكون ملائما، قبل أن أمضي قُدما فيما أنا عازم عليه، تذكير قارئي
الكريم بأن أحدا من الناس لا يعيش فى فراغ اجتماعى، فاذا أردنا أن نُعيده
إلى الحياة فلابد لنا من وصف بيئته. إذ أنه ليس من الحكمة أن نتكلم عن
العظماء دون أن نحاول تفسير شخصيتهم وعبقريتهم، وهما شيئان يمتنعان على
الفهم بغير الرجوع إلى البيئة التى نشأوا فيها. وهذا هو عين ما أنوى فعله
فى السطور التالية، فكما كانت حياة ادوارد سعيد فريدة وثرية، كذلك كانت
بيئته التى نشأ وعاش فى كنفها! لذا، فتناولنا لهذه البيئة يساعدنا بلا شك
على تتبع ارهاصات النزوع الأنسنى، الذى صاحب إدوارد سعيد، طوال حياته، وملك
عليه عقله وقلبه، حتى أنه لم يدخر جهدا فى التبشير به والدعوة إليه، على
نحو لافت ومُلهم!

وقد يكون ملائما أيضا، التنبيه إلى الخصوصية
الادورية فى الاحساس بالألم، بمعنى أنه ليس للقاريء الكريم أن يتوقع وجود
تماثل، أو حتى تقارب، بين القلق الادورى ـ على سبيل المثال ـ وأنماط القلق
الشائعة فى مجتمعاتنا المتخلفة، على خطورتها وأهميتها، والتى غالبا ما يقف
العوز المادى وراءها! فكما سنرى، كان ادوارد سعيد ابنا لأسرة فلسطينية
موسرة، حتى أنه تلقى تعليما غربيا راقيا، أهله بدرجة يُعتد بها لاستيعاب
ونقد الثقافة الانسانية على نحو، آراه مذهلا وعبقريا! غير أنه ـ أقصد
ادوارد بالطبع ـ ظل حتى رحيله، معتقدا فى مسئولية ذلك النمط من التعليم عن
قطع وشائج الصلة بينه وبين ثقافته العربية، على خلاف الكثيرين ممن قد يرون
فيه فرصة ذهبية، لا مجال لتعهدها باللوم! وهو ما يعضد قولنا بالخصوصية
الادورية فى الاحساس بالألم، على تشابهها النسبي، مع خصوصيات غيره من أصحاب
العبقريات، فى كل زمان ومكان..

ولسوف أستند فى تناولي للبيئة التى
نشأ إدوارد سعيد وعاش فى ربوعها إلى مذكراته الشهيرة "خارج المكان"، والتى
أقدم ادوارد على كتابتها بعد تلقيه تشخيصا طبيا يُفيد اصابته بسرطان الدم
(اللوكيميا). فقد شعر الرجل بأهمية أن يخلف سيرة ذاتية عن حياته فى العالم
العربي، حيث وُلد وأمضى سنواته التكوينية، كما فى الولايات المتحدة حيث
ارتاد المدرسة والكلية والجامعة!

ولعل فى وصف الناشر العربي، وهو
دار الآداب البيروتية، للمذكرات بأنها نص غنائي وجميل الصنعة، يبلغ أحيانا
درجات عالية من الصراحة بقدر ما هو، فى الآن ذاته، حميم ومرح. يكشف فيه
ادوارد دقائق ماضيه الشخصى، ويستعرض لقراءه معالم البيئة التى كونت شخصيته
ومكنته من أن ينتصر، ليصبح بحق واحدا من أهم وأبرز أنسنيي العصر الحديث ـ
أقول لعل فى هذا الوصف الموجز والبليغ لـ "خارج المكان"، تعضيدا لقناعتي
بأهميتها فى الكشف عن إرهاصات النزوع الأنسني لدى ادوارد سعيد، خاصة وأن
ادوارد نفسه، فى مقدمته لتلك الطبعة العربية الأنيقة من المذكرات، يُورد ما
يعزز هذه القناعة، وهو قوله (1): "..آمل أن لا أبدو متبجحا إن قلت إن
الجديد فى (إدوارد سعيد) المركب الذى يظهر فى خلال هذه الصفحات، هو عربي
أدت ثقافته الغربية، ويالسخرية الأمر، إلى توكيد أصوله العربية، وإن تلك
الثقافة، إذ تُلقى ظلال الشك على الفكرة القائلة بالهوية الأحادية، تفتح
الآفاق الرحبة أمام الحوار بين الثقافات"!

قارئي الكريم، لندلف
الآن سويا إلى "خارج المكان"، ولسوف نجد إدوارد، وقد أبهرنا كعادته، عبر
مُضيه قُدما فى قراءة عميقة ومبهره لجوانيته، بدا فيها كمن يحادث نفسه، لا
كمن يكتب إلى جمهور واسع وعريض من القراء، فى شتى أنحاء العالم، فها هو
يعقد ألستنا بالدهشة، إذ يقول (2): "إن الأرق عندى حالة مباركة أرغب إليها
بأى ثمن تقريبا. فليس عندى ما هو أكثر تنشيطا، من أن أطرد عنى فورا ظلال
الوسن لليلة خسرتها، غير إعادة تعرفى فى الصباح الباكر، على ما كدت أخسره
كليا قبل بضع ساعات أو استعادتى إياه. بين الحين والآخر، أرى نفسي كتلة من
التيارات المتدفقة. أؤثر هذه الفكرة عن نفسي على فكرة الذات الصلدة، وهى
الهوية التى يُعلق عليها الكثيرون أهمية كبيرة. تتدفق تلك التيارات، مثلها
مثل موضوعات حياتى، خلال ساعات اليقظة. وهى، عندما تكون فى أفضل حالاتها،
لا تستدعى التصالح ولا التناغم. إنها من قبيل النشاز، وقد تكون فى غير
مكانها، ولكنها على الأقل فى حراك دائم فى الزمان وفى المكان وبما هى أنواع
مختلفة من المركبات الغريبة، لا تتحرك بالضرورة إلى أمام، وإنما قد يتحرك
أحيانا واحدها ضد الآخر، على نحو طباقي ولكن من غير ما محور مركزى. إنه ضرب
من ضروب الحرية، على ما يحلو لى أن أعتقد، على الرغم من أنى بعيد كل البعد
عن أن أكون مقتنعا كليا بذلك. ونزعة التشكيك هذه هى أحد الثوابت التى
أتشبث بها بنوع خاص. والواقع أنى تعلمت، وحياتى مليئة إلى هذا الحد بتنافر
الأصوات، أن أؤثر ألا أكون سويا تماما وأن أظل فى غير مكانى"!

إدوارد
يعطينا إذن مفتاح شخصيته، ويُعرى لنا فى جرأة وشفافية ارهاصات نزوعه
الأنسني! أليس يحدثنا فى الاقتباس السابق عن القلق الذى لطالما رافقه فى
رحلة الحياة، والذى ساعدت على خلقه والاحتفاظ به فى حالة تأجج دائم، ظروف
البيئة التى نشأ فيها؟! ثم، أليس يحدثنا فى الاقتباس نفسه عن رؤيته لنفسه
ككتلة من التيارات المتدفقة، تكون فى أفضل حالاتها، عندما لا تستدعى
التصالح ولا التناغم؟! وهو حديث يشى فى مجمله بالولع الادورى بالحراك
الدائم والتشكيك المستمر! وأخيرا، أليس يكشف لنا إدوارد عن إيثاره ألا يكون
سويا تماما وأن يظل فى غير مكانه؟! وكلها أمور تُهيىء صاحبها لولوج عالم
الفكر الأنسني، على نحو ما سنرى لاحقا. إذن، ما الذى بقى لي وأنا بصدد
الحديث عن بيئة إدوارد التى نشأ فيها، وساهمت فى صياغته على هذا النحو
الفريد والعبقري؟ أغلب الظن أنه لم يبق أمامي سوى السعى لرصد وتحليل
الحوادث التى تفسر القلق الادورى، واللاتناغم الادورى، إضافة إلى الولع
الادورى بالحراك والتشكيك الدائمين!

ولتكن البداية حديث إدوارد فى
مذكراته عن طفولته، وتساؤله القلق عن مدى مسئولية البيئة التى نشأ فيها عن
بقاءه فى غير مكانه طيلة حياته، فهما يساهمان، ولو جزئيا، فى إفهامنا دواعى
ومسببات القلق الادورى والولع بالحراك الدائم والتشكيك المستمر. وكيف لا؟!
وادوارد يحدثنا فى مذكراته عن طفولة حبيسة لقيود منزلية صارمة، حالت بينه
وبين الاحساس بالذات فيما يتجاوز هذه القيود، وأجبرته أن يخطو خطواته
الأولى على طريق خلق الذات، مُقتديا فى ذلك بوالديه، لأنهما كانا أيضا نتاج
عملية خلق للذات! ومُجسدا فى الوقت نفسه قول ماركيز: "لا يُولد البشر مرة
واحدة وإلى الأبد يوم تلدهم أمهاتهم، إنما تجبرهم الحياة على أن يلدوا
أنفسهم بأنفسهم"! وإدوارد يحدثنا أيضا عن تأثير الارساليات والمؤسسات
التعليمية الكولونيالية، التى أُجبر على التعاطى معها، خاصة خلال رحلته
التعليمية، والتى ساهمت فى تعزيز اتجاهه نحو خلق الذات بالذات!

يقول
إدوارد فى "خارج المكان" عن طفولته (3): "كنت دوما فى غير مكانى. لم يترك
لى نظام الضبط والتربية المنزلية الجامد الصارم، الذى حبسنى فيه أبي منذ سن
التاسعة، أى متنفس أو أى مجال للاحساس بالذات فى ما يتجاوز قواعده
وترسيماته. هكذا أصبحت (إدوارد) مخلوق والدى، تراقبه فى عذاباته اليومية
ذات داخلية مختلفة كليا عنه، لكنها على درجة من فتور الهمة، بحيث تعجز، فى
معظم الأحيان، عن مساعدته. وكان (إدوارد) أساسا، هو الابن ثم الشقيق وأخيرا
الصبى الذى يرتاد المدرسة ويفشل فى محاولاته التقيد بالأصول (أو يتجاهلها
ويتحايل عليها). وقد كانت عملية خلقه واجبة الوجوب لأن والديه كانا هما
أيضا نتاج عملية خلق للذات بالذات. فلسطينيين ينتميان إلى بيئتين مختلفتين
ومزاجين متغايرين جذريا، يعيشان فى القاهرة الكولونيالية. ابنى أقلية
مسيحية تعيش هى نفسها ضمن حومة من الأقليات، ليس لأى منهما سند سوى الآخر.
وهما يفتقدان، فوق ذلك كله، إلى أية أعراف يهتديان بها فى سلوكهما،
باستثناء مزيج غريب: من عادات فلسطينية من فترة ما قبل الحرب، وحكم
أميريكية مجمعة على نحو انتقائي من الكتب والمجلات ومن السنوات العشر التى
أمضاها أبي فى الولايات المتحدة (التى لم تزرها أمى إلا العام 1948)، ومن
تأثير الارساليات والتعليم المدرسي المتقطع ومن ثم الهامشي، ومن مواقف
بريطانية كولونيالية تمثل الأسياد وسواد البشرية التى يحكمها هؤلاء الأسياد
فى آن معا، وأخيرا، من نمط حياة عاينه والداى حولهما فى القاهرة وحاولا
تكييفه مع ظروفهما الخاصة. فهل يمكن لـ (إدوارد)، والحال هذه، أن يكون إلا
فى غير مكانه؟"!

ولندع إدوارد يروى لنا تجربته مع واحدة من أهم
وأبرز المؤسسات التعليمية الكولونيالية التى أُجبر على الدراسة فيها، خلال
رحلته التعليمية، وهى كلية فيكتوريا بمصر، ولسوف يرى القاريء الكريم أن
حديث ادوارد عن تجربته تلك من شأنه تعزيز قناعتنا بكونها ـ إلى جانب
التجارب الأخرى المشابهة لها ـ ساهمت بصورة أو بأخرى فى تعزيز قلق إدوارد
ولا تناغمه واتجاهه نحو خلق الذات بالذات، فقد أدرك إدوارد فى كلية
فيكتوريا أنه يواجه قوة كولونيالية جريحة وخطرة ـ قصد بها إدوارد بريطانيا
العظمى ـ، بل وقابلة لأن تؤذيه، ووجد نفسه مُجبرا على تعلم لغتها واستيعاب
ثقافتها لكونها هى الثقافة السائدة آنذاك.

يقول إدوارد فى مذكراته
(4): "اتسمت حياتنا فى فكتوريا كولدج بتشوه كبير لم أدركه حينها. كانت
النظرة السائدة إلى التلامذة أنهم أعضاء، تمموا دفع اشتراكاتهم، فى نخبة
كولونيالية مزعومة يجرى تعليمها فنونا إمبريالية بريطانية قضت نحبها، مع
أننا لم نكن ندرك ذلك تماما. علمونا عن حياة إنكلترا وآدابها، وعن النظام
الملكي والبرلمان، عن الهند وأفريقيا، وعن عادات واصطلاحات لن نستطيع
استخدامها فى مصر أو فى أى مكان آخر. ولما كان الانتماء العربي وتكلم اللغة
العربية يُعدان بمثابة جنحة يُعاقب عليها القانون فى فكتوريا كولدج، فلا
عجب أن لا نتلقى أبدا التعليم المناسب عن لغتنا وتاريخنا وثقافتنا وجغرافية
بلادنا. وكانوا يمتحنوننا بصفتنا تلامذة إنكليزا، نجر أذيالنا متخلفين
سعيا إلى تحقيق هدف مُبهم، يستحيل تحقيقه أصلا، من صف إلى صف آخر ومن سنة
دراسية إلى سنة دراسية تالية، يواكبنا أهلنا طوال ذلك المسار منشغلى البال
علينا. ثم إنى أدركت فى قلبي أن فكتوريا كولدج قطعت نهائيا الأواصر التى
تشدنى إلى حياتى السابقة، وأن ادعاء أهلى أنى مواطن أميركى قد تهافت، فقد
بتنا ندرك جميعنا أننا دونيون نواجه قوة كولونيالية جريحة وخطرة، بل وقابلة
لأن تؤذينا، ونحن مجبرون على تعلم لغتها واستيعاب ثقافتها لكونها هى
الثقافة السائدة فى مصر".

ويظل تأكيد إدوارد فى مواضع أخرى عديدة
من مذكراته على مسألة نفوره من الكولونيالية وممثليها، وكذا تأكيده على
حرصه على خلق ذاته بذاته، تعضيدا لقناعتنا ـ المُعبر عنها سلفا ـ بالدور
المهم الذى لعبته بيئة المنشأ فى تغذية القلق الادورى وكذا تحفيز التوجه
الادورى لخلق الذات بالذات. فها هو إدوارد يرفض معاملة المصريين له ولذويه
فى أربعينيات القرن الماضي، كأجانب أو كخواجات، رغم احساسه بهويته العربية،
إضافة إلى رفضه أن يُختزل إلى مجرد نسخة ممجوجة للشخصية الكولونيالية.
يقول إدوارد عن ذلك (5): "..مع حلول الأربعينيات ـ يقصد أربعينيات القرن
الماضي ـ، لم نعد مجرد (شوام) بل صرنا (خواجات)، وهو اللقب التبجيلي الدال
على الأجانب الذى يحمل دائما لسعة عداء عندما يستخدمه المسلمون المصريون.
وعلى الرغم من أنى كنت أتكلم باللهجة المصرية ولى مظهر المصري الأصلي، فقد
كان ثمة ما يشي بي. وكنت أستنكر التلميح إلى أنى أجنبي نوعا ما، مع أنى
أدرك فى العمق أنهم يعتبرونني أجنبيا، على الرغم من أنى عربي...كان هذا
اللقب ـ يقصد لقب الخواجة ـ يقرحنى تقريحا، فقد رفضت هذا التعيير من جهة
بسبب نمو إحساسي بهويتى الفلسطينية.. ومن جهة ثانية بسبب وعيي الناشيء
لنفسي بوصفى، على العموم، كائنا أكثر تعقيدا وأصالة من أن أُختزل إلى مجرد
نسخة ممجوجة للشخصية الكولونيالية"!

ولعل فيما أورده إدوارد فى
مذكراته بشأن تقييمه لمسألة رحيله إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام
1951، ما يعفيني من المضي قُدما فى الاستشهاد بالمزيد من الأحداث التى تعج
بها مذكرات إدوارد، والتى تفسر فى مجملها القلق الذى لطالما رافق إدوارد
منذ كان صغيرا، ذلك القلق الذى ساعدت على خلقه والاحتفاظ به فى حالة تأجج
دائم، ظروف البيئة التى نشأ فيها إدوارد والتى عرضنا سلفا لقبس منها. أقول
لعل فيما أورده إدوارد ما يعفيني من المضي قدما فى سرد المزيد من الأحداث
التى تؤكد ـ إضافة إلى ما سبق ـ رؤيته لنفسه ككتلة من التيارات المتدفقة،
تكون فى أفضل حالاتها، عندما لا تستدعى التصالح ولا التناغم! علاوة على
تفسيرها لايمان إدوارد بخلق الذات، وولعه بالحراك الدائم والتشكيك المستمر،
وإيثاره ألا يكون سويا تماما، وأن يظل فى غير مكانه! فقد تحدث الرجل على
نحو لا لبس فيه ولا غموض عن رحيله إلى الولايات المتحدة بوصفه مغامرة، إذ
أنه لم يملك ساعتها إلا فكرة غامضة جدا عما كانت ستؤول إليه حياته لو أنه
لم يقدم على تلك المغامرة، وهو الحديث الذى يشي بكون مغامرة الحلم الأمريكى
وتداعياتها إنما جاءت تتويجا لمسببات القلق الادورى المتجذر!

وعليه،
أستأذن قارئي الكريم فى أن أختم حديثى عن تلك البيئة الاستثنائية التى نشأ
فيها ادوارد سعيد والتى شاركت فى صياغته على هذا النحو الفريد والعبقري،
بهذا التقييم الادورى المشار إليه توا. يقول إدوارد سعيد، فى مذكراته "خارج
المكان"، عن مسألة رحيله إلى الولايات المتحدة الأمريكية (6): "..ما أزال
أندهش إلى الآن من مجرد خطورة المغامرة التى انطوى عليها قدومى إلى
الولايات المتحدة الأمريكية عام 1951. لست أملك إلا فكرة غامضة جدا عما
كانت ستؤول إليه حياتى لو أنى لم أجيء إلى أميركا. ولكن الذى أعرفه أنى
بدأت فيها بداية جديدة، متناسيا، إلى حد ما، ما تعلمته من قبل، لأعيد تعلم
الأشياء ابتداء من الصفر، مبتكرا، مخترعا ذاتى، أحاول وأفشل، أختبر وألغى
ما اختبرته، لأعاود البدء من جديد، سالكا سبلا مباغتة هى، فى الغالب، أعسر
السبل قاطبة". ويمضى إدوارد قدما فى تقييمه للمسألة نفسها (7): "ولا أزال،
إلى هذا اليوم، أشعر بأنى بعيد عن البيت، مهما بدا الأمر مضحكا. ومع أنى
لست متوهما أنى كنت سأعيش حياة (أفضل) لو بقيت فى العالم العربي، أو عشت
ودرست فى أوروبا، فلا يزال يلازمنى بعض الندم. وهذه المذكرات هى، فى وجه من
وجوهها، استعادة لتجربة المغادرة والفراق، إذ أشعر بوطأة الزمن يتسارع
وينقضي. ولما كنت قد عشت فى نيويورك باحساس موقت، على الرغم من إقامة دامت
سبعة وثلاثين عاما، فقد فاقم ذلك من ضياعي المتراكم، بدلا من مراكمة
الفوائد"!

أسس دراسة الأنسنية ـ منظور إدوري:


ليس سهلا على المرء بالطبع أن يتصدى لسبر غور الرؤية الادورية لأسس دراسة
الحركة الأنسنية فى الولايات المتحدة. لأنه إذا كان إدوارد سعيد لا يُبارى
فى المضمار الأنسني، كما يعرف القاصي والداني، فكيف لرؤيته المُشار إليها
فى عنوان هذه الجزئية أن تُقارب على نحو مُرضي، وصاحبها أحد أهم وأبرز رموز
الحركة الأنسنية الأمريكية، بل والعالمية أيضا، فى العقود الأخيرة، وربما
لعقود أخرى قادمة، أظنها عديدة! من هنا أرانى فى تناولي لهذه الجزئية
الشائكة قانعا من الغنيمة بالاياب، كما يقولون! فليتك قارئى الكريم تقبل
ذلك منى..

إلتحق الطالب إدوارد سعيد بجامعة برنستون فى الولايات
المتحدة فى خمسينيات القرن الماضي، ودرس فيها الانسانيات، على أيدى أساتذة
يتمتعون بالكفاءة العظمى. وأسست قراءاته فى تاريخ الموسيقى والأدب والفلسفة
لكل ما حققه فيما بعد باحثا ومدرسا. إذ أتاحت له الشمولية الرزينة لبرنامج
الدروس فى برنستون فرصة التحرى الذهنى فى حقول كاملة من المعرفة، وبحد
أدنى من الحرج! وفقط عندما اتصلت تلك المعارف بنقد سزاثمارى المحفز أو
بالتمكين الرؤيوى الذى منحه إياه أستاذ من طراز بلاكميور، وجد إدوارد نفسه
يُنقب أعمق فأعمق من مستوى الإنجاز الأكاديمي الرسمي. وبدأ، بطريقة ما، فى
بلورة منحاه الفكرى المتماسك والمستقل. وخلال الأسابيع الأولى من سنته
الثانية أدرك ضرورة أن يفعل المزيد لتنمية انبهاره المبكر بالتعقد
والفجائية ـ وخصوصا بالتعقدات والالتباسات المتعددة التى تنطوى عليها
عمليتا الكتابة والخطابة ـ، وهو انبهار لازمه طوال حياته! والمفارقة فى
الأمر أن الذى حفز إدوارد إلى ذلك هم الأساتذة الأكثر تقليدية من حيث
المقاربة والمزاج، بمن فيهم كواندرو فى اللغة الفرنسية، وأُوتس فى
الكلاسيكيات، وطومسون ولاندا وبنتلى وجونسون فى اللغة الانجليزية. وفى
الموسيقى، أجبر إدوارد نفسه على اقتحام عقبة درس الهارمونى والطباق، ثم
انتقل لمتابعة السيمينارات التاريخية والوضعية الغنية عن بيتهوفن وفاغنر
خصوصا، حيث صار إليوت فوربز وإدكُون مثالين يُقتدى بهما (8).


ونظرا لارتباط الانسانيات، وهى مجال دراسة إدوارد، وأحد المواد التى قام
بتدريسها ابتداء منذ عام 1963 وحتى رحيله، فى جامعة كولومبيا التى تقدم،
منذ ما يقرب من قرن وبدون انقطاع، مجموعة من المواد الأساسية قبل التخرجية،
شهيرة بل أسطورية فى تمثيلها التربية العقلية. مُفاعلها الشغال، الذى تأسس
عام 1973، هو سلسلة مواد تُدرس على مدار سنة كاملة عنوانها الانسانيات،
تُعرف الطلاب بأمهات الأعمال الأدبية والفلسفية فى الثقافات الغربية، صارت
مؤخرا تُعرف باسم الانسانيات "الغربية" تمييزا لها عن مواد موازية معروضة
تحت تسمية الإنسانيات "الشرقية" أو "المشرقية" أو "غير الغربية"(9) ـ أقول
إنه نظرا لارتباط الانسانيات، بالسيرة الأكاديمية لادوارد إلى هذا الحد،
أجدنى مُلزما بالبحث عن معنى محدد لها، على نحو يُجنبنى وقارئي الكريم
غموضها النسبي!

بالكشف فى معجم New International Dictionary
نجد أن لفظ humanity ـ ويُستخدم عادة فى صيغة الجمع ـ، يعنى "فروع المعرفة
الرفيعة، وبخاصة الدراسات الكلاسيكية القديمة، والأدب المحض العلمانى،
باعتباره متميزا عن المعرفة اللاهوتية". وعند التحول إلى معجم Dictionary
of Education and Instruction نجد أن الانسانيات تتكون من فروع دراسية
معينة ذات "اتجاه نحو تهذيب الانسان"، فى مقابل العلوم الطبيعية "التى تعمل
على النمو بالمواهب العقلية بصفة خاصة". ونجد فى المعجم نفسه أن
الانسانيات كانت داخلة فى نطاق ما يسمى "بالتربية التحررية"، وأن هذه كانت
"تتكيف لظروف ومطالب الإنسان الحر والانسان المهذب (الجنتلمان)"، وكان
يقابلها "التربية العلمية". ويقول جون نيومان، وهو مرجع ثقة فى هذا
الموضوع، إن "التربية التحررية" وفق هذا المنهج هى "ثقافة عقلية تُدرب فيها
العقلية لا بقصد صياغتها فى ضوء هدف محدد أو عارض، أو من أجل حرفة أو مهنة
محددة، أو من أجل دراسة أو علم، بل من أجلها هى بذاتها". صفوة القول ان
الانسانيات تعنى حسبما يرغب الدارس. إما الدراسة العلمانية فى مقابل
الدراسة اللاهوتية، وإما الدراسة الاجتماعية والخلقية فى مقابل الدراسة
الذهنية، وإما الدراسة الذهنية فى مقابل الدراسة العملية (10).


قلنا إن إدوارد سعيد قام بالتدريس فى جامعة كولومبيا من عام 1963 وحتى
رحيله، وهو ما وفر له مكانا متميزا أشرف من خلاله على الحركة الأنسنية
الأمريكية، وأسلافها الأوروبيين، وذلك فى القرن الماضي، وفى بدايات القرن
الذى يُظلنا الآن، نظرا للصلة الوثيقة التى تربط الأنسنية بالتربية
وبالبرامج الجامعية خصوصا. تلك الصلة التى تتبدى جلية واضحة بين مادتى
الأدب والانسانيات اللتين درسهما ادوارد سعيد، وبين الحركة الأنسنية.
فالأنسنية ومادة الأدب بما هما انكباب على دراسة الكتابة الجيدة والقيمة،
مترابطان ـ فى رأى ادوارد ـ أيما ترابط، تشد وثاقهما صلة قوية. كما أن مادة
الانسانيات، على تنوع معانيها، تُعد مضمارا للمفكرين الأنسنيين. فطبقا
لادوارد، تتعلق مادة الانسانيات بالتاريخ العلمانى، وبمنتجات العمل البشري،
وبالقدرة البشرية على التعبير الكلامى (11). فى حين يتمثل صميم الأنسنية
فى الفكرة العلمانية القائلة إن العالم التاريخى هو من صنع بشر من رجال
ونساء، لا من صنع ربانى، وإنه يمكن اكتناهه عقليا، وذلك وفق المبدأ الذى
صاغه جان باتيستا فيكو فى مؤلفه الرائع "العلم الجديد"، إذ قال فيه إننا
كبشر فى التاريخ نُدرك فقط ما قد أنتجناه. أوبعبارة أخرى، إننا نستطيع أن
نعرف الأشياء وفقا للطريقة التى بها صُنعت (12).

وفى كتابه الأخير
"الأنسنية والنقد الديمقراطي"(13)، ركز ادوارد اهتمامه على دراسة الحركة
الأنسنية والممارسة النقدية، استنادا إلى قناعته بأن الأنسنية مذهب نقدى
يوجه سهامه إلى الأوضاع السائدة داخل الجامعة وخارجها، مذهب يستمد قواه
وقيمه من طابعه الديمقراطي العلمانى المنفتح، وهو الموقف الذى لا تتبناه
بالتأكيد الأنسنية العيابة والمتزمتة التى ترى إلى ذاتها على أنها تكوين
نخبوي! وكذا قصر ادوارد اهتمامه فى الكتاب نفسه على دراسة الحركة الأنسنية
فى الولايات المتحدة الأمريكية، استنادا إلى قناعته بأن قسما كبيرا من
محاجته ينطبق على سائر البلدان! فادوارد عاش فى الولايات المتحدة خلال
القسط الأوفر من حياته البالغة كما أسلفنا، وكان خلال تلك العقود الأربعة،
مدرسا وناقدا وباحثا ملتزما بالفكر الأنسني. ذلك هو العالم الذى عرفه
إدوارد أكثر من سواه!

من هنا تأتى أهمية محاجة ادوارد الرئيسية
المشار إليها توا، والمتمثلة فى قوله بأنه خلال السنوات الممتدة بين نهاية
الحرب العالمية الثانية وحتى ضعه لدراسته، لم تعرف الحركة الأنسنية فى
الولايات المتحدة مجرد أزمة متواصلة لا شك فيها، وإنما عرفت تحولات أساسية،
صامتة حينا، وأحيانا محرومة ممن يقدرها حق قدرها. فبحسب ادوارد، طرأت
تغييرات فى الأسس ذاتها التى قام عليها الفكر الأنسني والممارسة الأنسنية
لزمن طويل فى الولايات المتحدة وسائر العالم. وكان لادوارد ـ إن هو أراد ـ
أن يُغفل تلك التحولات، بكل بساطة، وأن يستمر كما فى السابق، على طريقة
النعامة، خاصة وأنه الرجل الذى لطالما كتب بحماس عن قضايا خاسرة، وارتبط
فطريا بها خلال معظم سنى حياته. بيد أنه لما كان ادوارد سعيد قد أقنع نفسه،
بالاقلاع عن لعب دور النعامة، فقد رأيناه تواقا لاقناع غيره بأن الهرب من
الواقع والانكفاء العاطفي إلى حنين ماضوى، أقل علمية وأقل إثارة بكثير من
التعامل مع المسألة على نحو عقلانى ممنهج، إيمانا منه بأن هذا هو ما تقضي
به قواعد الأنسنية، على نحو لا مجال للطعن فيه.

يقول إدوارد فى
دراسته إن الحرب الباردة كانت جزءا من نمط شامل بدت فيه التهديدات للحركة
الأنسنية فى الولايات المتحدة منبثة فى طبيعة الفكر ذاته عن حالة البشرية
عموما. ويقول أيضا إن السطر الأخير لقصيدة كافافى "فى انتظار البرابرة"
يوحى، فى سخريته الأنيقة، بفائدة وجود الآخر المعادى فى مثل تلك الظروف، إذ
يقول كافافي: "كان هؤلاء البشر نوعا من حل"! من هنا ـ والكلام لادوارد ـ
لم يكن مفاجئا أن يربض شبح الحرب الباردة على صدر الممارسة الأنسنية لجيلين
على الأقل، ناهيك عن الرطانة اللامتناهية عن الحرية ضد الكليانية، وحديث
كويبلر الساخر عن أن القيم التى يؤمن بها الكليانيون واضحة كليا، فيما
القيم التى يحملها المؤمنون بالديمقراطية غامضة كل الغموض!

ولا
يكتفى إدوارد بتأكيد الرواج الذى لاقته فكرة المفكر أو الباحث الأنسني غير
الملتزم، المختص بحقل ثقافى بعينه، فى النصف الثانى من القرن العشرين. بل
نراه يذهب إلى حد القول إنه، كباحث أكاديمي ومدرس للأدب الغربي، نشأ فى حضن
فكرة الاختصاص هذه، وهى ـ فى رأيه ـ فكرة أيديولوجية فى العمق ومترسملة
ومؤسساتية إلى أعلى الدرجات. علاوة على أنها، فى أقل تقدير، رسخت فهما
سياسيا وجامدا إلى أبعد حد للتاريخ الأدبي. فطبقا لادوارد، كانت ثمة حقبات
تاريخية متعاقبة ومؤلفون رئيسيون ومفاهيم رائدة قابلة للبحث والتحليل
المقارن، غير أن أيديولوجيا حقل الاختصاص ذاته لم تكن قابلة للفحص الجذرى
أبدا. وهو الأمر الذى رآه ادوارد سعيد ناجما عن موقف غير قسرى، وإن يكن
ظفراويا، تجاه الواقع الأمريكى الذى يُفترض أنه الأفضل بين الأمم!


وكان صدور سفر نورثروب فراي بعنوان "تشريح النقد" عام 1957، هو الذروة
وفى الآن ذاته التعبير التجاوزى والنزق إلى حد غريب لتلك الآلة المعقدة بل
محمومة الحركة. إذ كان الهدف من وراءه ليس أقل من السعي إلى توليفة
بلايكية ـ يونغية(*) للنظام الأنسني وقد انتظم فى عالم مصغر، يكمن فى قلبه ـ
قلب اختراع فراى ـ ما يسميه بلايك "الألوهة البشرية"، وهو انسان كونى
يمارس مهمته تجسيدا لمعيار مركزى أوروبي مسيحى ـ يهودي. بيد أن الملفت هو
ما كان للتصاميم والتقاليد والتداوم فى التقاليد الأدبية التى اقترحها
آرنولد وفراى وإليوت واتباعهم المختلفون، على ما بينهم من اختلافات، من
سمات عديدة مشتركة، فكلها تقريبا ذكورية وصادرة عن مركزية أوروبية، تحركها
الأنواع الأدبية أو "النماذج الأصلية"، كما كان فراى يسميها. وهو ما استوقف
ادوارد سعيد، ودعاه للتساؤل عما إذا كان ما أنتجه فراى، بما هو التوليفة
الأخيرة لنظرة كونية داخل النزعة الأنسنية الأمريكية، يُعد بحق نظرة كونية
ليبرالية، يعززها الازدهار والقوة العاتيان، أم أنه مجرد زينة لتجميل واقع
قذر..!

فمن منظار الشروط الجامدة لنظام فراي، لم يكن للرواية
ولا للمسرح مثلا صلة فعلية بالظروف التاريخية والسياسية والاقتصادية
المخصوصة (ناهيك بالظروف الايديولوجية) المؤدية إلى نشوئهما. والأكيد أن
فكرة وجود نوع أدبي يسمى كتابة "نسوية" أو "أقلوية" لم يدخل قط نظام فراي،
ولا هو دخل عالم الفاعلية أو العمل الانسنيين الذى مثل فراي مترتباته
النضالية الهادئة. ثم إن القومية، مثلا، لم تلعب أى دور فى السرديات التى
يناقشها فراي. ولم تحظ سطوة مؤسسات مثل النظام الملكي والشركات
الكولونيالية ووكالات استيطان الأراضى بأى اهتمام من جانب فراي على
الاطلاق، لا فى قراءته لأعمال شكسبير أو جاين أوستن أو بن جونسون. ويبدو
التغييب أشد وطأة عندما يتناول أمهات الأعمال عن ايرلندا من سبنسر إلى و.
ب. ييتس وأوسكار وايلد وجيمس جويس وبرنارد شو، علما أنه يقع فى صميم هموم
هؤلاء جميعا مسائل رسم حدود الأرض وتملكها بالذات.

هكذا، وبكل
بساطة، أسقط فراى ومعاصروه، و"النقاد الجدد" من قبلهم، الصراع حول الملكية،
سواء أكانت ملكية الأراضي أو الحدود الأمريكية أو الأقاليم الكولونيالية،
على الرغم من حضور ذاك الصراع فى انتاج بلايك نفسه، الذى تأثر به نظام
فراي، ناهيك عن ديكنز وجاين أوستن وفينيمور كوبر وهرمان ملفل ومارك توين
وجميع المؤلفين الذين ارتقت أعمالهم إلى مصاف الأعمال الكلاسيكية. حتى أن
مفردة "العرق" لا ترد أصلا عند فراي. أما العبودية ـ التى كان لها علاقة ما
بالحفاظ على ملكوت السموات على الأرض ـ فلم تحظ بأى اهتمام عند فراى
ومثلها الأدب الذى أنتجه الأرقاء والفقراء والأقليات! وهو ما يعزز تساؤل
ادوارد عما إذا كان ما أنتجه فراى مجرد زينة لتجميل واقع قذر!

وفى
اطار سعيه للبرهنة على أن تحولات أساسية، صامتة حينا، وأحيانا محرومة ممن
يقدرها حق قدرها، قد طرأت فى الأسس ذاتها التى قام عليها الفكر الأنسني
والممارسة الأنسنية لزمن طويل فى الولايات المتحدة، تناول ادوارد سعيد
بالنقد عنصرين رآهما يلعبان دورا مهما ولافتا فى النظرة الكونية الأنسنية
التى أوجزنا للتو وصف ادوارد لها، وإن لم يحظيا بما يستحقان من الاعتراف:
العنصر الأول، هو الفكرة القائلة إن الأدب يوجد ضمن إطار وطنى افتراضى.
والعنصر الثانى، هو الافتراض أن الأشياوات الأدبية والأشعار الغنائية
والمسرحيات المأساوية أو الروايات تنوجد فى شكل ثابت أو على الأقل فى شكل
يمكن التعرف إليه بانتظام. وكما هو متوقع، أثبت إدوارد أن البلبلة أصابت
الافتراضين معا!

فطبقا للرجل، يكتنف مقدار كبير من الشك
والنقصان الفكرة القائلة إن قصيدة غنائية لوردزورث هى نتاج الأدب الانجليزى
فى القرن الثامن عشر أو هى نتاج عبقرى فرد، أو إنها تحتل موقع العمل الفنى
المختلف والمتمايز عن أعمال أخرى، مثل المناشير السجالية والرسائل
والنقاشات البرلمانية والبيانات الدينية أو القانونية أو سواها. تلك الشكوك
وما يضارعها من أبحاث عن الجماعات وصلات النسب بين الكتاب والتشكيلات
الاجتماعية والطبقات والبنى التحتية، وكذلك الصلات بين المعرفة والسلطة، قد
بددت الأطر القومية والجمالية والحدود والتخوم تبديدا كليا تقريبا! فلم
تعد ـ والكلام لايزال لادوارد ـ كلمات مثل "المؤلف" و"العمل" و"الأمة"،
بالتالي، مقولات موثوقة كما كانت من قبل. على أن هذا لا يعنى قط إنكار وجود
المؤلفين والمؤلفات، وإلا كان هذا جنونا، وإنما يعنى تعقيد واختلاف أنماط
تمظهرهم إلى درجة التشكيك فى أى اطمئنان يساورنا عندما نجزم أن وردزورث كتب
هذه القصيدة "أ" أو "ب"، وهذا كل ما فى الأمر. فلا وردزورث ولا القصيدة
"أ" أو القصيدة "ب"، بما هما مجموعة أفكار، تقع بمنأى عن التمحيص التشكيكي
لحدودها وفاعليتها التفسيرية والعمق المعرفي.

ولم يفت إدوارد،
كعادته، أن يُدهشنا بقوله إن هذه الأفكار المُعرضة للتحدى لم تختف، ولو
أنها أحيانا تُثير الكثير من الشكوك والوساوس، وهو ما يجعلها غير صالحة
للاستعمال! يقول إدوارد هذا، رغم اقتناعه، مثلا، بأنه يُعد جنونا الادعاء
بأن الكتاب والموسيقيين والرسامين ينتجون أعمالهم كأنما على صفحة بيضاء!
فالعالم موسوم أصلا، عميق الوسم، ليس فقط بعمل الكتاب والفنانين السابقين،
وإنما أيضا بكم ضخم من المعلومات والخطابات، تتحشد فى الوعى الفردى اليوم،
مع المدى السيبرنيطيقى والأرشيف الضخم من المواد التى تدهم المشاعر من كل
حدب وصوب، بحيث لا يعود بمقدورنا ـ برأى ادوارد ـ القول بثقة كاملة أين
ينتهى الحيز الفردى أو الخاص وأين يبدأ الحيز العام، ذلك أن حركة سير جديدة
صاخبة تجرى بين الحيزين، يتداخل الواحد منهما فى الآخر ويعدل فى تكوينه!


وفى الاطار نفسه، تحدث ادوارد عن تزامن نهاية الحرب الباردة، التى يقول
بأنها جُندت واستُخدمت خلالها الرؤية المركزية الأوروبية فى مهمات زادت من
تشويه سمعتها، مع عدد من التغيرات المهمة الأخرى التى عكستها الحروب
الثقافية خلال الثمانينيات والتسعينيات: من قبيل النضالات ضد الحرب فى
فيتنام، وكذا النضالات ضد التمييز العنصري داخليا، وانبثاق وتضافر مجموعة
مبهرة من الأصوات الشقاقية ـ تؤسس على اعادة اكتشاف أصوات شقاقية أقدم عهدا
ـ، سُمع عنها وشوهدت عبر أرجاء العالم أجمع، وذلك فى قطاعات تاريخية
وأنثروبولوجية وأقلوية وغيرها من القطاعات المهمشة والمُعارضة فى الفروع
الرئيسية للانسانيات والعلوم الاجتماعية. إضافة إلى حديث إدوارد المهم عما
لاحظه من حدوث تغير عظيم فى صفوف طلابه فى جامعة كولومبيا، إذ أنهم تغيروا
من غالبية من الذكور البيض، درسهم أول الأمر عام 1963، إلى الرجال والنساء
المتعددى الاثنية واللغة الذين درسهم لاحقا. وهى أمور رأى ادوارد أنها
أسهمت فى التغير الزلزالي البطيء فى المنظور الأنسني فى مطلع هذا القرن.

ولم
يكتف ادوارد بذلك، فرأيناه يزخم وجهة نظره بحديث آخر عن نجاح الدراسات
الأفريقية الأمريكية، بما هى حقل أنسني جديد ـ وإن يكن قد تأجل اعتماده
طويلا إلى حد التحول إلى فضيحة، أو قُمع تمظهره بما هو حقل أنسني مُمثل فى
العالم الأكاديمى ـ، فى تحقيق أمرين اثنين: أولا، وضعها موضع تساؤل
الشمولية الشعارية، بل المنافقة، للفكر الأنسني الكلاسيكي ذى المركزية
الأوروبية؛ وثانيا، تأسيسها أهميتها وراهنيتها الخاصتين بما هى مكون أساسي
من مكونات الأنسنية الأمريكية فى الوقت الراهن. فبحسب ادوارد، أبان هذان
التحولان بدورهما كيف استغنت الفكرة الأنسنية الأمريكية لمدة طويلة جدا عن
التجارب التاريخية للأمريكيين الإفريقيين وللنساء والجماعات المحرومة
والمهمشة، وهو ما فضح اتكاءها على فكرة عملية عن الهوية الوطنية منقحة
ومختصرة جدا، طبقا لأكثر التعبيرات تأدبا، ومحصورة تأكيدا فى مجموعة صغيرة،
كان يُظن أنها ممثلة للمجتمع الأمريكى بأسره، مع أن الفكرة تتغافل فعلا عن
قطاعات واسعة منه، قطاعات لو اندمجت لكان اندماجها أكثر أمانة للتدفق
المستمر وأحيانا للعنف المزعج اللذين هما أبرز سمات واقع الهجرة والتعدد
الثقافي فى امريكا.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

إدوارد سعيد - أنسنية بلا ضفاف بقلم د.حازم خيري :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

إدوارد سعيد - أنسنية بلا ضفاف بقلم د.حازم خيري

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
» إدوارد سعيد عن ميشيل فوكو: فيلسوف المعرفة التي لا تكل - إدوارد سعيد السبت 10 آذار (مارس) 2007 بقلم: صبحي حديدي
» إدوارد سعيد: المثقف الكوني ... والهوية المركبة بقلم د. عبدالله تركماني
» هدر العقل العربي - د.حازم خيري
» المرأة فى الفكر الأنسني - د.حازم خيري
» مشكلة الموت في الثقافة العربية ـ د.حازم خيري

صلاحيات هذا المنتدى:تستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: دراسات و ابحاث-
إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوعانتقل الى: