2013-12-06 تحليل الظاهرة السياسية
|
| |
تداخل الذات العارفة مع موضوع معرفتها شرط موضوعي لظهور كثير من العوائق الإبستمولوجية لموضوعية العلوم الإنسانية عامة. وأعم هذه العوائق التداخل بين المعرفة العامة والمعرفة العلمية، علما بأن الذوات الفاعلة في الظواهر الإنسانية أو الملاحظة لها ملاحظة أولى تعتقد بأنها فهمت حقيقة الظاهرة وأنها يمكن أن تقدم معرفة عنها. وهناك تداخلات أخرى على صعيد اللغة والتمثلات بين النعرفة العامة والمعرفة العلمية.يصدق هذا الأمر على الظواهر الإنسانية بصفة عامة.
سسنقتصرهنا على دراسة الظاهرة السياسية لكي نبرز بصددها التداخل الذي تحدثنا عنه بيالدات والموضوع وأثره على دراسة الظاهرة. الظاهرة السياسية إنتاجا لمعرفة تحتاج دائما إلى ف. تبدو الظاهرة السياسية من هدا المنظور متصفة بعدد من الصفات التي ينبغي اعتبارها في دراستها.
1- الظاهرة السياسية معقدة بمكوناتها المتعددة والمتنوعة، وهو الأمر الذي يدفع الباحث إلى طلب الاستعانة بعلوم أخرى ومناهج غير المنهج الذي يعتمده علم السياسة ضمن إطاره المعرفي الخاص. فالظاهرة السياسية مجتمعية بطبعها إذ لا تصور لها خارج وجود مجتمع تنتظم حياته ضمن توافقات صريحة أو ضمنية. لكن، يظل الفرق مع ذلك كامنا في أن الظواهر المجتمعية ليست جميعها بالضرورة سياسية. والظاهرة السياسية، من جانب آخر، ظاهرة تاريخية. فالمستوى الذي يتعلق به الفعل السياسي، وهوتدبير الشأن العام للمجتمع في صيرورته الداخلية وعلاقاته الخارجية، له تأثير على المسار التاريخي للمجتمع.غير أنه لايتبع ذلك أن تكون كل ظاهرة تاريخية ظاهرة سياسية.وهناك تفاعلات مماثلة للظاهرة السياسية مع الظاهرة الاقتصادية، علما كذلك بأن دراستها تتطلب أحيانا أن يأخذ الدارس بعين الاعتبار جوانب نفسية ولغوية ورمزية.
2- لا تظهر علاقة الظاهرة السياسية بالظواهر الإنسانية الأخرى على مستوى تكوينها فحسب، حيث تكون تلك الظاهرة فاعلا في التكوين، بل تظهر كذلك في العواقب اللازمة عنها. ف. للظاهرة السياسية امتدادات في مستويات أخرى من الفعالية الإنسانية، ويعني هذا الأمر أنه لايمكن التعرف على الظاهرة السياسية في كثير من الحالات إلا بعد مرور زمن عليها وملاحظة حقيقتها من خلال نتائجها. فالظاهرة السياسية تقتضي متابعة تكونها وصيرورتها في نفس الوقت. 3- تخضع الظاهرة السياسية في وقوعها وتطورها وتفاعلها مع الظواهر الإنسانية الأخرى لمتغيرات كثيرة ومتنوعة يصعب معهاالحصول على قوانين عامة وثابتة تحكم الظاهرة. فالمتغيرات التي تدخل في تكوينها تؤدي إلى اختلاف تمظهراتها من مجتمع إلى آخر، ومن فترة إلى أخرى حتى في نفس المجتمع. ونلاحظ كذلك الوتيرة التي تقع بها التغيرات في مكونات الظاهرة السياسية، علما بمظهر آخر للتعقد هو تفاعل التطورات التي تعرفها متغيرات الظاهرة. كل هذه المظاهر التي ذكرناها تجعل التنبؤ صعبا بمسار الظاهرة السياسية وتوجه تطورها. فلو أردنا متابعة الظاهرة السياسية في تحولاتها المستمرة، وأردنا الرجوع إلى مكوناتها من أجل فهمها، فإن ذلك سيقتضي العودة إلى زمن سابق لرصد كل العوامل التي تداخلت في تكوينها.ومن جهة أخرى، لو اتبعنا طريق فهم الظاهرة السياسية عبر نتائجها،فإن ذلك يتطلب منا الانتظار زمنا إلى حين ظهور تلك النتائج. وفي الحالتين معا، يظهر تحليل الظاهرة السياسية بمثابة البحث في تاريخها وتطوراتها.ومعنى ذلك أننا لانستطيع تقديم تحليل يفيد في التأثير على الظاهرة في حين وقوعها لأن فهمها بكل مكوناتها وأبعادها يتطلب زمنا. يصبح فهم الظاهرة السياسية، تبعا لماذكرناه، ممكنا بعد تمام مكوناتها ونتائجها، ويصبح هذا الفهم مفيدا بالنسبة للمستقبل بصدد ظواهر مماثلة أو قريبة، لأن ذلك الفهم لا يشكل أبدا تنبؤا علميا بالمعنى الدقيق للعبارة.
4- يكون التقاطع ممكنا عند التفكير في الظاهرة السياسية بين ماهو علمي وماهو إيديولوجي يتشكل منه لاشعور الباحث ويعوقه في مظاهر ظهوره المختلفة عن إدراك الظاهرة في شروطها الموضوعية خارج كل تصور إيديولوجي عنها.ومن صيغ التداخل بين الذات والموضوع ايضا التقاطع لدى الباحث في الظاهرة السياسية بين البحث النظري في الظاهرة وبين الموقف العملي منها ، والذي قد يكون سابقا على بداية الدراسة، وهو ما يؤثر سلبا على الدراسة ويبعدها بكيفية ما عن المطابقة الموضوعية للوقائع التي تتعلق بها.من آثار الخلط في هذا المستوى الذي تحدثنا عنه ظن الباحث في الظاهرة السياسية أن موقفه منها يمثل حقيقتها الموضوعية، في حين أن هناك مسافة تظل قائمة بين الأمرين مصدرها ذلك الخلط الذي يمثل عائقا لفهمها.
ينجم الخلط السالف الذكر عن شرط واقعي يتمثل في كثير من الحالات في الصفة المزدوجة للباحث الذي يكون في عمله متوترا بين نوعين من المطالب قد لا يفلح دائما في التوفيق بينها. ونرى أنه يمكن التعبير عن التوتر الذي تحدثنا عنه بصيغة أخرى: يوجد داخل الباحث المنخرط في الوقت ذاته في الممارسة السياسية صراع بين إرادته الذاتية في المعرفة وبين الإرادة الجماعية التي ينخرط فيها من أجل تطوير الواقع في اتجاه محدد. وليست المقتضيات التي تتطلبها غاية الإرادتين متطابقة بالضرورة وبصفة مباشرة،إذ لاغنى عن بذل مجهود نفسي وعقلي من أجل إضفاء الموضوعية على دراسة الظاهرة السياسية. 5-حيث إن هناك واقعا جديدا في العالم المعاصر ناتج عن تقدم تواصل البلدان والشعوب، وحيث نتج عن ذلك ظاهرة سياسية لم تكن قائمة في العصور السابقة هي ما ندعوه اليوم بالمجتمع الدولي، فإن هناك على هذا المستوى ظواهر سياسية تتدخل فيها عوامل أخرى مثل الأشكال التي تتخذها العلاقات بين البلدان المختلفة، واتفاق أو اختلاف مصالحها كبلدان أو كمجموعات جهوية، ثم الصراع من أجل تلك المصالح بكل الوسائل والطرق الممكنة للصراع، وتأسيس المنظمات الدولية المختصة في الشؤون التي تهم المجتمع الدولي في مظاهر وحدته. يحتاج كل مستوى من مستويات الظاهرة السياسية من إلى اتباع إجراءات منهجية خاصة نسبيا، وذلك بالنظر إلى تنوع الوقائع واختلاف العوامل التي تتداخل في تكوينها. ويكون المجهود العلمي متمثلا في هذه الحالة في الابتعاد عن الخلط التام بين مستويات تلك الظاهرة.
6- في الظاهرة السياسية ماهو ظاهر للملاحظة الأولى وماهو خفي على تلك الملاحظة بفعل كثير من العوامل التي ترجع إلى شروط موضوعية أو تعود إلى الذوات الفاعلة في حدوث الظاهرة وتطورها.يقول المحللون في هذه الحالة بوجود أسباب قريبة وأخرى بعيدة، كما قد يعبرون عن ذلك بقولهم بوجود أسباب ظاهرة وأخرى عميقة. وفي الصيغتين معا، فإنه يكون على المحلل تجاوز ما يظهر للملاحظة الأولى نحو ماهو خفي عنها.لكن الخفي في الظاهرة السياسية قد يكون بإرادة الفاعلين في حدوثها وصيرورتها، بحجب الحديث حول بعض الأسباب والغايات المؤدية إلى الظاهرة ، فيكون بعض الظاهرة سريا لايتم الكشف عنه إلا بعد زمن قد يكون طويلا لارتباطه بمصالح الدول أو لغير ذلك.وهذا معناه أن محلل الظاهرة السياسية أثناء تكونها ووجودها يفعل ذلك في غياب بعض العوامل الفاعلة فيها وبعض الغايات المقصودة منها، وهو ما يجعل التحليل المباشر للظاهرة السياسية ذا قيمة معرفية نسبية، ولو اعتقد القائم به غير ذلك. تصبح الظاهرة السياسية قابلة للتحليل في هذه الحالة، بصورة موضوعية، عندما تتم معرفة كل مكوناتها، أي عندما تصبح ظاهرة تاريخية نحللها ونحن نعرف ما كان علنيا منها وما كان سريا في زمنه.
7 - ينضاف إلى مستويات الخلط السالفة الذكر في تحليل الظاهرة السياسية خلط آخر هو الذي يظهر في التقاطع الممكن بين تحليل الحدث السياسي وتحليل الظاهرة السياسية. وقد كان هذا الخلط، الذي نلاحظ شيوعه في المنابر الإعلامية على اختلاف أشكالها، من بواعث انتباهنا إلى أنواع الخلط بين المستويات التي تتعلق بالتحليل السياسي.تقتضي الموضوعية على العكس من ذلك في نظرنا،أن نميز في مجال السياسة بين الحدث والظاهرة. فهما مستويان يظهر أحدهما، وهو الظاهرة، أكثر سعة وعمقا من الثاني، أي الحدث.وهناك أمثلة عديدة على هذا التمييز الضروري منهجيا.نذكر من ذلك ،مثلا، أن انتخاب رئيس دولة ما حدث سياسيي ، ولكن الانتخابات السياسية ظاهرة سياسية أعم. واغتيال زعيم أو رئيس أو رئيس حكومة حدث له أبعاد سياسية أكيدة، ولكن الاغتيال السياسي هو الظاهرة السياسية الأعم لذلك الحادث.ويسمح هذا التمييز، إن أخذناه بعين الاعتبار، بالقول إن الاتجاه الموضوعي الغالب هو الانتقال من الحدث إلى الظاهرة من أجل الفهم الموضوعي للحدث. العكس ممكن لأن الحدث يقدم لنا حالة جديدة للظاهرة ويساعد ببعض عناصره على فهمها، ولكن الظاهرة السياسية تبقى هي الأكثر سعة وعمقا.
لم نكن نقصد من الملاحظات السالفة الذكر الاعتراض على إمكانية الدراسة العلمية للظاهرة السياسية، وقد تطور العلم الذي يدرس هذه الظاهرة، مثل بقية العلوم الإنسانية الأخرى،في تحديد موضوعه وبناء مناهجه وتفنيات البحث فيه. غير أنه كان من دوافعنالتأكيد ماقلناه ما لاحظناه في كتابات تروم تحليل الظاهرة السياسية من بعد عن المطابقة الموضوعية للظاهرة، وذلك عبر العوائق التي يضعها أمامها خضوعها بغير وعي لأنواع الخلط الممكنة بين مستويات تمظهر تلك الظاهرة والتي تساعد علي شيوعها وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمكتوبة. فالتزايد الكمي لهذه التحليلات قد يكون مطلوبا، ولكن أمامه مهمة تجاوز أنواع الخلط- العوائق التي ذكرناها