من سوف ينهي الثورة..
قد تكون اللحظة الراهنة من تاريخ الدولة العربية، من أشدّ محن المآزق الكثيرة العسيرة التي عانتها هذه المؤسسة منذ نشأتها الحديثة كعنوان لحقبة الاستقلال الوطني مابعد الاستعمار وانسحاب إدارته وجيوشه من معظم الأقطار العربية، فمن المسلم به أن غالبية هذه الأقطار وشعوبها ليست في علاقات سوية مع حكّام دولها. لكن الرأي العام لدى هذه الشعوب كان مستعداً في مختلف الأحوال للدفاع عن الدولة في حد ذاتها، فهي تجسيد لكيان المجتمع مادياً ومعنوياً. هذا بالرغم من المساوئ والنواقص والعورات في أجهزة الدولة وانحرافات إداراتها وساستها، ولعلّ مجتمعات العالم الثالث والدول العربية منها خصوصاً، هي من أشدّ سكان الأرض نقداً ومعارضةً لمسالك دولها ورموزها السلطوية، ومع ذلك ليس بين الشعوب الفقيرة هذه من هو مستعد للعيش بدون دولة.
المأزق الكبير الذي بات يتحسسه الإنسان العادي، وفي هذا المشرق البائس، هو أنه لم يعد فاقداً ـ فحسب ـ لأمنه القومي، بل هو لأمنه الوجودي نفسه. فالناس في بلادنا بات يوحدهم شعور واحد هو أنهم مجرد بشر خانعين، لا حول لهم ولا قوة. فقد تنازلوا عن معظم مطامحهم في الحياة الطبيعة، تناسوا انشغالاتهم اليومية، حتى فقرهم القديم فقد تضاءلت وطأته على النفوس مقارنةً بهواجس الخوف ومشاهده المجتاحة لواقع كل فرد ومخياله معه، ذلك الخوف الذي يستوطن البيوت ويخالط سكانها ليلاً ونهاراً أمسى هو سيد الأقدار، يوّزع ما تبقَّى لديه من حصص الأعمار الأخيرة، غير أن كل حصة عيش عابرة مرتهنة مسبقاً بنهايتها المحتومة.
في لغة الصحافة العربية، يتردد بين حين وآخر مصطلح الأمن القومي، وما يُفهم منه عادة، هو التحذير من أخطار خارجية قد تكون محْدقة بدولة أو أكثر، غير أنه، ومع انتشار عواصف الأهوال غير المسبوقة، وتحت تعابير الثورات والجهادات دائماً، لم تعد الدول كشخصيات اعتبارية هي المقصودة وحدها في أمنها القومي. فماذا عن مجتمعاتها، عن ملايين الناس، هؤلاء الذين يعيشون كل لحظة أخطارَ أمنهم الوجودي، فليس إعلام الجبهات الدموية مهتماً بأكثر من عناوين بعض المقتلات، وهي عناوين مجهولة أصحابها، كما هي مغمورة تفاصيل أحداثها . فليس ثمة أجهزة نوعية أو نظامية، راصدة لوقائع المجازر اليومية. لا حاجة لانشاء ذاكرة إخبارية حتى تحصي من يُقتل في الجبهات، فكيف عمن يقتل في زقاق من حيه أو في غرفة نومه، أو في قاعة مدرسته وقد تنوب رموز الأرقام وحدها عن عدد الضحايا، هذا إذا سمحت أمزجة الرقابات الإعلامية بتسريب بعضها،
هل ينبغي القول إذن أنه في زمن الانكسارات تنهار أو تتلاشى ضمانات كل أمنٍ موضوعي، وذاتي. ذلك أن المصدر الأول لمبدأ الضمان هو توفر سلطة راعيةٍ للنظام العام.. فقد تم التوافق في ثقافة المدنية على اعتبار أن الدولة هي المؤسسة الوحيدة المؤهلة لانتاج النظام العام، وتطبيقه وحمايته . ومن هنا كان لا بد للدولة أن تتوفر على مشروطية واضحة وقاطعة هي أن تكون دولةَ الجميع، وليس دولةً لفريق دون آخر، فما يحفظ هذه المشروطية هو اعتمادها علي معيارية الصالح العام حتى في أدق الأحوال الفردية والجزئية. فما كان يزعزع بعض الدول ويهددها بتفكيك مفاصلها الحقوقية، وانهيار الثقة بمشروعيتها من قبل مجتمعها، إلا سلوك التوظيف الفردي والفئوي لمبدئية هذا الصالح العام. ما يقهر أكثر حكام العرب والإسلام ويجعلهم مذعورين هو الأمر نفسه الذي ينتهي بهم إلى أحوال الخيبات السياسية، باهظة التكاليف عليهم وعلى شعوبهم، لقد تراكمت أخطر أخطائهم وتحديداً خلال منعطفات ربيع الثورات المغدورة .
هؤلاء الحكام في جملتهم لم يتوقعوا الثورةَ قبل انفجارها في هذا القطر أو ذاك . ومع انفجارها شعرت كل دولة عربية أنها قد تكون مقصودة في جولة أخرى قادمة ، فانتقل بعضها إلى التدخل سريعاً في ثورة الجار القريب أو الأبعد كأسلوب دفاعي عن الذات بخيار الهجوم على الآخر . هكذا تحكمت تطورات الأحداث بمصائر أصحابها : ست دول عربية في مجموعها تقريبا متشابكة في مصائر متباينة دون أن تختارها ، بل وجدت نفسها منساقة ومحاصرة في لعب أدوار مفروضة عليها في مسرحية كبرى هائلة لا بد أن تتابع فصولها حتى بلوغ نهايتها .
في غمار هذه المعمعة كل ما فيها من أدوار ولها من معالم أهوال من الصدفة والفجائيات . كل ما أتت وتأتي به قابل للبدائل والمتغيرات . ليس هناك قوانين منطقية يمكن أن تضفي أطراً من المعقولية ، وحتى الآنية منها على ظاهرة ما من ظواهرها . فاندفاعُ الأحداث ، وهي في أكثريتها مداهمة واستثنائية لم تترك لأي مخطط نظامي أن يحقق أو يبلغ شيئا من غايته . كأن هذه الثورات باتت أسيرة مشاكلها الذاتية . لا يمكنها تجاوز حقيقتها . لن ترى مجتمعاتها عصرا آخر . لن ينعم الناس يوما بعودة السلام. فأين هي حقاً إرادة الحياة إذن، إن لم تستطع الثورة نفسها أن تضع حداً لجحيمها فليس لأية سلطة خارجية عليها أن تتخذ قرارات عن مصيرها بالنيابة عنها.
من كان يعتقد أن إرادة دولية عظمى قد تكون وحدها متمتعة بالقدرة الكاملة على تجفيف موارد الثورات الربيعية، هذه الطارئة، على النظام العالمي، مثلما لها اليد الأولى في إشعالها، فسوف تطفئ شعلتها ما أن يجفّ زيتها. مثل هذا الاعتقاد برهنت عديد محاولات اليوم والأمس.. وربما غداً كذلك، إنها لن تؤدي إلا لتسعير النار مجدداً، وقد تتطور الخيبات الجديدة من أحلام سلام عالمي كاذب إلى انفجار حروب أهلية وإقليمية.
هل يمكن حقاً لثورة عربية أن تنجز مهمتها، وتفتح طريق السلام وللعدل أمام شعبها.. أليس ذلك من حقها؟
مطاع صفدي