القصيدة، الطبيعة، الإنسان
أول أبجدية للجمال
فاديا الخشن
أمام الأرض المنسحبة الرحبة المتفتحة، وأمام الامتداد البصري الشاسع
استوحى الشعراء قصائدهم الطوال، فتدفقت أفكارهم مسترسلة،كمياه الينبوع خفيفة كحفيف الشجر، ملونة كقوس القزح، مشعة وواضحة كوضوح الشمس، متنوعة كما الورود، وعلى الصلصال البدائي،وعلى الصخر الأصم، دونوا لخيوط الوعي الإنساني الجمالي الأول عبر ملا مستهم الحسية لروائع الطبيعة وبهائها حيث النبض والرعشات، التي أنجبت الحب والجمال والحياة
وحيث الإنسان هو الفاعل المتحرك الراسم للعلاقات، والموثق للصلات، المتحدي لأنواء الطبيعة المتقلبة،الهادئة حينا والغاضبة القاهرة حينا آخر
(فالطبيعة لم تكن مشرقة فاعلة مؤثرة، كما كانت في المدرسة الرومانسية،فالرومانسيين هم الذين عرفوا أسرارها، ومتعها فنشروها في كل مكان،طالبين فيها العزاء تارة،وخلود النفس إلى راحة متناهية تارة أخرى على حد قول الدكتور (ياسين الأيوبي)، تأسيسا على ذلك تباينت الرؤى واختلفت المشارب، ما بين غارق ومستغرق، وهائم ومستلهم،وما بين عاشق أو مناهض أو متصالح أو منحاز، نهضت عصور ،وساد ت فلسفات عديدة وتباينت آ راء، فثمة من رأى الطبيعة أما،تحتضن وترعى وتقدم المأوى والغذاء، وثمة من رأى الإنسان ثمرة،من ثمراتها الناضجة، وثمة من راهن ويراهن مترقبا متأملا أن تقلب الأيام المعادلة، فتتغير المفاهيم السائدة _ ولا سيما بعد نجاح عملية الاستنساخ - وثمة من اعتبر الطبيعة نتاجا إ لهيا أكثر عظمة من صنع الإنسان شانهم في ذلك شأن الشاعر الفرنسي شاتوبريان الذي كان قد ارتأى الخلوة في الطبيعة إنما تورث الشعور بعظمة العناية الإلهية أما الشاعرة مدام دوستايل فقد كانت قد خاطبت شعراء عصرها بقولها (قدروا حبكم وقدسوه ابحثوا عن الخلود في الحب والأ لوهة في الطبيعة
ولكنني في هذه الفسحة الكتابية،لن أتناول الطبيعة الفلسفية،ولا فلسفة الطبيعة بل سأخص الطبيعة،كجزء من الكون، بل كعامل مشترك تناولته قصائد العديد من الشعراء، في بلدان عديدة حيث أن الطبيعة والقصيدة والإنسان ثالوث المعنى الجمالي وأقانيم أول أبجدية للتأمل والحب والجمال ولعل خير ما استهل به الحديث عن، تدفق المشاعر، وذاك الوجد الحالم العطر، الذي عبر عنه الشاعر الفرنسي ((الفو نس دو لا مرتين)) والذي جاء كبوح أثيري، إلى حبيبته جوليا حين قال:
(فلو أن السماء كانت صحيفة / وأرادني الله على أن أرقم فوقها حبي/ لما وسعت) إنها مواصفات الحب المتسامي فوق الشهوة الحسية ذاك الذي كان من أبرز سمات الرومانسية ففي معرض تعبيره عن عظمة الحب وطهارة الروح قال لا مرتين
((نتخاطب بالنظرات/ فلا تكفي ونتلمس الكلمات/ فلا نجد/ لقد انعقدت ألسنتنا من فرط السرور/ واضطربت أعصابنا من شدة التأثر/فبقينا صامتين/ لا لغة إلا هذا الصمت/ ولا حركة إلا هذا السكون /فأما سجودي فملؤه العبادة /وأما سجودها فملؤه السعادة/ وكأنما تنطق هذه الهيئة قائلة إنهما يتساهمان الحب بالقلب/ ويتساقيان الهوى بالنظر))
فتأملات (لا مرتين) التي غطت شهرتها القرن التاسع عشر نزعت وبشغف كبير نحو الطبيعة المتناهية الجمال والصفاء لكن الولع بها والفئ إليها لم يقتصر على الشاعر (لامرتين) وحسب بل كانت هاجس الشعراء الرومانسيين بشكل عام مثل كل من الشاعر شاتوبريان والشاعر جان جاك روسو وموسيه و .
فالطبيعة التي أثارت كوامن لا مرتين و هزت رواهف حسه والتي تسلل إلى كوامنها، وتغلغل في أعمق أسرارها، وكشف النقاب عن عظمتها، متغنيا بجمالها مستنبطا سحرها مناجيا بها حبه ناشدا فيها السعادة وصفها بإحساس رقيق قائلا ((إن الطبيعة أكبر قساوسة الله/ وأمهر مصوريه/ وأقدر شعرائه/ وأبرع مغنيه/ وإنك لتجد في عش العصفور/ تتناغى فيه أفراخه تحت رفرف الهيكل الدارس/ وفي أنفاس الرياح تهب من البحر/ حاملة إلى أديرة الجبل المقفر ة /خفوق الشرع/ وانين الأمواج/ وغناء الصيادين/ وفي الزهور ينتشر أرجها في الفضاء/ وينتشر ورقها على القبور/ وفي صدى أقدام الزائرين/ تقع على مضاجع الموتى/ من هذا الدير تجد ا في أولئك كله من التقى والروعة والتأثير ما كان في هذا الدير منه في إبان عهده وعنفوان مجده))
فالحب الذي كان ترتيلة حب (لامرتين) وما تقوله الرياح للصخور وما تبوح به العصافير للشجر)
له وقف الشاعر لامرتن مناجيا الغابات التي كانت قد جمعته بحبيبته ((وليا)) قائلا:
((سلاما أيتها الغابات المتوجة ببقايا الخضرة/ وأيتها الأوراق الفاقع لونها /المنثورة على العشب/ سلاما أخريات الأيام الجميلة إن حداد الطبيعة يتجاوب والألم/ ويروق لنظراتي أتبع في خطاي الحالمة/ الطريق المهجورة/ وأحب ومن جديد/ وللمرة الأخيرة/ هذه الشمس المصفرة/ ذات الأشعة الواهنة/ لاتكاد تنفذ إلى قدمي/ في ظلام الغابات)) يمكن لنا القول إذن بأنه
(كان لا مرتين الشعر نفسه) كما نعته الشاعر (نيوفل غوتيه) حيث لم تكن قصيدة (لا مرتين) حقيقة لغوية فقد كان يصنع ويبتدع وكان الشعر طريقة تفكير وطريقة موت)
لقد حرر لامرتين الجمال من عقال الوثنية، موغلا بضبابية محببة شفافة خفيفة مغرية ساعيا لعقد الصلات الخفية،ما بين روح نصوصه وروح القارئ.
لقد تغلغل في حنايا الطبيعة انصهر بها بوجدانياته فجاء نتاجه هو النموذج الأول الذي مثل الاتجاه الرومانسي وجسده وذلك عبر الاستغراق التأملي الجمالي في الطبيعة وعبر أحلام اليقظة ومن خلال الاستغراق في متع الحب وسحر جمال الطبيعة التي كانت ولا تزال مبعث السعادة الإنسانية القصوى ومنبع كل فتنة وجمال
لقد سجل (لامرتين) شغفه وسحر عاطفته بحيث انبرى كبار المترجمين لترجمة قصائده مثل الأديب (أحمد حسن الزيات) (والدكتور إبراهيم ناجي) الذي ترجم قصيدة البحيرة شعريا أتناول بعض مقاطعها هنا
والتي يقول فيها
من شاطئ لشواطئ جدد
يرمي بنا ليل من الأبد
ما مر منه مر ولم يعد
هيهات مرسى يومه لغد
سنة مضت وختامها حانا
والدهر فرق شملنا أبدا
ناج البحيرة وحدك الأنا
واجلس بهذا الصخر منفردا
قل للبحيرة تذكرين وقد
سكن الماء ونحن باللجج
لا صوت يسمع في الدنى لأحد
إلا صدى المجذاف والموج)
لقد نقل لا مرتين غبطته في الحب وبالحبيبة ساكبا في أحضان الطبيعة الدافئة اشغفه وانفعالاته وتوهج عاطفته وصدق مناجاته وتعابيره الشعرية النابضة الحالمة شاكرا إياها هائما في فتنتها قائلا (كنت افتح ذراعي للهواء/ وللماء وللفضاء/ كأني أريد أن أعانق الطبيعة/ أشكرها على أنها تجلب بأنوارها/ وأسرارها/ وحياتها وجمالها هذه المرأة الفاتنة أنا لم أعد قط إنسانا/ وإنما تسبيحة هائمة/ وتحية دائمة/ أصيح وأبتهل وأصلي/ وأشكر بالفيض والإلهام/ لا بالنطق والكلام/ فمشاعري ثملة فرحة/ ونفسي هائجة مرحة/ جسمي ينتقل من هاوية إلى لجة/ غير ذاكر هيولاه/ ولا معتقد بالزمان ولا بالمكان والموت/ وهكذا فجر الحب في قلبي/ ينابيع الغبطة وأيقظ في نفسي/ روافد العواطف/ وجلا لعيني مسارح الخلود))
لعل من أهم القصائد التي أشارت إلى شاعرية لا مرتين قصيدة ((البحيرة)) وقصيدة (الوادي الصغير)
وقصيدة الوحدة
((ولا أنكر كم أرهقني البحث عن ترجمة الزيات لهذه القصيدة دون جدوى إلى أن، عثرت على ترجمة تقدمت لنا هدية وعلى عجل من الصديقة المترجمة السورية ((رجاء الشلبي)) القصيدة تقول
((دائما تمخر عباب الحياة/ تندفع إلى شواطئ جديدة/
نذهب دون رجفة في الليل الأبدي/
ألن نرسو ذات يوم على محيط العمر/
أيتها البحيرة هاهو ذا العام كاد ينتهي
وأنا وحيد بجانب أمواجك المتدفقة/
أرقب عبثا عودة (جوليا)/
كنت بالأمس تئنين فوق هذه الصخور
وتنكسرين على جنباتها الممزقة/
وتقذف الرياح زبد موجك/
على قدميها المعبودتين/
أتذكرين ذاك المساء عندما كنا/
بين المساء والسماء
نجذف في صمت وسكون/
فلا نسمع صوتا غير إيقاع المجاديف/
على أنغام أمواجك/
وإذا بأصوات تنبعث من ضفتك الجميلة/
تقرع الأصداء فينصت الموج ويصغي الهواء/
ويترك الصوت الحبيب/
هذه الكلمات تسقط/
أيتها الأرض أوقفي دورانك/
وأنت أيتها الساعات الجميلة
أوقفي جريانك/
دعينا نتمتع بالمتع العاجلة
الأجمل في أيامنا/
تتوسل إليك الآلام في هذه الدنيا
أن تسرعي إليهم/
خذي من عمرهم الهموم التي أضنتهم/
اتركي السعداء
إلا أنني عبثا أطلب بعض اللحظات/
فالزمن يتحرر مني ويولي هاربا
فأسأل الليلة أن تمر ببطء/لكن سؤالي خاب
وإذا بالفجر يبدد الليل/
فلنعشق إذا في الزمن الهارب/
ولنهرول ونستمتع/
فليس لسفينة الإنسان مرفأ/
وليس للزمان شاطئ/
فهو يمر ونحن نمضي/
أيها الزمن الغيور
هل يرضيك أن تطير لحظات السكر/
بعيدا عنا بسرعة أيام العذاب/
والحب الكبير ما زال يسكب لنا السعادة/
ويلك هل نستطيع على الأقل/
أن نتبين آثارها؟
أتراها ضاعت كلها؟
هل الزمن الذي أعطاها/
والذي محاها/
لا يردها إلينا ثانية
حدثيني أيتها الأبدية/
أيها العدم أيها الماضي/
أيتها البحار المظلمة/
ماذا تفعلون بهذه الأيام التي تبتلعونها/
ألن تعيدوا إلينا تلك المسرات الجميلة/
أيتها البحيرة الصاخبة/
أيتها الصخور الصامتة/
أيتها الكهوف/ أيتها الغابة المظلمة/
فانتن من يبقي عليهن الدهر/
فاحتفظن من هذه الليلة السعيدة
ومن هذه الطبيعة الجميلة/
على الأقل بالذكرى/
لتبق الذكرى أيتها البحيرة الجميلة/
في هدوئك وهيجانك/
في شاطئك الزاهي وفي أشجار الصنوبر/
وفي الصخور المعلقة على مياهك/
لتبق الذكرى في النسيم العليل المرتجف /
وفي الهدير المكرر بين ضفافك/
وفي الكوكب الفضي
الذي يضئ سطحك بأنواره الخفيفة/
وليقل الريح الذي يصفر/
والقصب الذي يزمر/
والنسيم المعطر المنبعث منك/
ليقل كل ما نراه وما نسمعه وما نتنفسه/
لقد كانا عاشقين))
ولا مرتين نفسه هو القائل ((من المحيط الموجة الشاكية/ من الرياح الورقة الهاربة/ والفجر الذي يعقب المساء/ والإنسان الذي يخطفه الموت/ إنها كل الذكريات /والأطياف الغامضة الضاحكة /المكتئبة التي يمكن أن يحتويها عمر/ معادة ومستذكرة/ شعاعا شعاعا/ وزفرة زفرة/ إنها النفس التي تندرج من
ضوء إلى ضوء/ تاركة وراءها الشباب/ والحب والتوهم والصراع/ واليأس وتقف مشدوهة/ على ضفة اللانهاية/ كل ذلك يبدأ بابتسامة/ ويستمر بالنحيب لينتهي إلى/ صوت البوق/ القادم من الهاوية)) هكذا رأينا الشاعر وقد سكب روحه في جمال الطبيعة متنعما بأفلاك الحب وفراديسه
ففي الطبيعة تطارح الشمس الأزهار الغرام، وتلتف الكروم على شجر الدردار،تتراقص ما بين التفاف واحتضان، إنه الحب المتماهي،مع لوحات توهج العاطفة وتثير الكوامن بل إنها توليفة الشاعر ((ديفيز)) الغزلية، وهو يفتح النوافذ البعيدة،على المنظومة الطبيعية ككل موضحا تأثيرها،أسوة بتأثير المرأة،ذاك التأثير العاطفي الأعمق فهو يقول:
((انظري إلى هذه الأزهار/ ذات الجمال البديع/
عندما تتجاسر الشمس الشابة/
تطارحها الغرام/
انظري كيف تميل أجسادها الرخصة/
هنا وهناك
حالما يتناهى إلى سمعها صفير الرياح/
ما ا الذي يحدو بالكروم الملتفة حول شجر الدردار /
لأن تتراقص ما بين التفاف واحتضان
ما الذي يحث حجر المغناطيس
على أن يدفع صوب الشمال
بطرفه المدبب) لقد أسبغ الشاعر على الطبيعة سمات العشق فألبسها مفرداته النابضة بالإثارة مسقطا عليها مغريات المشهد الجنسي وإغواءاته مستخدما الحيلة الأدبية والخيال فلو دغدع النسيم تغر الماء: أو دب الندى مبللا ثوب الوردة الأحمر :أو داعب العطر تويج الزهر، أو عانقت الأغصان حرارة القمر: وفتحت الغابة صدرها للريح والمطر: أو تعرت الأشجار وتعرى النجم والقمر وووو والأمثلة أكثر من أن تحصى هذا الأسلوب الشعري المبتكر يمكن أن يشير لنا اتساع أفاق التعبير وانطلاقة الخيال حيث لم يكتفي الشعراء بالتغني بالطبيعة وثرواتها الجمالية الخارقة فقد بدأ الشعراء يسبغون عليها السمات الإنسانية كالحب والألم ا والتناغم والغزل مما يؤكد القفزة النوعية التي حققها شعراء تلك الحقبة
كيف تناول شعراء الدنمرك الطبيعة في أشعارهم؟.
ومن خلا ل ا ضطلاعي على أنطولوجيا الشعر الدنماركي، التي ضمت قصائد لألف شاعر وشاعرة،وبعض الدواوين المتفرقة الأخرى، تمكنت من استخلاص بعض ما تميزت به تلك القصائد، مثل عنصري الوضوح والسهولة، هذين العنصرين الأكثر بروزا، في الشعر الدنمركي القديم، فمن تغنيهم بأبهة الشمس، وعظمة شروقها، واحتفاء بالدفء،وما يحمله من غبطة وسعادة، لبلدان معظم مناخها شتوي ثلجي قارس،ومرورا بالسحب المتراكضة الداكنة المكفهرة الرمادية الحزينة، وانتهاء بالرياح العاتية والثلوج، التي تترك بصماتها على نسيج القصائد، من جهة وكيمياء الشاعر من جهة أخرى، وما تفرضه من صمت ووحدة،كل ذلك كان يسترسل في القصيدة، معبأ بالرغائب بسيطا هادئا
حيث أن الطبيعة في الدنمرك مفعمة بالقابلية الأدبية والشعرية بدء من أمواج البحر، وانتهاء بأصوات الأبدية المنبعثة، من الأرض الممتدة الخضراء، ولوحاتها ا الفاتنة، بحيث يمكن استخلاص البواعث الخفية الجمالية، التي تبثها في النفس،لقد اختلط الشاعر الدنمركي بالطبيعة اختلاطا عضويا،مع الشمس والبحر والثلج والسهل والورود والرياح، (مفردات القصيدة الدنمركية)، التي عبرت عن مكنونات الطبيعة ببساطة مفرطة، تلك التي لم ترمز، ولم تلغم ولم تؤنسن، ولا شبعت بمحمولات سياسية ثقيلة ملحة /بل جاءت مغزولة،بخيوط الطبيعة السمحة الرحبة،كجزء من نسيجها،لم تأت كإغواء جمالي محض ومقصود،ولا واجهة كريستالية، هدفها الترويج لمعان ذات أصداء مجلجلة، هدفها إزالة الغبار عن المرايا، أو محو العتمة عن طريق النجوم، جاءت عفوية دافئة واضحة، تاركة للقارئ العديد من التوقعات والمراهنات، التي سرعان ما تنجلي للقارئ، ليرسو على البداهة والسهولة والوضوح
فمن ديوان (ملاك من الزجاج)للشاعرة بريان دان كريستنسن نقرأ
(أعرف جيدا ما الذي قاد السحاب إلى الجنون/
في ذاك الصباح المتشرد/
حيث أصبع الشمس الأصفر/
يخرق بأظفره الغمام/
حافرا نقشا يدويا سريعا/
على زرقة السماء الصافية/
لكن لا هذا ولا ذاك/
يمكنه الحديث عن ذلك الجزء الأرضي/
دون التكلم عنك)
في قصيدة (حلوتي) للشاعر هانس أدولف برونسن
(يقول الحياة حلوة/
الصباح مضرج أحمر/
المسيح منحني إشراقته/
رغبة وحياة/
لأمنح أولئك الماضين في درك الظلمة/
سعادتي المسترسلة/
المتجوهرة/
لهذا أسرع
ضاربا في مناكب الأرض
وفي قصيدة ((أغنية الدنمركة)) للشاعر يوهانس ينسن نقرأ
((كم تبتسم الجميلة على الشاطئ الدنمركي/
حيث الاحتضان الأكثر رحابة/
وتموجات الشمس المشرقة/
وسحابة الصيف العابرة/
وحيث سفينة الرغبة والمرح /
تتابع بائعات الهوى حتى بوابة شيلاند……)
أما اووف هاردا/ في قصيدة الفصول فيقول
(البيت جليد بارد/
الهدوء كلي الظلام/
الصقيع مستحكم وبقوة/
راسخ لا يتزحزح/
وأنا لا زلت أفكر في الضوء فقط
لا في الظلام الثلج الجليد/
وفي قصيدة الشاعر سفين يوهانسن لا يوجد عنوان للقصيدة
(على الشاطئ يقع حجر/
الحجر أخضر/
الحجر رمادي/
الأخضر الرماد ذهبا عن الحجر/
وهذا الأزرق لا يستطيع/
أن يمضي عنه/
لأنه الحجر ذاته الحجر
صعد في سندس/
حبة القمح أصبحت مكتنزة صفراء/
وها هو المطر في السحابة/
رعد وراء سطح البيت/
هو ذا المطر/
هو ذا رعد/هو ذا البرق/
هو الحجر/
الحبة حصدت) وثمة قصيدة تقول العين في الأرض/
والحمامة في السماء/
وما بينهما/
جنة العصفور/
_أرجو أن أكون قد وفقت
في تجربتي الأولى للتجربة _
إن المقارنات تكاد أن تكون بعيدة المنال، بين مرامي القصيدة الدنمركية القديمة، وبعض الفلسفات الأدبية التي كانت سائدة،أورد على سبيل المثال الشاعر الإنكليزي ((وليم بلايك)) حين قال بر ((أن ترى عالما في حبة رمل/ وسماء في زهرة برية/ وأن تمسك اللانهاية في راحة يدك/ والأبدية في ساعة))
لا شك ان مساحة الاختلاف، التي يمكن أن نتلمسها جلية وواضحة، بحيث تصعب المقاربة أو المقارنة، ما بين القصيدة الدنمركية السهلة المسترسلة بهدوء، وبعض القصائد تلك التي تحمل محمولات العصر وأعبائه الاجتماعية والسياسية كما هو شأن القصيدة عند الشاعر الفلسطيني محمود درويش والشاعر العراقي بدر شاكر السياب حيث يمكن لنا أن نستشف من شعر بدر شاكر على سبيل المثال ومن خلا ل قصائده التي اخترنا نموزجا منها
الشاعر بدر شاكر السياب والطبيعة
عيناك غابتا نخيل ساعة السحر/ أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر/ عيناك تبسمان تورق الكروم/ وترقص الأضواء كالأقمار في نهر/ يرجه المجذاف وهنا ساعة السحر/ كأنما تنهض من غوريهما النجوم/ وتغرقان في ضباب في أسى شفيف كالبحر/ سرح اليدين فوق الماء دفء الشتاء فيه وارتعاشة الخريف والموت والميلاد والظلام والضياء/ فتستفيق رعشة روحي رعشة البكاء/ ونشوة وحشية تعانق السماء/ كنشوة الطفل إذا خاف من القمر/ كأن أقواس السحاب تشرب الغيوم وقطرة قطرة تذوب في المطر/ وكركر الأطفال في عرائس الكروم ودغدغت صمت العصافير على الشجر/
أنشودة المطر
مطر مطر مطر تثاءب المساء والغيوم ما تزال/ تسح ما تسح من دموعها الثقال/ كأن طفلا بات يهذي قبل أن ينام/ بأن أمه التي أفاق منذ عام/ فلم يجدها ثم حين لج في السؤال/ قالوا له بعد غد تعود/ وأن تهامس الرفاق أنها هناك/ في جانب التل تنام نومة اللحود/ تسف من ترابها وتشرب المطر /كأن صيادا حزينا يجمع الشباك ويلعن المياه والقدر وينثر الغناء حيث يأفل القمر أتعلمين أي حزنا يبعث المطر/ وكيف تنشج المزا ريب إذا انهمر/ وكيف يشعر الوحيد بالضياع/ بلا انتهاء كالدم المراق كالجياع/ كالحب كالأطفال كالموتى هو المطر/ ومقلتاك بي تطيعان مع المطر/ وعبر أمواج الخليج تمسح البر وق سواحل العراق بالنجوم والمحار/ كأنها تهم بالشروق/ فيسحب الليل عليها من دم ودثار/ أصيح للخليج يا خليج/ يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى /فيرجع الصدى كأنه نشيج/ يا واهب المحار والردى))
يمكن لنا أن نستشف ارتكازه على جماليات الطبيعة كعنصر تمهيدي للتدرج في نقله للتراجيدي من المفهوم المجرد إلى واقع الحالة الإنسانية ليتراءى للقارئ المختفي القابع تحت الصمت متما هيا مع صور الطبيعة المكتنزة الموحية المعبأة ذات التأثيرات العاطفية والنفسية العميقة كما يمكن لنا أن نستشرف ذاك الاستسلام للألم والتفجع والاضطراب والقلق مع ذاك التوق الواضح باتجاه مختلف رموز الحياة.
إن الشاعر بدر شاكر السياب، لا يفتأ يعابث بإبرته السوداء، الأحاسيس الدفينة،يستحضرها للقارئ بأسلوب رحب وتقنية مغايرة، عبر صور مكثفة، تنقل القارئ من الأبيض إلى الأسود، عابثة بأحاسيسه صعودا وهبوطا، بمدلولاتها الغنية التي تبدو في حقيقة الأمر مشاهدا، تعبر عنها الألفاظ الغنية المكثفة المعنى تلك التي تنسحب إيقاعاتها نحو التجانس الكوني
فشعره يرفع الحجب منسلا إلى روا هف الإحساس ليعيش القارئ القصيدة بمشاهدها الغنية بل ليبحر معه في روح النص ومغزاه
الطبيعة في شعر الشاعر الفلسطيني محمود درويش
لقد صاغ الشاعر محمود درويش،الطبيعة بالكلمات. حاورها وحاور بها، استنبضها وصرخ بها،ساسها وسيسها، سلمها مهام بعض رؤاه وأحلامه ومراميه، شحن الطبيعة بطاقاته العقلية والعاطفية،
لقد التحم محمود درويش بالأرض_ جزء الطبيعة الأجمل_ وارتبط شعره بها بوشائج عاطفية تبادلية شملت الحركة العضوية بأكملها تلك التي تسير الكون
تفاعل معها وكرس من خلالها انتمائه للجذور مسبغا عليها ملمحا إنسانيا هادفا
فها هو يزاوج ما بين صورتين اثنتين، صورة الحبيبة كمدلول ظاهري، يفجر من خلاله المدلول الأكثر عمقا وأثرا، مدلول الأرض بكلمات منتقاة بدراية السياسي المثقف المتمرس، كلمات مكتنزة المعنى عديدة التآويل عميقة موحية ذات امتدادات في إيقاعات القارئ الذهنية ونفسيته، محققا بذلك تلك العلاقة الندية، ما بين المعنى المباشر، والمعنى الضمني، مطلقا من
خلاله، سهاما تصيب مقتلا
فهو القائل (ا كان الخريف يمر في لحمي جنازة برتقال/
قمرا نحاسيا تفتته الحجارة والرمال/
وهو القائل في قصيدته (الجرح القديم)
على أنقاض إنسانيتي تعبر
الشمس وأقدام العواصف العتيقة
من يدي يهرب الدوري وأزهار الحديقة
اسأليني كم من العمر مضى
حتى تلاقى كل اللون تلاقى في دقيقة
وهو القائل (إذا سقطت على عيني سحابة دمعة/ كانت تلف عيونك السوداء سأحمل كل ما في الأرض من حزني صليبا/ يكبر الشهداء عليه/ وتصغر الدنيا
إنه شعر متأهب يترك لنا قاموسا من الكلمات ذات مدلولات ارتآها الشاعر محمود درويش وفق معايير، ومعان ذات أبعاد سياسية وطنية،
أعتقد بأن الحديث عن الكلمات ومدلولاتها لدى شعر محمود درويش هو بحد ذاته موضوعا قد يبدأ ولا ينتهي لكنني مضطرة لأن أختم موضوعي
((الطبيعة لقد أدخلتني العالم،وهي التي تخرجني، منه فانا أملك يديها/ فلتتصرف بي/ إنها لا تبغض مخلوقاتها/ إنها طيبة/ وأنا أسبح مجدها/ في كل ما تفعل) ليس من باب الخضوع لسلطة الطبيعة إنما من باب مشاطرته لعظمتها)) غوتيه
فلنترجم الأشعة بالأفكار
والضجيج بالمقاطع
ولنقرأ الحقل في صفحة الزهرة
لنتصفح الطبيعة
لأنها الحرف الأكبر
والكتابة الكبرى.