خلاق الفضيلة والأزمة الإبستمولوجية: مفاهيم أولية في فلسفة ألاسدير ماكنتاير
29 نوفمبر 2014 بقلم
عز الدين العزماني قسم:
الفلسفة والعلوم الإنسانية حجم الخط
-18
+ للنشر: أخلاق الفضيلة والأزمة الإبستمولوجية:
مفاهيم أولية في فلسفة ألاسدير ماكنتاير
يُعد ألاسدير ماكنتاير من أكثر الفلاسفة المعاصرين تأثيرًا في حقل الفلسفة الأخلاقية والسّياسية، من خلال تركيزه على مفهوم "أخلاق الفضيلة "Virtue ethics، الذي يربط سؤال الأخلاق بالعادات والمعارف المتعلقة بطُرق الحياة الجيدة، كما يربط الحكم الأخلاقي الجيّد بالخاصيات الأخلاقية الجيّدة، ويضع أولوية الخير على العدل. ولكي يحقق أهداف مشروعه الفلسفي يعتمد ماكنتاير على مقاربات متعددة تمزج بين حقول معرفية مختلفة، أهمها تاريخ الفلسفة والتيولوجيا والأنثروبولوجيا الفلسفية، بالإضافة إلى البيولوجيا الإنسانية، كما يستند إلى مرجعيات فلسفية تنتقد الأطروحات "الجماعاتية"
[1] و"البراغماتية" و"التعاقدية". يعتمد ماكنتاير على مناهج الفلسفة التحليلية، قاصدًا تطوير مقاربة تمزج بين الأخلاق الغائية Teleological ethics في الأطروحة الفلسفية الأرسطية وبين التركيب الأوغوسطيني الأرسطي الذي تجسده الفلسفة التوماوية، نسبة إلى القديس توما الأكويني، باعتبارها، كما يرى ماكنتاير، ذلك التقليد الفلسفي الذي يقدم أفضل نظرية لتشخيص الأشياء كما هي، والتفكير في حلول تجاوزية للمشكلات الأخلاقية التي يشهدها الزمن الحديث، أي تلك النظرية التي تستصحب الغايات النهائية، باعتبارها ممارسات اجتماعية تحدد نمط الحياة الجيدة.
ينظر ماكنتاير إلى أزمة النسق الأخلاقي المصاحب لـ "الأزمنة الحديثة" ليس فقط باعتبارها أزمة متعينة في الواقع، بل باعتبارها أزمة معرفية Epistemic crisis تخترق اللغة المهيمنة على الخطاب الفلسفي حول الأخلاق، وعلى سبيل المثال، فأخلاق الفعالية التي تهيمن على النسق الأخلاقي الحديث، تجد خلفيتها المعرفية في أطروحات العقلنة والفعالية التي ألح عليها ماكس فيبر، وهي الرؤية التي ينتقدها ماكنتاير بشدة
[2]. ولعلاج هذه الأزمة التي تؤسس لأخلاق الفعالية Ethics of effectiveness، يقترح ماكنتاير طريقًا واعدًا لإعادة اكتشاف مفهوم للبحث العقلاني كما يتجسد في التراث Praxis، مفهوم يمكن من خلاله أن نشتق معايير للتبرير العقلاني، حيث تكون هذه المعايير جزءًا لا يتجزأ من التاريخ الذي ظهرت فيه، عبر الطريقة التي استطاعت بها هذه المعايير أن تتغلب على أوجه القصور التي شابت المرحلة التاريخية السابقة لها وتقديم صور من العلاج لها.
[3]إن أهم ملمح يميز الفلسفة الأخلاقية والسياسية في المشروع الماكنتايري نقده الحاد للحداثة ولفلسفة الأنوار، وتأكيده على غياب مدونة أخلاقية متماسكة، وعلى فقدان الإنسان في الأزمنة الحديثة للمعنى والمقصد، وفقدانه لجمعنات أصيلة Genuine communities كذلك، تقوم على أخلاق الفضيلة والتميز Ethics of excellence. وهو لا ينظر إلى أزمة الحداثة من منظور واقعي ضمن شروط النظام الاجتماعي والمؤسساتي، بل ينظر إليها من منظور سوسيو تاريخي، ليقر في نهاية المطاف بأنها "أزمة إبستمولوجية"، ومعنى ذلك أن الفلسفة الحداثية تسهم بنصيب مهم في تشكيل وتجذير الأزمة، وذلك عندما تميل إلى الفصل بين "عالم الأفكار"؛ أي الفلسفة، و"عالم المؤسسات والأفعال"؛ أي المجتمع والسياسة. ولذلك، فإن المشروع الإبستمولوجي الماكنتايري لا يتوقف عند شكلانية مطلبية أو خطابة دعوية تنادي باستعادة أخلاق الفضيلة، بل إنها تحاول ردم هذه الهوة الإبستمولوجية، بتأكيد الاتصال الماهوي بين الفلسفة والمجتمع، ذلك أن الفلسفات في جزء كبير منها تنحدر من السوسيولوجيات، وهذه الأخيرة بدورها تتحدد ضمن مجتمعات لها فرادتها، ومن هنا نفهم المقولة الماكنتايرية بأن "الأخلاقيات التي لا تكون أخلاقيات لمجتمع بعينه، لا يمكن العثور عليها في أي مكان". فالأخلاق، بعبارة أخرى، خارج المجتمع وخارج السياق غير موجودة، أو على الأقل غير ممكنة.
إن هذا التصور الذي يمزج بين الفلسفة والاجتماع الإنساني له متطلبات ونتائج على مستوى الممارسة المنهجية، ذلك أن عمل الفلاسفة في نظر ماكنتاير ليس هو فحص ما يفعله الناس في المجتمعات التي ينتمون إليها (What they do?)، ولكن انشغالهم المركزي ينبغي أن ينصب حول الأسباب التي تدفعهم لتلك الأفعال(Why they do?). إن تخلي الفلسفة عن هذه المهام هو الذي ساهم في الأزمة الحالية، إذ الفلسفات الأخلاقية والسياسية مجزأة، وغير مترابطة، ومتنازعة، وتفتقد للمعايير Standards التي يمكن الاستناد إليها من أجل تقييم الحقائق التي تصدر عنها، أو الفصل في المنازعات القائمة فيما بينها. وإحدى نتائج هذه الوضعية أن نواجه "جدلاً لانهائيًا" ضمن الأطروحات الفلسفية المختلفة، ويتم في هذه الحالة استعمال لغة الأخلاق لخلق الاعتقاد بالانسجام، وتصبح الاختيارات الأخلاقية للأفراد ومواقفهم "تحكيمية"، بدل أن تكون مرتبطة بمدونة أخلاقية محكمة ومتماسكة وتصور للحياة الجيدة يمكن الدفاع عنه. والمدونة الأخلاقية هنا ليست إيتيكيت للتصرف، بل تستند إلى ما يتفق عليه المجتمع، باعتباره غاية مشتركة للمجتمع، وما يختاره باعتباره الطريقة الأنسب لبلوغها، مما يعطي لكل فرد في المجتمع دوره المناسب ومهماته الأساسية. يفكر ماكنتاير في "مجتمع البطولة" الهوميروسي، وفي"المدينة الآثينية"، ويفهمها باعتبارها نوعًا من الممارسة، التي تتحدد ضمنها الفضائل والالتزامات والأدوار، ما دامت السعادة الإنسانية والمصلحة المشتركة هي الغاية النهائية لهذه الممارسة. تفكر الفلسفة الحديثة، في تصور ماكنتاير، بمنطق البعد الوحيد، وهو البعد العقلاني، وهي بذلك تغيّب بعدين أساسيين في صلتهما بالعقلانية الإنسانية؛ أي البعد الحيواني والبعد التبعي. فالإنسان بطبيعته حيوان Animal، وعقلاني Rational، وتابع Independent، ودون أخذ هذه الطبيعة بجدية ستظل الثنائيات التضادية بين المصالح الخاصة والمصالح المشتركة، وبين الأنوية والغيرية، تهيمن على البنى الاجتماعية والسياسية في واقعنا الحالي.
يظهر واضحًا وفق هذه الرؤية أن ماكنتاير يضع مسافة نقدية مع الموقف الأرسطي بخصوص "التيليولوجيا البيولوجية "Biological teleology، التي تقوم في الفهم الأرسطي على حصر الغايات النهائية في الإنسان، وهو ما يرفضه ماكنتاير معتبرًا أن حيوانات أخرى كالدلافين والغوريلات لها غايات نهائية كذلك، وأنه يمكن للإنسان أن يتعلم منها كيفيات تعلقها بمصالحها الفردية والجماعية. وفي نفس الاتجاه، سنجد تلك المسافة النقدية تتعمق، من خلال تبني الطرح التوماوي، نسبة إلى توماس الأكويني، الذي يأخذ بعين الاعتبار مشاركة الجميع في الغايات النهائية والفضائل، على عكس أرسطو الذي يقصر تلك المشاركة على نخبة صغيرة.
إن مشروع استبدال الرأسمالية الليبرالية Liberal capitalism بأخلاق الفضيلة الأرسطية التوماوية، قد يبدو تطلعًا يوتوبيًا، بالمعنى الذي تكون فيه هذه الأخيرة ابتعادًا عن الواقع، ولكنه قد يكون بالمقابل، مساهمة في تقديم براديكم تحرري انعتاقي يمكّن الإنسان الحديث من أدوات وطرق منهجية صلبة لتجاوز أزمات الحداثة المركبة. ويظهر أن ماكنتاير مُدرك بعمق للسؤال المتعلق بـ "الصلاحية التاريخية" لأطروحاته، وهو الذي ينادي بالوصل بين الفلسفة والمجتمع، ويتجلى ذلك بوضوح عندما يقترح فكرة "الجمعنات الصغيرة "Small communities، باعتبارها أمكنةً للبدء في بناء الممارسات والفضائل والمعايير التي ينادي بها، وتجذيرها في الواقع، وحمايتها من نزوعات الدولة الحديثة والرأسمالية الحديثة، وهو ما يذكرنا برؤيته القديمة التي تعود إلى كتابه "الماركسية والمسيحية" الذي أصدره في عام 1968، من خلال تأكيده على أهمية "سياسة الدفاع الذاتي للمجتمعات المحلية التي تتطلع إلى تحقيق نوع من الاكتفاء الذاتي والاستقلالية لتكوين أمة تقوم على الممارَسة المشارِكة Participatory practice based-community"، وهو ما يؤكد أن ماكنتاير ما يزال متأثرًا بالمنهج الماركسي، وإن كان بصيغة جديدة وضمن آفاق واختيارات مختلفة، إذ تلتقي الماركسية والكاثوليكية لأسباب عديدة في نقد الرأسمالية.
وتذكرنا طروحات ماكنتاير ببعض أدبيات نقد الحضارة الغربية والحداثة والأخلاق في المجال التداولي العربي الإسلامي، والتي يمكن أن نستحضر منها أعمال عبد الوهاب المسيري وطه عبد الرحمن، إذ تلتقي هذه الأعمال مع الأطروحة الماكنتايرية في اعتبار أن أزمة الحداثة أزمة إبستمولوجية وأخلاقية، غير أنها تختلف عنها بشكل جوهري على مستوى العلاجات التي تقدمها لهذه الأزمة، فقد حاول مشروع المسيري تقديم رؤية بديلة تقوم على ما يسميه "الحداثة الإنسانية"، وهي التي تستند عنده إلى مرجعية نهائية Final referenceتستلهم مقومات ومبادئ الحضارة العربية الإسلامية. أما طه عبد الرحمن، فيسعى إلى تقديم أطروحته حول "الحداثة الأخلاقية" استنادًا إلى مقولة "الحق في الاختلاف"، التي يقترح في ضوئها تنظيرًا فلسفيًا لنظرية أخلاقية إسلامية بديلاً لأزمات الحداثة وعللها المركبة.
ولسنا هنا في معرض المقارنة بين هذه الأطروحات، وذلك لأن مهمة من هذا القبيل تحتاج إلى دراسة مستقلة، غير أننا نريد أن نؤكد على أن "التنظير الأخلاقي" في المجال التداولي العربي يمكن أن يستفيد من الطرح الماكنتايري، فيما يتصل باستحضار التاريخ والسوسيولوجيا في صلتهما بالنظرية الأخلاقية والفلسفة السياسية خاصة، وهو ما تعكسه المبادئ النظرية الأربعة التي يقيم عليها ماكنتاير فلسفته الأخلاقية؛ أي المبدأ التاريخي الذي يصل الأخلاق بسياق ممارستها، والمبدأ الغائي الذي يصل الفضائل بالغايات النهائية، والمبدأ الأخلاقي الذي يجعل المصلحة المشتركة فوق كل مصلحة أخرى، والمبدأ السوسيولوجي الذي يعطي الأولية للمجتمع قبل الفرد.
ونعتقد أن تغييب هذه المبادئ في "التنظير الأخلاقي"، والاكتفاء بعلاجات "تنقض" الحداثة، على أساس تقديم "معايير" بديلة تنطلق من تراث بعينه، يستحيل بالضرورة إلى "إعادة إنتاج" الأزمة نفسها ضمن المعايير الخاصة للتراث البديل، والوقوع في المحافظة الدفاعية. ويتعين، في هذا الصدد، التنبيه إلى أن فكرة التراث في المنظور الماكنتايري لا تتطابق مع الدين، كما يلاحظ أرماندو سالفاتوري
[4]، بل ترتبط ماهويًا بالممارسة Praxis والاتصال Communication، وهو ما يجعل ماكنتاير يضع مسافة مع الخطاب الإيديولوجي للمنظرين السياسيين المحافظين الذين يضعون التراث في مقابل العقل، ويضعون استقرار التراث وثباته في مقابل الصراع. وعلى العكس من ذلك، فإن التراث يتصل في المنظور الماكنتايري على نحو إيجابي بالعقل وبالصراع، ومن ثم فهو يعارض بشكل واضح المفهوم المحافظ للتراث، فليس التراث بالنسبة لماكنتاير مجرد "إطار دفاعي"، يوجه الفاعل الاجتماعي، كما هو الحال في المنحى الذي ينظر إلى التراث باعتباره مصدرًا، بل على العكس من ذلك، فإن ماكنتاير ينظر إلى التراث، باعتباره عنصرًا ضروريًا لتأسيس وفهم التواصل الذاتي، والعلاقات البيذاتية، ومن ثم تأسيس كل من الممارسة والاتصال