2014-10-10 أوروبا: الفكرة و الأسطورة و الوهم
|
| |
الأوروبيون كانوا دائما فضوليين لمعرفة رأي الآخر فيهم. هذا إذا ما سلمنا بأن هذا الآخر هو آخر بالفعل. و هنا ثمة كلمة تفسيرية تفرض نفسها.
مؤرخا، تعلمت أن أميّز العناصر التي أدت عبر القرون إلى منح الشعوب التي نسميها اليوم أوربية وعيا موحدا. كما تعلمت أيضا أن أوربيي الوضع لم يصبحوا كلهم بالطبع أوربيي التفكير. و لكي يمروا من الفعل إلى الفكرة، كان عليهم أن يعيشوا أزمات هوية عميقة. أزمات عرفها خاصّة أولئك الذين كانت أوروبيتهم مشكوكا فيها بسبب اسم أو بسبب شيء آخر: الروس خلال القرن التاسع عشر، و الألمان في ما بعد الحرب العالمية الأولى. أنا لست أوروبيا. لكني من طينة خاصة. فأنا في نفس الوقت قريب و بعيد، واضح و غامض: و هنا تكمن خصوصيتي. و لقد كنت لمّحت من قبل إلى منابع الفكرة الأوروبية.
التراث الإغريقي هو الأكثر روعة و أهمية بالنسبة للكثيرين. و نحن العرب، نطالب به، جزئيا على الأقل. أرسطو بالنسبة لنا هو المعلم الأول. و هو الذي في ميدانه لا يمكن أن يُتجاوز. و هنا لا تتوقف المشابهة. نحن نريد أن نكون ورثة العرب القدماء. و الأوروبيون يريدون أن يكونوا ورثة الإغريق القدماء. و هكذا نحن جميعا نتحمّل أحقاب توسّع و تقهقر، مدّ و جزر، تغذّي أحلامنا و تثير رغباتنا، و توقظ حنيننا. و هذا ما يمكن أن نسميه باكتساب الفكر التاريخي. و ثمّة نتيجة أخرى لهذا المد و الجزر و هي: إنفصام دائم الحضور، غير أنه متجاهل طول الوقت.
أوروبا هي فكرة، و أسطورة، و وهم. سألبقى في مجال الاستعارات و سوف أترك للمؤرخين، و لعلماء الاجتماع و الاقتصاد، مهمة تحديد حالة المجتمع الأوروبي خلال الأربعة قرون الماضية، و سأبحث عن فكرة أوروبا في أعمال الروائيين الرائين: دستويفسكي، مالرو، كونراد الخ… و منذ منتصف القرن الماضي، تناول العرب بدورهم المغامرة الغربية محورا أساسيا لإنتاجهم الروائي: الكاتب المصري طه حسين أراد أن يقدم نموذجا لذلك من خلال قصة عنوانها « أديب ».
بطل هذه القصة يمضي في باريس، شتاء 1917 المرعب و الذي كابد الناس خلاله قسوة البرد و الجوع، و أيضا أهوال أول قصف للطيران. و في نفس الفترة أدرك المثقفون الأوروبيون التشابه بين النزاع الألماني-الفرنسي، و بين المنافسة التي كانت قائمة بين اسبارطة و أثينا و التي وضّح توقليطس Thukydides جانبها التراجيدي بمهارة كبيرة. و يساهم « أديب » في الحوار بحماس و عُنف النصير الجديد. و هو ينحاز إلى الحضارة، و يرفض القوة الوحشية قبل أن يسقط في هوّة الجنون المنقذ.
إن أوروبا بالنسبة لطه حسين، كما بالنسبة لدوستويفسكي أو توماس مان سراب: كلما حللناها، ذابت في مفهوم التاريخ. إن المغامرة الغربية، أي رحلة أوروبا حول الكرة الأرضية، هي في آخر المطاف مغامرة التاريخ البشري. إنها عبارة ذات التباس قاس: إنها تجعل، محاولات الآخرين تافهة، و في نفس الوقت تفرغ عبارة أوروبا من محتواها المحدد. و على هذا المستوى في التفكير، لا يبدو مصير مجموعة بشرية واحدة حتى و لو كان اسمها أوروبا جديراً بجهد مثقف أمين لمنهج شمولي.
و إذا ما وجد إنسانيون أوروبيون كبار، فإنه بالمقابل لا يوجد إنسانيون متأوربون كبار.
حتى توماس مان نفسه الشديد التعالي، و الشديد السيطرة، اكتفى بالتعبير عن تناقضاته دون أن يحاول تجاوزها اصطناعيا و هو يرى أن كل واحد من هذه المكونات ضروري بالرغم من أن هذه المكونات جد متباينة، و هي مدعوة لمصائر جد متباعدة إلى درجة أنها لا يمكن أن توحّد مساهماتها إلا في أوروبا خيالية تماما مثل تلك التي يحلم بوجودها الفلاسفة و الفنانون حين يدرك التاريخ نهايته و معناه.
مهما يكن المجتمع الذي إليه ننتسب، الفترة التي نقف حيالها فكرياً، فإننا نكتشف أن أوروبا كفكرة هي مرادف للتاريخ. و لكن أن تكون تاريخيا يعني أن تكون تاريخياً يعني أنك تكون كموضوع أو كفكرة، في حالة تحوّل مستمر. يعني أنك تكون حديثاً. كل كلمة تطرد الأخرى، و يبقى الواقع ملتبساً و غامضاً. أن نقوم بإعداد تاريخ الحداثة، يعني أننا نضيع وراء الباحثين و علماء النفس من بودلير Baudelaire حتى موزيل Musil. و لنجب مرة أخرى من خلال أكسيل، ما هي الحداثة بالنسبة لشخص ينتسب إلى مجتمع يوصف خطأ أو صواباً بأنه تقليدي.
يغادر « أديب »، بطل طه حسين، قريته المصرية، و يمرّ بالأزهر قبل أن ينتسب إلى جامعة جديدة حيث يكتشف الفكر النقدي الأوروبي، و قبل أن يرسل في رحلة دراسية إلى فرنسا. و دونما أية مرحلة انتقالية، يجد نفسه و قد نقل من عالم منظم، و مستقر إلى عالم متحرك، بل و يكاد يكون فوضويا. و يبذل « أديب » مجهودات تكاد تكون مستحيلة. و في ظروف أشهر قليلة يحقق تقدما مدهشاً في جميع الميادين. غير أنه بفعل موازنة، شائعة مع الأسف، يناوب فترات العمل المكثف و فترات المجون المسحورة حتى ينتهي بالسقوط في هاوية الجنون.
في قصة عنوانها « الغربة » أثرت نفس الموضوع. فتاة مغربية تسافر إلى باريس لأنها ترفض قبول ما يصفه لها الآخرون بأنه مصيرها المحتوم. و قبل ذلك كانت قد تعرفت على مهاجرة مجرية هي إحدى ضحايا أحداث 1956. و تحاول البطلة أن تجد لدى تلك المرأة تفسيراً لأزمتها. إن قصة « الغربة » لا تنغمر في التراجيديا بل في المالنخوليا. و ما كانت تظنه الفتاة المغربية أزمة شخصية لم يكن في الحقيقة سوى نتيجة ضرورية لتطور عام. و عندما تعتقد أنها اكتشفت شخصيتها، تلتقي بالتاريخ. و في الوقت الذي كان يتم فيه مد السكك الحديدية في الجانب الآخر من البلاد، و كما حسب تسلسل لامرئي، تلج قلب الفتاة الرغبة في المطلق. و تنسى الديمومة لتعانق اللحظة، و الطاعة لتكون أمينة مع نفسها. لست هي التي تكتشف نفسها، و إنما التاريخ هو الذي من خلالها ينكشف و يتجلى بائحاً بأسراره. و ضحية لعملية بالكاد تعيها، تجد الفتاة نفسها وسط آلام انعدام التوازن. و هي تتمنى لو أنها تعثر على نقطة ارتكاز في منفاها الذي هو أرض غربية و أرض غروب، غير أنها سرعان ما تتحرر من الأوهام. و تنتهي القصة بتساؤل