[url=http://www.anfasse.org/images/stories/photosnouv 120x120/2.jpg]
[/url]
0inShare
Share on Tumblr"المرأة لا تُولد امرأة
وانما تُصبح إمرأة"
سيمون دى بوفوار
كتب فولتير يقول: "إن تقدم العقل بطيء بينما جذور الأفكار الفاسدة ضاربة فى العمق". هذه الجذور هى تحديدا ما أود أن أعرض له فى صدر هذا المقال وألفت النظر إليه، طالما أن أمر انتزاعها غير ميسر. والمسألة ـ كما سوف نلاحظ ـ تتطلب منا البحث والخوض فى أفكار وتصورات دفينة فى أذهاننا ـ معشر البشر ـ تتعلق بالمرأة وعلاقتها بالرجل، فضلا عما تتطلبه من مناقشة جادة لمكانة المرأة فى الفكر الأنسني الذى لطالما تمنيت أن يجد له ملاذا آمنا فى ربوعنا، باعتباره السبيل ـ ربما الوحيد ـ المتاح أمامنا للعودة إلى التاريخ(1).
أقول إن السعى الحثيث للتعرف على الأفكار والتصورات الدفينة فى أذهاننا، والتي تتعلق بالمرأة وعلاقتها بالرجل، والتى تشكل فى الوقت نفسه ميراثا، يُعتد به فى رسوخه وصلابته، لابد وأن يشكل البداية المنطقية لمقال كهذا. فلنلتمس إذن إجابة شافية على السؤال التالي: كيف بنى العقل البشري فكرة النوع؟
ولكن..كيف السبيل لمثل تلك الإجابة الشافية؟! إنها تتطلب بالضرورة قدرا من الرصد والتحليل، لا يمكن أن يسمح به الحجم المقرر سلفا لهذا المقال، فالأرجح أننا فى حاجة لدراسة تُخصص بأكملها لذلك الغرض، أتمنى أن تُتاح لي الفرصه لانجازها فى المستقبل! وحتى ذلك الحين، أرانى قانعا بأن المخرج الوحيد من هذا المأزق هو الاكتفاء بعرض أحد النماذج التفسيرية، بشرط أن يعبر في مجمله عن المحاولات المبكرة لبناء العقل البشرى لفكرة النوع، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، لابد للنموذج المُختار أن يكون فلسفيا مدعما بالأسانيد العقلانية، تتفق فيه العديد من الأفكار الفطرية للشعوب البدائية حول هذا الموضوع..!
لقد وضع لنا الفيلسوف اليوناني أرسطو واحدا من أقدم وأبرز النماذج التفسيرية لعملية التناسل وتحديد النوع. وهو نموذج فلسفى مدعم بالأسانيد العقلانية، تتفق فيه العديد من الأفكار الفطرية للشعوب البدائية حول هذا الموضوع. إضافة إلى أن نمط التفكير الأرسطي ليس فى واقع الأمر غريبا عن خطابنا الحديث، لاسيما العلمي منه، فمازلنا حتى الآن نجهل على وجه اليقين مكمن القدرة على تحديد النوع!! وقد استند كاتب هذه السطور فيما يقول للكتاب الرابع من مؤلفات أرسطو "عن الجنس الحيوانى"، الذى كتبه، ما بين عامي 330 و322 ق.م. وفيه ينطلق أرسطو من فكرة تضمنتها أعمال من سبقوه(2).
إذ يقول أناكساجوراس إن الأب هو أساس عملية تحديد النوع. فالخصية اليمنى هي المسئولة عن إنتاج الذكور لأنها الأكثر حرارة. أما الإناث، فيأتين من اليسرى. بينما يرى أمبيدُقليس أن الأمر يعتمد على حرارة الرحم ودم الحيض، فتلك هي العناصر التي تتحكم في النوع ذكرا كان أم أنثى. وكما نرى في هاتين الحالتين، كلما زادت درجة الحرارة كانت الفرصة مهيأة أكثر لإنجاب الذكور.
وقد انتقد أرسطو الفلاسفة السابقين عليه في بعض النقاط، وقال بأن مسألة البرهنة على أن البرودة تهييء الفرصة لكي يكون للجنين رحم وهو في أحشاء أمه ليست بالأمر الهين. ولكنه مع هذا يُقر بوجود فارق بين البرودة والسخونة، رغم افتراضه من ناحية أخرى عدم وجود تأثير للنطف على الجنين، فهى "نفحة" وقدرة خالصة. فالذكر هو من لديه القدرة على إنضاج الدم وتحويله بقوة الحرارة إلى نطف. فأرسطو يقول فى مؤلفه المذكور: "فتصدر عنه نطفة تحوي أصل الشكل". ومن حيث المبدأ، نفهم أن الذكر ـ في رأي أرسطو ـ هو المحرك الأول سواء كانت الحركة ذاتية نابعة منه أو من كائن آخر، بينما الأنثى مجرد مادة ووعاء. وبما أن كل عملية إنضاج تحتاج إلى حرارة، وبما أن النطف هي النتيجة الخالصة لعملية إنضاج الدم، يكون للذكر إذا حرارة تفوق حرارة الأنثى. وبما أن الأنثى هي الأكثر برودة لتوفر الدم لديها بكميات أكبر فقد وجب أن تفقد بعضه وإلا أنتجت نطفا بدورها..!!
هذا الفارق الجوهري بين السخونة والبرودة هو الذي يُبرر الفروق التشريحية بين الأعضاء التناسلية. فالعضو الساخن، يفرز خلاصة نقية بكميات صغيرة حتى تتمكن الخصية من تخزينها. أما العضو الآخر، البارد، الذي لا يستطيع أن يقوم بعمليات الإنضاج فيحتاج إلى جهاز أكبر هو الرحم فلكل جهاز قدراته التي تلائمه. ولكن إذا كان الرجل الذي يتمتع بالحرارة هو العنصر الغالب، فلماذا ينجب مع هذا إناثا، بل إناثا يشبهن الأمهات؟ يحدث هذا "حينما لا يغلب الأساس الذكورى، فلا يكون للذكر القدرة على إنضاج الدم لنقص ما في الحرارة لا يتمكن من فرض شكله معه، فيصبح أدنى من أن يضطلع بمسئولياته فيتغير بالضرورة للضد" كما يقول أرسطو. أي أن ميلاد الأنثى ينتج عن عجز جزئي "فضد الذكر هو الأنثى"! ويمكننا ـ طبقا لأرسطو ـ أن نتبين صحة هذا الأمر من بعض الحقائق.
إذ ينجب الشباب والكهول إناثا أكثر من الذكور "لأن الحرارة لا تكون بعد تامة لدى الشباب وتكون منعدمة لدى الكهول"، فتصبح نُطفهم مجرد سائل رطب، فيما يُعد علامة على نقص الحرارة في أبدانهم. كذلك تتدخل بعض الأحوال المناخية، إضافة لطبيعة الطعام والماء، فحينما تكون باردة متجمدة فإنها تُهيئ الفرصة لإنجاب الإناث. إذ أن زيادة البرودة تزيد من صعوبة عملية الإنضاج وتحويل الدم إلى نطف، وهى مهمة الرجال. ولكنها كلها أسباب عارضة زائدة و تكميلية لأنه بمجرد تفعيل القدرة الذكورية فلن يتم إنجاب إلا الذكور. وفى هذا كتب أرسطو في مؤلفه المشار إليه سلفا يقول: "إنجاب الإناث بدلا من الذكور يُعد أقصى حالات الخروج عن القاعدة. ولكنه أمر ضروري تفرضه الطبيعة فلابد من المحافظة على نوع الحيوانات، حيث هناك فارق بين الذكر والأنثى". وكل شيء يمكن أن يتغير. فإن تغير تحول إلى الضد. وفى عملية التناسل، ما ليس له الغلبة يتحول إلى الضد حسب طبيعة القدرة التي افتقدها العنصر المولد.
ويميز الفيلسوف اليوناني أرسطو ثلاثة عناصر أساسية في القدرات الذكورية ممكن أن تتحول إلى الضد وهى القدرة التوليدية الذكورية التي تمنح الذكور، فان لم تكن غالبة كان الناتج أنثى. والقدرة الشخصية هي التي تعطي التفرد للذكر. فان لم تكن غالبة حمل الذكر ملامح الأم وليس الأب. فسواء غلبت القدرة التناسلية أم لا فهي تحدد النوع، بينما تحدد القدرة الشخصية ملامح الشبه سواء كانت غالبة أم لا. فان لم تكن غالبة بحيث لا تتمكن من تشكيل المادة الأنثوية فيكون الناتج أنثى تشبه الأم. ولا يقف الأمر عند هذا الحد، فإلى جانب القدرة التوليدية والشخصية هناك القدرة الحركية. فالحركة التي تُشكل الجنين، دون أن يكون لها تأثير على تكوين مادته، قد تكون متصلة أو مرتخية. فإذا أضفنا ارتخاء الحركة، ضعفت أم اشتدت، إلى ضعف القدرة على الإتيان بها، فسر لنا هذا اكتساب الأطفال ملامح أجدادهم لأبيهم من دون ملامح أمهاتهم.
وعلى هذا يكون النموذج الأمثل ـ من وجهة نظر أرسطو ـ هو أن تكون القدرة التناسلية هي الغالبة، فيكون الناتج ذكرا. وأن تسود القدرة الشخصية، فيشبه أباه. وأن تكون الحركة متصلة، فتتطابق ملامحه تماما مع الأب. فإذا حدث في أسوأ الأحوال ضعف في الحركة فسوف يشبه جده أو جده الأكبر لأبيه. أما النموذج الأدنى، فهو التالي: إذا ضعفت القدرة التناسلية يكون الناتج أنثى، ومع ضعف القدرة الشخصية تشبه أمها، فان كانت الحركة متصلة فنحن نفترض أن تشبه الأم بصفة خاصة. أما إن حدث ارتخاء في الحركة فستشبه الجدة أو الجدة الكبرى للأم. وثمة حالتان وسط بين هذه وتلك: فإن تدنت القدرة التناسلية الذكورية وسيطرت القدرة الشخصية، يكون الناتج أنثى تشبه الأب، وإن حدث ارتخاء في الحركة وحسب مداه فسوف تشبه جدها أو جدها الأكبر لأبيها. أما إذا غلبت القدرة التوليدية وانخفضت القدرة الشخصية، فسيكون الناتج ذكرا يشبه أمه، فان حدث ارتخاء في الحركة فسوف يشبه جدته أو جدته الكبرى لأمه.
ولكن أحيانا يُولد كائن لا يحمل أية ملامح بشرية بل حيوانية فقط، فيما يسمى "المسخ"، فما السبب في هذا؟ يقول أرسطو: "حينما ترتخي الحركة ولا يتم السيطرة على المادة لا يتبقى في نهاية الأمر إلا الصفة العامة..."، أي الحيوانية. ولا يجب أن يغيب عنا أن الحركة تأتي من الرجل، كذلك القدرة التناسلية والشخصية. أما المادة فهي الجانب الذي يخص المرأة. فإن تم السيطرة على مختلف القدرات واشتد ارتخاء الحركة فلا يبقى إلا المادة البهيمية الأنثوية أي المادة الحيوانية..!! فالمسخ المهجن يكاد يكون نسخة مستنسخة للأنثى، طبق الأصل للمادة التى تحكمها تلك النفحة. إنه عجز القدرة الرجولية، وجيشان القوى البهيمية الحيوانية للمادة، فلا يتبقى أى توافق فى علاقة القوى الحاضرة ويكون المسخ بالتالي نوعا من الإفراط الأنثوي الناتج عن المادة. اما بالنسبة للذكور فلا يوجد أى إفراط، وذلك بحسب قول أرسطو في كتابه المذكور.
ذلك هو نموذج أرسطو التفسيري، الوارد فى الكتاب الرابع من مؤلفاته "عن الجنس الحيواني"، وضعه أرسطو فى نهاية مشواره، وهو يُرجع دونية المرأة وخضوعها إلى الأزلية البيولوجية! وربما لن تجد فيلسوفا آخر، ولا حتى هيجل نفسه، في أعماله ينطبق عليه تعريف هيجل للفلسفة بأنها عصرها ملخصا في الفكر مثلما ينطبق على أرسطو. أقول هذا لتعلم قارئي الكريم أن اختياري لنموذج أرسطو التفسيري، والقائل بأزلية خضوع المرأة والناظر إليها على أنها موجود مشوه، إنما يُعد ـ نظرا لايغاله فى القدم ـ من الأهمية بمكان، ولو أنه بطبيعة الحال لا ينسخ غيره من النماذج الأخرى التى تُرجع خضوع المرأة إلى أسباب دينية، أو اجتماعية، أو تاريخية، أو اقتصادية، أو ......إلخ.
وقد يعن للقاريء الكريم، وهذا حقه، انتقاد اختيارنا لنموذج أرسطو التفسيري، استنادا إلى أن الفيلسوف اليوناني أرسطو يذهب في نموذجه المهم إلى أن المرأة أدنى من الرجل على اعتبار الوظيفة التي تنجزها وصفاتها المناسبة التي تجلت في المجتمع الأثينى. فالمجتمع الأثيني كان ـ بحق ـ مجتمعا حُرمت فيه المرأة من أي امتياز كما أنها كانت مقهورة تماما، لأنه مجتمع سيطر عليه الرجل سيطرة كاملة حتى أنه عادى المرأة ودورها الذي تلعبه، وأملى عليها الفضائل التي تتحلى بها. حقا اعتقد أرسطو في قدرة البيئة على تشكيل وتغيير الشخصية البشرية وقدراتها، غير أنه لم يهتم ـ وهو الأمر الغريب ـ بتطبيق هذه المعتقدات على النساء أكثر من تطبيقها على العبيد، فهو لم يهتم في الواقع إلا بالرجل الحر المترف، ثم أولئك الذين رآهم يحملون بطبيعتهم خصائص أدنى..!
أقول إنه على الرغم من وجاهة القول بخصوصية النموذج الأرسطي الذى عامل الغالبية العظمى من البشر على أنهم أدوات، ثم حكم عليهم بأنهم بالضرورة في مرتبة أدنى من الموجود البشري، يظل واضحا عجز أصحاب هذا الرأي عن افهامنا كيف أن عددا من الباحثين الذين درسوا مؤلفات أرسطو بطرق شتى ـ حتى هذه اللحظة ـ لا يشعرون أنهم مجبرون على اتخاذ موقف معارض للطريقة التي نظر بها الرجل إلى المرأة!! حتى أن أحدهم وهو الباحث جون فرجسون John Ferguson ذهب في كتاب أصدره عن أرسطو إلى أن أولئك الذين رفضوا نظرة أرسطو الدونية في السياسة للنساء، لابد من أن يتأكدوا من أنهم لم يعانوا من الأحكام المبتسرة المتبقية وهم يقدمون مساواة عملية ونظرية في آن معا(3)! وهو ما يعضد زعمنا بصدق تعبير النموذج الأرسطى عن قدم ورسوخ القناعة السائدة والقائلة بدونية جنس النساء وأفضلية جنس الرجال عليه، بغض النظر عن طبيعة الأسانيد المعضدة لتلك القناعة، سواء كانت أسانيد بيولوجية، كتلك التى أخذ بها أرسطو في نموذجه، أو كانت غير بيولوجية..
الهزيمة التاريخية الكبرى للمرأة:
قارئي الكريم، ها أنا قد أثبت لك ولنفسي، من خلال العرض السابق لنموذج أرسطو التفسيري لعملية التناسل وتحديد النوع، أن القول بدونية المرأة وخضوعها للرجل ـ شأنه في ذلك شأن كافة الأفكار الفاسدة الأخرى ـ يضرب بجذور عميقة في أذهاننا ـ معشر البشر ـ، على اختلاف الأسانيد والحجج التى لطالما استُخدمت لتعضيد ذلك القول الجائر! بيد أن السؤال، المثير للحيرة والجدل، يظل مطروحا بقوة: تُرى هل اقترنت نشأة القناعة القائلة بدونية جنس النساء وأفضلية جنس الرجال عليه بخلق الانسان أم أنها نشأت فى لحظة تاريخية لاحقة على خلق الانسان، تلك التى يسميها البعض لحظة الهزيمة التاريخية الكبرى للمرأة، ثم أخذت منذ ذلك الحين تزداد عمقا ورسوخا فى الذهنية البشرية، وهو ما أغرى الكثيرين، ومنهم الفيلسوف اليوناني أرسطو، لا حقا بمحاولة تعضيدها ـ أقصد تعضيد تلك القناعة الوليدة ـ بشتى الأسانيد والحجج على اختلافها؟!
أعتقد أن تكوين رأي قاطع حول ما إذا كانت نشأة القناعة القائلة بدونية جنس النساء وأفضلية جنس الرجال عليه قد اقترنت بخلق الانسان، يُعد أمرا من الصعوبة بمكان، بل هو درب من دروب المستحيل، إن لم يكن هو المستحيل نفسه! وكيف لا؟! وآدم وحواء كانا وحدهما فى فجر البشرية، وليس لإنسان أن يعرف على وجه اليقين ما دار بخلدهما آنذاك حول طبيعة العلاقة بينهما ـ أقصد طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة ـ وكذا ليس لإنسان أن يعرف كيف نظما دوريهما فى الحياة؟ وهل كانت العلاقة بينهما علاقة الند للند أم كانت علاقة التابع (المرأة) بالسيد (الرجل)؟ الله وحده يعلم على وجه اليقين ما دار بينهما!
الحق أن السرد الديني لقصة بدء الخليقة، والذى يتشابه إلى حد يُعتد به فى الكتب التى جاءت بها الأديان السماوية، وأعنى بها هنا الكتاب المقدس (التوراة والإنجيل) والقرآن الكريم، يُعد المصدر الأكثر قبولا وثقة من جانبنا معشر البشر فى التعرف على أحداث تلك الفترة المبكرة جدا من تاريخ البشرية وطبيعة علاقة آدم بحواء، باعتبار أن تلك الكتب هى كلمة الله إلى الإنسان، مع ضرورة الأخذ فى الاعتبار أن السرد القرآني لقصة بدء الخليقة، وعلى خلاف السرد التوراتي لها، يتسم بالايجاز ويساوى صراحة بين آدم وحواء فى تحمل المسئولية(4). بيد أن الغريب، بل والمدهش أيضا، أن ذلك السرد الديني، على بساطة ووضوح صياغته، يُفهم بطريقتين مختلفتين، بل متعارضتين تماما! فهناك من يراه تكريسا واضحا لايقبل الشك لأزلية خضوع المرأة للرجل، وهناك من يراه من ناحية أخرى تكريسا واضحا لا يقبل الشك لأزلية المساواة بين المرأة والرجل!!
ولكون وجهة نظر أصحاب الرأى الثانى هى الأقرب للعقل وطبيعة الأشياء، يعمد كاتب هذه السطور لعرض قراءة الباحثة مارلين تادرس للسرد الديني لقصة بدء الخليقة، تلك القراءة الواردة فى دراستها الصادرة ضمن منشورات تضامن المرأة العربية(5)، والتى تُعد مدخلنا لترجيح عدم اقتران نشأة القناعة القائلة بدونية جنس النساء وأفضلية جنس الرجال عليه بخلق الإنسان، فالسرد الديني فى مجمله ـ كما سوف نلاحظ فى قراءة الباحثة مارلين تادرس له ـ يُعد على الأرجح تكريسا واضحا لأزلية المساواة بين المرأة والرجل..!
يقول العهد القديم(6): (فخلق الله الانسان على صورته. على صورة الله خلقه. ذكرا وانثى خلقهم). ونفهم من هذه الآية أن صورة الانسان وليست صورة آدم وحده هى التى على صورة الله. فالانسان قوة وفكر وارادة وقدرة على صنع القرار وما إلى هذا من الصفات السامية التى هى أيضا صفات الله. والتأكيد هنا واضح على كلمتى ذكر وانثى، يؤكد أن آدم وحواء معا هما على صورة الله وليس آدم وحده، لأنه لو كان بمفرده على صورة الله لاختلفت صيغة الآية..
وعندما خلق الله آدم قال(7): (ليس جيدا أن يكون آدم وحده. فاصنع له معينا نظيره). أى أن الله رأى أدم بمفرده وأراد له أنيس ومعين. وهنا يقول البعض أن المعنى المقصود هو أن حواء خُلقت من أجل آدم فهو الأصل وهي التابع وانها قد خُلقت له. ولهؤلاء تسوق مارلين تادرس فى دراستها مثالا صغيرا، وهو أنه حينما يكون لأحد ابنا ويقول انه يريد ابنا آخر ليؤنسه أو يعينه فهل معنى هذا أن الابن الثانى خُلق من أجل الأول وأن الأول له حق السلطة على الثاني وأن الثاني واجبه الخضوع للأول لأن الأول هو الأصل والثاني هو التكملة؟!
هناك فرق كبير جدا بين خُلقت له وبين خُلقت لتعينه! فالأولى تعنى بالضرورة أن الرجل هو الأصل وهى المكمل له أى زيادة عدد، وهو الأصل وهى جاءت فقط تساعد. ولكن المتأمل للآية يجد أنها تقول شيئا مختلفا تماما فهى تقول (معين)، وكلمة معين تختلف تماما عن كلمة مساعد. فالمعين تعنى أن هذا الشخص لابد وأن يكون على نفس مستوى الذى يعينه إن لم يكن متفوقا عليه حتى يستطيع إعانته، أما المساعد فانها تعنى أن هناك أصل وهناك من هو تكميلي أتى فقط لكي يساعد. والفرق واضح بين الاثنين. أما الذى يؤكد هذا الفرق فهو الكلمة التالية فى الآية وهى (نظيره)، والنظير كما تقول القواميس المختلفة هو الند أو المثل وليس الأقل كما يقول البعض، وهى تحتم أن يكون الطرفان من مستوى واحد فى كل شيء.
وقد بارك الله آدم وحواء وقال لهما أثمروا واملأوا الأرض وقد أخضع لهم الأسماك والطيور والدواب، ولكنه لم يقل قط انه أخضع جنس لآخر أو طرف لآخر. وهذه ملحوظة مهمة، إذ أن كلمة الخضوع كانت واردة، فاذا أراد الله خضوع جنس لآخر لكانت هذه مناسبة قوية لكي يذكرها ويؤكد عليها، ولكنه لم يفعل. وهو ما تراه الباحثة مارلين تادرس دليلا على حق المرأة فى الوقوف مع الرجل على قدم المساواة، وعدم خضوعها له، فقد أُريد لها أن تكون معينا له.
وهناك من يبرر خضوع حواء لآدم لكونها جزء منه أو لكونها خُلقت منه ومن ضلعه، ومن هذا المنطق يكون الرجل هو المتحكم فى المرأة. ولكن هذا الفكر غريب حقا، فكون آدم خُلق من التراب لا يعنى أنه يخضع لهذا التراب بأي حال من الأحوال. إنها مجرد مادة استخدمها الله لخلق آدم. واذا كان الله استخدم ضلع آدم فى خلق حواء فالدلالة هنا أن آدم وحواء جزء لا يتجزأ وانهما شريكين فى الحياة ولا يعنى مطلقا أنها الأقل. ولهذا يقول العهد القديم(8): (لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكونان جسدا واحدا). هذا هو شرح العهد القديم ذاته فى مسألة الضلع. فلم يقل مطلقا أن هذا معناه أن الرجل هو السيد على المرأة أو انها هى الأقل. فهما إذا جسدا واحدا وليسوا منفصلين بالأعلى والأقل، وفى هذا تأكيد لمفهوم أزلية المساواة بين الرجل والمرأة، وليس العكس..!
ويعود العهد القديم ليؤكد مرة ثانية فى بداية الاصحاح الخامس من سفر التكوين أن آدم وحواء معا هما على صورة الله، فيقول(9): (هذا كتاب مواليد آدم. يوم خلق الله الانسان على شبه الله عمله. ذكرا وأنثى خلقه وباركه ودعا اسمه آدم يوم خُلق). ويقول قائل إن كون آدم خُلق قبل حواء فهذا يعطيه حق البنوة الأولى وحق السلطة على القادمين من بعده. وهذا أمر غير منطقى، والكلام للباحثة مارلين تادرس، فالابن الأكبر لا يأخذ حقوقا أكثر من الأصغر بل حقوقا مختلفة فقط. وليس من بين هذه الحقوق السيادة. وكلنا نعلم أن فى التربية السليمة ينبغى أن يكون الأب عادلا لا يفرق بين أبنائه لكون هذا أكبر أو ذاك أصغر بل يعدل بينهم. فكون آدم خُلق أولا لا يعطيه حق السيادة إلا إذا كان أبا ظالما. والابن الأكبر عادة يرعى الأصغر حتى يكبر والرعاية ليست السيادة بطبيعة الحال!
ويبدأ الاصحاح الثالث من سفر التكوين بالحية وبحديثها الشهير مع حواء. والملاحظ هنا أن العهد القديم لم يذكر إذا كانت الحية قد ذهبت إلى حواء ومعها آدم أم ذهبت إلى حواء بمفردها بل يدخل مباشرة فى الموضوع بعد ذكر أن الحية كانت أحيل المخلوقات التى خلقها الله. ولم يذكر العهد القديم أيضا لماذا ذهبت الحية إلى حواء بالذات، فلا يقول إنها كلمتها لأنها هى الأضعف والأسهل فى التأثير عليها، بل يدخل مباشرة إلى الحديث معها. وبعد مناقشة قصيرة يقول العهد القديم إن حواء..(أخذت من ثمرها وأكلت وأعطت رجلها أيضا معها فأكل)(10).
والملاحظ هنا أن حواء أكلت من الشجرة بعد نقاش وإن كان قصيرا. أما آدم فقد أكل دون نقاش، إذ أن حواء استدارت وأعطت آدم فأكل معها، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل ـ من وجهة نظر الباحثة مارلين تادرس ـ على أن آدم استسلم دون نقاش! ومن ثم تتساءل: هل نستطيع القول إنه كان الأجدر بالحية أن تذهب إلي آدم وليس حواء؟! وتتخذ مارلين من هذا التساؤل مدخلا للقول بأن الأجدر بنا، بدلا من السعى لادانة جنس على حساب الجنس الآخر، أن نقول إن الصفات العامة مثل الضعف أمام الخطيئة هى التى ورثها العالم من الجنسين من آدم وحواء، أما الصفات الشخصية لكل منهما فلنبقيها كصفات شخصية..! خاصة وأن آدم حينما سأله الله إذا كان قد أكل من الشجرة أم لا خاف خوفا عظيما وألقى بالتهمة فورا على حواء، قائلا(11): (المرأة التى جعلتها معى هى التى أعطتنى من الشجرة فأكلت). وهو القول الذى تقارنه مارلين تادرس بقول قابيل! فحينما قتل الأخير أخيه هابيل، وسأله الله عنه، لم يُلق قابيل باللوم على أحد، بل قال بكل حزن، مع خضوع وندم عظيمين (12): (ذنبي أعظم من أن يُحتمل)!!
ولنتأمل الآن العقاب الذى أوقعه الله عى آدم وحواء والبشرية من بعدهما. لقد قال الله لآدم(13): (ملعونة الأرض بسببك. بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك).. إلى آخر هذه الآية من التعب والجهد. وقال لحواء(14): (إلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك). إذن فقد نال العقاب آدم وحواء، بيد أن الملاحظ أن الله لم يقل لحواء مثلا (وله تخضعين)، إذ أنه لو قالها لحُسمت القضية نهائيا، ولكانت حواء اليوم خاضعة وانتهى الأمر، ولكنه يقول إن آدم، وكنتيجة للسقوط، سيسود علي حواء ويحاول السيطرة الدائمة عليها. وهو ما ترى فيه الباحثة مارلين تادرس تفسيرا لنزوع المجتمعات التى تلت الخروج من الجنة لأن تصبح مجتمعات أبوية، فليس ذلك فى رأيها إلا إستجابة لا شعورية من تلك المجتمعات لأمر الله الصادر إليها! وتخلص الباحثة فى نهاية قراءتها الموضوعية للسرد التوراتى لقصة بدء الخليقة إلى القول بأن مجيء المسيح أعاد الطرفان، وتعنى بهما الرجل والمرأة، متساويان فى الحقوق كما كانا قبل السقوط، لأنه ـ بحسب تحليلها المدهش ـ إذا كان الوضع قبل السقوط هو عدم المساواة فلماذا قالها الله من ضمن النقمات؟!
قارئي الكريم، عبرت سلفا عن اعتقادى بأن تكوين رأي قاطع حول مسألة ما إذا كانت القناعة القائلة بدونية جنس النساء وأفضلية جنس الرجال عليه قديمة قدم الخلق الإنساني، يُعد أمرا من الصعوبة بمكان، بل هو درب من دروب المستحيل، إن لم يكن هو المستحيل نفسه! ومن ثم لا يسعنى الآن، بعد عرض هذا التحليل الموجز للسرد الدينى ـ خاصة التوراتي ـ لقصة بدء الخليقة، سوى القول بأن نشأة القناعة المذكورة لم تقترن بخلق الانسان، وهو قول أراه الأرجح وإن لم يكن يقينيا، فالحقيقة مكانها الوحيد صدر الاله! أقول هذا لأعفى نفسى وقارئي الكريم من الانتقادات المتوقعة والتى لابد أنها ستأتى من ملاك الحقيقة المطلقة!
والآن، وقد رجحنا كون القناعة القائلة بدونية جنس النساء وأفضلية جنس الرجال عليه ليست قديمة قدم الخلق الانساني، فلا مفر إذن من القول بأنها نشأت فى لحظة تاريخية لاحقة، تلك التى يسميها البعض لحظة الهزيمة التاريخية الكبرى للمرأة، ثم أخذت منذ ذلك الحين تزداد عمقا ورسوخا فى الذهنية البشرية، وهو ما أغرى الكثيرين، ومنهم أرسطو، لا حقا بمحاولة تعضيدها ـ أقصد تعضيد تلك القناعة الوليدة ـ بشتى الأسانيد والحجج على اختلافها. ولنا أيضا أن نتساءل عن تلك الهزيمة التاريخية الكبرى للمرأة، والتي لا نزال نرفل فى تداعياتها؟!
الحق أنه ليس أمامنا من سبيل سوى الاحتكام لعلم التاريخ، فهو ـ على الأرجح ـ العلم الأقدر على تمكيننا من الاجابة على هذا التساؤل الملح والمهم. ولكن، كيف لنا أن نطمئن للتاريخ المكتوب والمعروف أن الفئة الأقوى نفوذا فى كل زمان ومكان هى التى تبرز فى التاريخ ويهتم المؤرخون بها وبأفكارها وأعمالها، فى حين تعانى الفئة الأضعف فى كل زمان ومكان التجاهل و النسيان؟! الحل الوحيد فى رأيي هو الاحتكام للدراسات الموضوعية، فمع بروز فئات وتكتلات أخرى واكتسابها لمزيد من القوة السياسية والاقتصادية والمعرفية فإنها تكتسب فى الوقت نفسه اهتمام المؤرخين، أو تُنتج من بين أفرادها مؤرخيها.
وهذا ما يشهد به عصرنا الحديث، فمع صعود طبقة العمال سياسيا واقتصاديا ومعرفيا بسبب تزايد قوة المنظمات والاتحادات والنقابات العمالية، إزداد عدد المؤرخين الذين أعادوا دراسة التاريخ بوعى أكبر يدرك حركة العمال لمقاومة الظلم والاضطهاد الذى وقع عليهم من أصحاب رؤوس الأموال. حدث هذا أيضا بالنسبة لحركة الزنوج وحركة الشباب والحركات المقاومة للاستعمار. والحركة النسائية لم تشذ بطبيعة الحال عن تلك القاعدة، فمع تزايد قوتها فى مختلف بلاد العالم، وكذا مع ازدياد قدرتها على تنظيم صفوفها واكتسابها نوعا من القوة السياسية والاقتصادية والمعرفية، تزيد أو تنقص من مجتمع لآخر، ازداد ظهور عدد من المؤرخات والمؤرخين الذين أدركوا أهمية إعادة قراءة التاريخ بأفق أكثر تفهما لدور المرأة، وذلك على حد تعبير الكاتبة نوال السعداوي(15).
أقول إنه يحق لنا الاحتكام للدراسات التاريخية الموضوعية فى بحثنا عن اجابة لتساؤلاتنا عن الهزيمة التاريخية الكبرى التي لحقت بجنس المرأة، وأخضعتها للرجل على نحو أو آخر؟! باعتبار أن تلك الدراسات هى الأكثر تفهما لدور المرأة في التاريخ الإنساني. ولعل الدراسة الأهم في هذا الصدد، هي(16): "أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة"، وفيها يؤكد فردريك انجلز إن إسقاط الحق الأمومي كان هزيمة تاريخية عالمية لجنس المرأة، ويعزوه بكليته إلى عصر ما قبل التاريخ، وذلك لعدم توافر معلومات ـ على حد تعبير انجلز نفسه ـ عن كيف ومتى تحققت هذه الثورة عند الشعوب المتمدنة!!
يقول إنجلز في مقدمة الطبعة الألمانية الرابعة لدراسته القيمة "أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة"، إن دراسة تاريخ العائلة تبدأ منذ عام 1861، عندما صدر كتاب "حق الأم"، للمؤرخ والحقوقي السويسري يوهان يعقوب باهوفن، فقد تقدم المؤلف فى هذا العمل بالموضوعات التالية: 1ـ فى البدء كانت توجد عند البشر علاقات جنسية غير محدودة، أُطلق عليها التعبير غير الموفق، برأى انجلز، "الهيتيرية". 2ـ ان هذه العلاقات تنفي كل امكانية لتقديم الدليل الأكيد على الأبوة، ولهذا لم يكن من الممكن تقرير النسب إلا حسب خط الأم، بموجب حق الأم، كما كان الحال فى البدء عند جميع شعوب الأزمنة الغابرة. 3ـ من جراء هذا، تمتعت النساء، بوصفهن الوالدات الوحيدات المعروفات بكل ثقة وتأكيد للجيل الفتى، بقدر كبير من الاحترام والتقدير، بلغ، برأى باهوفن، حد سيادة النساء التامة "الجينيكوقراطية"، أي حكم النساء..! 4ـ ان الانتقال إلى الزواج الأحادي الذى تخص المرأة بموجبه رجلا واحدا لا غير كان ينطوي على مخالفة عملية لحق الرجال الآخرين المزمن فى هذه المرأة..! ويضيف انجلز قائلا إن الأدلة على هذه الموضوعات المثيرة والشائكة، يجدها باهوفن بوفرة فى استشهادات عديدة، مجموعة بفائق الدقة والعناية، من أدب الأزمنة الغابرة الكلاسيكي..
وينطلق انجلز من مقولات باهوفن لتأكيد انه بموجب الحق الأمومي، أي طالما كان النسب لا يُحسب إلا تبعا لحبل النسل النسائي، وكذلك بموجب نظام الوراثة البدائي في العشيرة، كان العضو المتوفى في العشيرة يرثه انسباؤه في العشيرة. وكان ينبغي أن يبقى الإرث في العشيرة. وبما أن الأشياء التي يتألف منها الإرث كانت زهيدة، فقد كانت، على الأرجح، تنتقل بالفعل منذ غابر الأزمان إلى أقرب الأنسباء، أي إلى الأقرباء بالدم من ناحية الأم. ولكن أولاد الرجل المتوفى كانوا لا ينتمون إلى عشيرته، بل إلى عشيرة أمهم، فكانوا يرثون أمهم باديء ذي بدء مع سائر أقربائها بالدم، وفيما بعد، في المقام الأول أغلب الظن. بيد انه لم يكن بوسعهم أن يرثوا والدهم لأنهم كانوا لا ينتمون إلى عشيرته، فكان ينبغي أن يبقى ملك الأب في هذه العشيرة. ولذا بعد وفاة صاحب القطعان، كان ينبغي أن تنتقل قطعانه في المقام الأول إلى إخوته وأخواته وإلى أولاد أخواته أو حتى إلى ذريات أخوات أمه. أما أولاده بالذات، فكانوا محرومين من ارثه.
وهكذا، بقدر ما كانت الثروات تتنامى، كانت من جهة تعطى الزوج في العائلة مركزا أهم من مركز الزوجة، وكانت من جهة أخرى تولد السعي إلى الاستفادة من هذا المركز المترسخ لأجل تغيير نظام الوراثة التقليدي في مصلحة الأولاد. ولكنه لم يكن من الممكن أن يتحقق هذا طالما كان النسب يحسب تبعا للحق الأمومي. ولهذا كان ينبغي إلغاء هذا الحق، فأُلغى! ولم يكن ذلك صعبا بالقدر الذي نتصوره الآن! فان هذه الثورة، التي كانت ـ طبقا لانجلز ـ من أهم الثورات التي عرفتها البشرية، لم تكن بحاجة إلى مس أي من أعضاء العشيرة الأحياء. فقد كان في وسعهم جميعا أن يبقوا كما كانوا بالأمس. كان يكفى اتخاذ قرار بسيط يقضي بأن تبقى ذرية أعضاء العشيرة الرجل في المستقبل ضمن العشيرة وبان تخرج ذرية أعضاء العشيرة النساء منها وتنتقل إلى عشيرة والدها. وهكذا أُلغى الانتساب حسب حبل النسل النسائي وحق الوراثة حسب خط الأم، وأُقر الانتساب حسب حبل النسل الرجالي وحق الوراثة حسب خط الوالد.
ويخلص انجلز إلى القول بأن إسقاط الحق الأمومي كان بحق هزيمة تاريخية كبرى لجنس النساء. فقد أخذ الزوج دفة القيادة في البيت أيضا، وحُرمت الزوجة من مركزها المشرف، واستُذلت، وغدت عبدة رغائب زوجها، وأمست أداة بسيطة لإنتاج الأولاد. إن وضع المرأة المذل هذا ـ طبقا لانجلز ـ الذي يظهر ببالغ السفور عند يونانيي العصر البطولي وبسفور أشد عند يونانيي العصر الكلاسيكي قد طُلى تدريجيا رياء ونفاقا بالمساحيق، وأُضفيت عليه أحيانا أشكال أخف وأرق، ولكن لم يُقض عليه إطلاقا. وما إن أُقرت سلطة الرجال بوجه الحصر على هذا النحو، حتى أخذ مفعولها الأول يتبدى في شكل انتقالي ظهر آنذاك، هو شكل العائلة (الأبوية)، بكل سلبياتها التي أسهب انجلز في رصدها وتحليلها على نحو يسترعى الاهتمام ويثير الدهشة والتساؤل..!!
قارئي الكريم، أعلم أن تفسير فردريك انجلز لمسألة الهزيمة التاريخية الكبرى للمرأة قد يلقى، شأنه فى ذلك شأن التفسير التوراتى الواجد اياها فى حادثة السقوط أوغيره من التفاسير الأخرى المطروحة فى هذا الصدد، بعض الانتقادات، استنادا إلى جرأة اطروحاته واعلاء صاحبه ـ وهو شريك لكارل ماركس فى وضع النظرية الشيوعية ـ للعامل الاقتصادى واعتباره اياه مسئولا بشكل أو بآخر عن هذه الهزيمة. وهى انتقادات قد لا يعوزها المنطق السليم، ولكنها تظل، على أهميتها، غير قادرة على اقناعنا بامكانية تجاهل التفسير الانجلزي. فجرأة الأطروحات والاعلاء الواضح للعامل الاقتصادي فى تفسير انجلز لمسألة الهزيمة التاريخية الكبرى للمرأة لا يعني بالضرورة مغادرته للموضوعية، وكذا لا يعنى بالضرورة تخلى صاحبه نفسه عن حياده العلمي، خاصة فى ظل ما عُرف عن انجلز من خصائص شخصية وعلمية تشي، بصعوبة حدوث مثل ذلك الأمر.
المرأة ضحية..جلادها الاغتراب الثقافي:
أغلب الظن أنه لا مفر أمامنا الآن، وقد أتبعنا ترجيحنا لكون القناعة القائلة بدونية جنس النساء وأفضلية جنس الرجال عليه، ليست قديمة قدم خلق الانسان، بعرض مسهب لتفسير فردريك انجلز لما يُسمى بلحظة الهزيمة التاريخية الكبرى للمرأة، وهو تفسير يستحق فى مجمله الاحترام، رغم ما قد يُوجه إليه من انتقادات، أراها ـ كما أسلفت ـ غير كافية لاقناع كاتب هذه السطور بتجاهله، وبغض النظر عما إذا كان التفسير الانجلزي هو ما حدث بالفعل أم كان مجرد بناء نظرى لا صله له بالواقع الذى عاشته البشرية فى طفولتها الأولى ـ أقول إنه لا مفر أمامنا الآن سوى التحول لرصد وتحليل علاقة الاغتراب الثقافي بتعميق وترسيخ القول بدونية المرأة وخضوعها للرجل، خاصة فى مجتمعاتنا العربية، ذلك القول الذى لا بد وأنه وُلد مع هزيمة المرأة التاريخية الكبرى، والتى لا تزال المجتمعات المختلفة ترفل فى تداعياتها، بنسب متفاوتة، كما نرى الآن.
ولتكن البداية تعريفنا للـ "الاغتراب الثقافي" بأنه تنازل الانسان عن حقه الطبيعي في امتلاك ثقافة حرة متطورة، إراحة لذاته وإرضاء لمجتمعه..! وأقصد بالثقافة هنا ما أورده ت.س.إليوت في مؤلفه المهم "ملاحظات نحو تعريف الثقافة"، فهى عنده طريقة حياة شعب معين، يعيش معا في مكان واحد. و تظهر هذه الثقافة في فنون أبناء هذا الشعب، وفى نظامهم الاجتماعي، وفى عاداتهم وأعرافهم، وفى دينهم. و طبقا لإليوت لا يكون اجتماع هذه الأمور الثقافة ، وإن تكلم الكثيرون ـ للتسهيل ـ كما لو كان هذا صحيحا. فهذه الأمور ليست إلا الأجزاء التي يمكن أن تُشرح إليها ثقافة ما، كما يمكن تشريح الجسم البشري. ولكن كما أن الإنسان أكثر من مجموع الأجزاء المختلفة المكونة لجسمه، فكذلك الثقافة أكثر من مجموع فنونها وأعرافها ومعتقداتها الدينية. فهذه الأشياء كلها يؤثر بعضها في بعض، ولكي يفهم المرء واحدا منها حق الفهم يجب أن يفهمها جميعا(17).
أقول إن الإنسان ـ فى أى مكان وزمان ـ يغترب ثقافيا حين يتنازل عن حقه الطبيعي في امتلاك ثقافة حرة متطورة، اراحة لذاته و ارضاء لمجتمعه! فأما التماس الإنسان راحة ذاته في اغترابه فمصدره ما يلقيه تجار الآلام في روعه، خاصة في المجتمعات المتخلفة، فهم يوهمونه بأن اغترابه الثقافي فريضة يوجبها الإيمان الصحيح، ويطلبون إليه التنازل طواعية عن حقه في نقد وتطوير ثقافته، تقربا إلى الله و زلفى! وكذلك يطلبون إليه القبول بتخويل آخرين بأعينهم سلطة ممارسة هذا الحق نيابة عنه وعن غيره، وغالبا ما يستندون في ذلك إلى حجج واهية. وفاتهم أنه لا يستقيم أن يقبل الله من عبده تعطيل أثمن ملكاته وأروعها، فما العقل الإنساني إلا قبس الهي يسكن جسد صاحبه، ولولاه لعجز الإنسان عن أداء رسالته التي أرادها الله له في الحياة الدنيا. وأما التماس الإنسان باغترابه إرضاء المجتمع فمرجعه أن تنازله عن حقه الطبيعي في نقد ثقافته وتطويرها غالبا ما يتم في مجتمع يصطلح أفراده على تقدير واحترام المغترب، ويلتقون في اعتقادهم الراسخ بأن الثقافة السائدة هي الضمانة الحقيقية لصيانة هويتهم، وأنها أسمى من أن تمتد إليها أيديهم بالنقد والتطوير. فالمغتربون عادة ما يتنازلون بصورة جماعية عن حقهم الطبيعي في نقد ثقافتهم وتطويرها إلى من يرونه أحق منهم بذلك، وأقدر منهم على ارتياد ما يتصورونه طريقا وعرا محفوفا بالمخاطر.
وبما أن مقالنا هذا يتحدث عن المرأة، فلنا أن نتساءل: هل المرأة والرجل سواء أمام الاغتراب الثقافي؟! أو بعبارة أخرى، هل للاغتراب الثقافي سلطان على المرأة أكثر من الرجل؟! وهل تفوق قدرة الرجل قدرة المرأة على الفكاك من أغلال الاغتراب الثقافي؟! أم أن هذا الاغتراب اللعين لا يفرق بين رجل وامرأة، فيتساوى النوعان أمامه، سواء فى الخضوع له أو فى مدى القدرة على قهره..؟! وهل يصح القول بمثل هذا التكافؤ بين الرجل والمرأة فى مواجهة الاغتراب الثقافي، فى ظل ما نعلمه عن الضعف النسبي للمرأة، خاصة فى المجتمعات المتخلفة، ومنها مجتمعاتنا، فى مواجهة آليات تكريس الاغتراب الثقافى، ومنها البوليسي، والتعليمي، والإعلامي، إلى جانب ما اصطلح على تسميته بالديني!!
الحق أن الاجابة على هذه الأسئلة ليست من السهولة بمكان، فلنحاول معا التماس الاجابة الشافية، عسى أن نجد إليها سبيلا..! ولتكن نقطة البدء كالعادة تأكيدنا على ما خلصنا إليه فى الجزء السابق من هذا المقال، وهو ترجيحنا لكون القناعة القائلة بدونية المرأة وخضوعها للرجل ليست قديمة قدم خلق الانسان، وهو ما بدا جليا فى السرد الدينى ـ وهو المصدر الأكثر ثقة وقبولا ـ لقصة بدأ الخليقة. وكذا ترجيحنا مسألة حدوث هزيمة تاريخية كبرى للمرأة، تلك التى وجدها السرد التوراتى فى حادثة السقوط ووجدها فردريك انجلز ومن قبله الاثنوغرافي الأمريكي لويس هنرى مورغان في إسقاط الحق الأمومي، وهى برأينا ـ أقصد تلك الهزيمة الكبرى ـ ما أغرى الكثيرين، ومنهم الفيلسوف اليوناني أرسطو، لاحقا ـ كما أسلفنا ـ بمحاولة تعضيدها ـ أقصد تعضيد تلك القناعة الوليدة ـ بشتى الأسانيد والحجج على اختلافها وتنوعها بشكل ملفت للنظر!
ولننطلق من التأكيدات والترجيحات السابقة للقول بأن المرأة والرجل سواء أمام الاغتراب الثقافي، فالعقل ـ والكلام لديكارت ـ هو أعدل الأشياء قسمة بيننا معشر البشر. بيد أن المرأة بصفة عامة، وفى المجتمعات المتخلفة بصفة خاصة، قد تكون أقل قدرة على الصمود أمام آليات تكريس الاغتراب الثقافي، خاصة الآليات ذات الصبغة الدينية، ومن ثم نجدها فى بعض الأحيان أكثر انخراطا وتمسكا بالاغتراب الثقافي من الرجل المغترب! وعليه، يبيت منطقيا القول بوجود علاقة طردية وثيقة بين الاغتراب الثقافى ورسوخ القناعة القائلة بدونية المرأة وخضوعها للرجل! فكلما زاد الاغتراب ترسخت تلك القناعة، والعكس صحيح!
فالمألوف أن تجد فى المجتمعات الموغلة فى الاغتراب امرأة تدافع عن دونيتها وتباهى بخضوعها للرجل! بل إنها غالبا ما تتجاوز ذلك إلى تلقين صغارها، اناثا كانوا أم ذكورا، هذه القناعة! وفى هذا السياق تحضرني حادثة، أراها ذات دلالة مهمة، تحفظها ذاكرتي ـ لحسن الحظ ـ على غير العادة، وهو أنى كنت فى زيارة لاحدى قرى الريف المصري. ووجدت امرأة مسنة تنهر ـ بعصبية شديدة ـ طفلة صغيرة لضربها طفلا فى عمرها، قائلة للطفل: "اضربها على قلبها..انت ولد وهى بنت"! وكنت أعلم أن الطفل والطفله من أحفادها، الأمر الذى دعانى للتفكر: إلى هذه الدرجة يمكن أن تعمد المرأة المغتربة لترسيخ دونية بنات جنسها وتكريس خضوعهن للرجال، إراحة لذاتها وإرضاء لمجتمعها..!
وقلت لنفسي: أن تبغى المرأة المسنة بفعلتها تلك إرضاء مجتمعها، فهذا أمر يمكن تفهمه، خاصة وأنها تعيش فى مجتمع مغترب، اصطلح أفراده على توقير واحترام المغترب. أما أن تبغى بفعلتها تلك إراحة ذاتها..فكيف لى ولقارئي الكريم أن نتفهم ذلك؟! ألم تكن هذه المرأة المسنة نفسها طفلة فى يوم من الأيام ومن ثم عانت الأمرين من مثل هذه المعاملة غير العادلة، لا لشيء إلا لكونها أنثى، فكيف لعقلها وضميرها أن يستريحا لأمر كهذا؟ ألم يكن أولى بها أن تثأر لنفسها ولبنات جنسها، خاصة وقد أصبحت أما وجدة، بأن تعمد، لا أقول لنصرة بنات جنسها، بل على الأقل لترسيخ قناعة جديدة فى نفوس الصغار، مفادها المساواة بين الطفل والطفلة، الصبى والصبية، الشاب والشابة، الرجل والمرأة، المسن والمسنة؟! ووجدتنى أقول لنفسي، أما وأن هذه المرأة المسنة لم تفعل ما يقضى به المنطق السليم، فلابد وأن وراء سلوكها الشاذ وغير المنطقى دوافع بعينها أغرتها بهذا الفعل وحببته إلى قلبها وعقلها!! تُرى ما هى هذه الدوافع وما مدى قوتها..؟!
أغلب الظن أن هذه المرأة المسنة، شأنها شأن بقية المغتربات، فى كل مكان وزمان، ناءت بنير الاغتراب الثقافي، وأرعبها الواقع المؤلم الذى أفرزته آليات تكريسه، ولو أنها لم تدرك كنهها أوأهدافها، إذ أنها لو فعلت لعمدت لقهر اغترابها الثقافي ـ أقول إن إغتراب هذه المرأة المسنة حال دون تمردها واقدامها على نقد الثقافة السائدة فى مجتمعها المغترب بكل سلبياتها، ومن ثم لم يبق أمامها، هى وغيرها من المغتربات، سوى التماس ما يمكن تسميته بـ"الراحة السلبية" فى كنف تلك الثقافة، وذلك عبر خضوعهن الكامل للقناعة القائلة بدونيتهن وخضوعهن للرجل، شريكهن فى الاغتراب، على أمل أن تحظين بعطفه! وبعبارة أخرى قبلت هذه المرأة أن تكون ضحية الضحية، فهى والرجل ضحايا للاغتراب الثقافي، غير أن خضوعها له، علاوة على كونه يرضي غرور الرجل ويمنحها عطفه، فهو ـ أقصد خضوعها للرجل و تكريسها للقناعة القائلة بدونيتها ـ يجنبها ما تتصوره صداما لا قبل لها باحتماله مع الواقع المؤلم الذى يُسفر عنه بالضرورة الاغتراب الثقافي للمجتمع. وحجج المرأة االمتعارف عليها فى هذا الصدد هى أنها ضعيفة لا تقوى على الاحتمال ومجالدة الواقع كالرجال، وأنها تجد فى خضوعها للرجل اشباعا لانوثتها، علاوة على ما تتصوره شعورا بالأمان فى كنف الرجل..!
وفى هذا خلط شديد ومخيف للأوراق من جانب المرأة، تفوز بفضله ـ من وجهة نظرها المغتربة ـ بأخف الضررين وأقلهما مرارة! فتحت عباءة الرجل المغترب ومن خلف ستارته، تمارس المرأة المغتربة ما تعتقد فى صعوبة ممارسته إن هى خرجت من تحت عباءته، إضافة إلى أنها تجنب نفسها فى الوقت نفسه وإلى حد كبير مسئولية التعاطى مع الواقع الذى تراه مؤلما، وليس مغتربا متخلفا! المسألة إذن خضوع مصلحي(*) مؤسف ومريض، ناتج عن قراءة اغترابية للواقع، خلصت منها المرأة المغتربة، إلى وجوب، بل حتمية التحايل علي هذا الواقع المؤلم والتعايش معه، لا السعى الى تغييره عبر تحرير الثقافة السائدة وتطويرها، ظنا منها أنها تحافظ بذلك على ما استقر فى يقينها بفضل آليات تكريس الاغتراب، على أنه هوية ثقافية، ينتحر من يقدم على نقدها أو تطويرها!
وأغلب الظن ان الرجل المغترب، وإن أرضى غروره خضوع المرأة المغتربة له واقرارها أمامه بدونيتها وفوقيته، إلا أنه يظل يشعر فى قرارة نفسه بما ترمى إليه شريكته فى الاغتراب، ومن ثم تساوره المخاوف إزاء خضوعها، إذ أنه ينظر إليه دائما على أنه "حيلة نسائية" للايقاع به والنيل منه! الأمر الذى يفسر لنا شيوع القول بمكر النساء فى المجتمعات المغتربة، وكذا يفسر لنا ـ والكلام هنا للدكتورة نوال السعداوي(18) ـ كون علاقة الرجل والمرأة فى تلك المجتمعات، ومنها مجتمعاتنا العربية،علاقة كراهية وحب مشبوب فى آن واحد، لذة وألم، اقبال وفرار، راحة وعذاب، قسوة وحنان، سذاجة ومكر..إلى آخر تلك التناقضات التى تميز تلك العاطفة الشائعة بين الرجال والنساء فى المجتمعات المغتربة..!
صفوة القول أن المرأة ضحية جلادها الاغتراب الثقافي، فلولا الواقع المؤلم الذى يفرزه الاغتراب الثقافي، لما عمدت المرأة إلى المكر والحيلة التماسا لما تتصوره راحة فى كنف الثقافة السائدة، ولرأيناها ـ على نحو ما نرى فى المجتمعات غير المغتربة ـ شريكة للرجل على قدم المساواة فى بناء الحضارة الانسانية. فالملاحظ فى المجتمعات المغتربة ندرة الابداع النسائي، بشكل ملفت للنظر، ففي ظل الاغتراب الثقافي تضمحل قدرات النساء جسدا وعقلا ونفسا منذ الطفولة وحتى نهاية العمر، وانها لنادرة فعلا تلك المرأة التى تستطيع أن تفلت من قبضة الاغتراب الثقافي المتربص بها وبشريكها الرجل داخل البيت وخارجه.
دور المرأة فى بناء الذات الأنسنية:
إن بناء الذات الأنسنية، طبقا لما جاء في كتاباتي السابقة، لا يعني سوى صياغتها بما يسمح لها بتحقيق أكبر قدر ممكن من التطابق بين أقوالها وأفعالها، شريطة انطواء تلك الأقوال والأفعال على تثمين للأنسنية القائلة بالإنسان، رجلا كان أم امرأة، كأعلى قيمة في الوجود، وهدفها الماثل في التمحيص النقدي للأشياء بما هي نتاج للعمل البشري وللطاقات البشرية، تحسبا لسوء القراءة وسوء التأويل البشريين للماضي الجمعي كما للحاضر الجمعي. وكذا شريطة وقوع تلك الأقوال والأفعال في إطار الخصائص العامة للأنسنية(19):
[1] معيار التقويم هو الإنسان.
[2] الإشادة بالعقل ورد التطور إلى ثورته الدائمة.
[3] تثمين الطبيعة والتعاطي المتحضر معها.
[4] القول بأن التقدم إنما يتم بالإنسان نفسه.
[5] تأكيد النزعة الحسية الجمالية.
وطبقا للمعيار الأنسني، يُعد الإنسان أنسنيا (ذاتا أنسنية) طالما أدرك الأنسنية وسعى لتبصير الغير بها، ولم يستأثر بها لنفسه أو لفريق بعينه، وكذا يُعد الإنسان ذاتا حتى لو جهل الأنسنية، ولم يُدرك كنهها، أو أعرض عنها، لكنه في تلك الحالة يكون ذاتا مغتربة ثقافيا. فالشائع في المجتمعات المتخلفة ـ كما وضحنا سلفا ـ هو تنازل الإنسان عن حقه الطبيعي في امتلاك ثقافة حرة ومتطورة، إراحة لذاته وإرضاء لمجتمعه! وباستخدام المعيار نفسه، يُعد آخرا كل من يدرك الأنسنية ويستأثر بها لنفسه أو لفريق بعينه، ويعمل جاهدا في الوقت نفسه للحيلولة دون أخذ الذات المغتربة ثقافيا بها كنهج حياة، وتعميتها عنها بشتى الوسائل والسبل، بهدف حرمان تلك الذات من جني ثمار الأخذ بالأنسنية. فتطور التاريخ الإنساني ـ طبقا لما انتهيت إليه في بحوثي ودراساتي ـ لا يعدو كونه نتاجا لصراع ثقافي معقد، أطرافه الذات الأنسنية والذات المغتربة والآخر. أقول صراعا ثقافيا، استنادا لتعريف إليوت الأنثروبولوجي للثقافة بأنها طريقة شاملة للحياة، وهو ما يعني كون الصراع أعم