الـوعـي.. الفكرة الكبرىتقرير يستكشف أسرار العقل
* روبرت ماثيوز
* ترجمة: رؤوف وصفي
الوعي (Consciousness) هو الشيء الذي يحكم إدراكنا للحقيقة وتجاربنا في
نطاقها، ويسود الاعتقاد بيننا جميعاً أننا نمتلك هذا الوعي، لكن ما زال
العلماء يجدون في البحث عمّا يعنيه الغرفة ممتلئة بالناس، لكن يلفهم الصمت
تماماً. يجلسون على وسائد وعيونهم مغلقة ووجوههم جامدة تخلو من أي تعبير،
يبدو أنهم مستغرقون في شيء ما. واقع الأمر أنهم كذلك، إذ إنهم يحاولون
الإمساك بتلابيب واحدة من أكثر أسرار العلوم عمقا.. طبيعة الوعي.
إنهم ممارسو «التأمل البوذي»، ويستخدمون أساليب مراقبة العقل التي طورها
منذ 2500 عام الفيلسوف الهندي «سيدهارتا جوتاما» الشهير ببوذا. والهدف من
تلك الأساليب توجيه العقل الواعي إلى ذاته ومراقبته في أثناء نشاطه وأدائه
لعمله.
وطبقاً للبوذيين، فإن هذا «الاستبطان»(1) يمكن أن يعطينا بصائر عن طبيعة
العقل والحقيقة وسر الوعي، بيد أن تلك المزاعم لم تلق آذانا صاغية لدى
العلماء بشكل عام، أما في الوقت الحاضر، فقد انضم إليهم عدد من الرهبان
البوذيين الذين تلقوا تدريباً عالياً، للتعرف على طبيعة الوعي.
ومن خلال استدعاء بعض الحالات العقلية في أثناء القيام بعملية مسح المخ،
يكشف الرهبان البوذيون عن أسلوب جديد لما يطلق عليه الباحثون «المشكلة
العسيرة» وهي كيف يحدث نشاط المخ تجربة وعينا بالأمور؟ وعلى الرغم من أن
معظمنا مقتنع تماماً بأننا نمتلك الوعي، إلا أن الأمر المثير للدهشة أنه قد
اتضح أن هذا الوعي من الصعب سبر غوره.
وفي القرن السابع عشر، ظن الفيلسوف «رينيه ديكارت»(2) أنه أحرز تقدماً
كبيراً عندما توصل باستدلال منطقي، إلى أن العقل الواعي يجب أن يتكون من
مواد مختلفة من الأدمغة والأجسام، وهي علاقة فارقة تعرف الآن باسم
«الازدواجية الديكارتية». وحتى في ذلك الوقت، فإن ناقداً مثل الفيلسوف
باروخ سبينوزا(3) أوضح أن مثل هذا التمييز يثير مشاكل عميقة عن كيفية
التأثير المتبادل بين العقل والدماغ.
وقبل نهاية عام 1690م، وضع الفيلسوف جون لوك(4) أول تعريف منهجي للوعي وهو:
«إدراك ما يعرض بعقل إنسان ما». وعلى الرغم من اهتمام لوك بمعنى الوعي،
إلا أنه لم يشر إلى أي عمليات معينة تؤدي إليه. وحتى قبل منتصف القرن
التاسع عشر، لم يحالف العلماء النجاح في أي محاولة للكشف عن سر الوعي. لكن
ظهور العقارات المخدرة كشفت عن وجود علاقة وثيقة بين الجسم والعقل، بما
يتناقض تماماً مع أفكار ديكارت.
وعندئذ شرع العلماء في التصدي لتلك المشكلة العسيرة محاولين عبور الهوة بين التجارب الذاتية للعقل والدراسة الموضوعية لنشاط الدماغ.
وفي الستينات من القرن التاسع عشر، اتخذ ولهلم فونت(5) من جامعة Heidelberg
ـ الذي يعد الآن أباً لعلم النفس التجريبي ـ أول خطوات تجريبية. وكان فونت
متأثراً بأفكار سبينوزا، بأن العقل الواعي هو نتيجة مباشرة لتأثيرات الجسم،
وحاول فونت معرفة المزيد من هذا الأمر.وكان الأسلوب الذي اتبعه في الواقع
استنباطنا، أي تدريب الباحثين على تسجيل استجاباتهم الواعية للمؤثرات
الخارجية.
ركزت أبحاث فونت الانتباه على أهمية فهم الصفات المميزة والمتفردة للتجارب
الذاتية غير الموضوعية التي لدينا عن العالم المحيط بنا، مثل «احمرار اللون
الأحمر» أو «حلاوة» السكر. لكن على الرغم من بذل فونت لمجهود شاق في جعل
أبحاثه هذه موضوعية، فقد كان من الصعب قياس ما إذا كانت تجربة شخص ما هي
نفسها في كل مرة أو عما إذا كانت تطابق تجربة شخص آخر، كما افتقر إلى
أساليب موثوق بها وتتسم بالموضوعية لقياس نشاط الدماغ، التي يستطيع أن يربط
بينهما وبين التجربة الذاتية.
وعند انتهاء القرن التاسع عشر، نجحت أبحاث فونت في إقناع شخصيات بارزة، مثل
عالم النفس الأمريكي الشهير وليم جيمس(6)،بأن الوعي نتيجة مباشرة لنشاط
الدماغ، ومن ثم، فإنه أمر يستحق الدراسة، إلا أن كثيراً من العلماء أحسوا
بقصور الأساليب المتاحة في تحقيق تلك المهمة، وعندما أصابهم الإحباط لعدم
التوصل إلى أي نتائج لا سبيل إلى إنكارها، تحول معظمهم إلى مشاكل أكثر
تعقيداً، وأصبحت دراسة الوعي في حالة ركود أكاديميا.
لكن هذا الموضوع لم يصبه الجمود تماماً، ففي غضون نصف القرن التالي طور
العلماء كثيراً من الأساليب المتعددة لمعالجة المشكلة العسيرة. وفي عام
1929م حقق الطبيب النفسي النمساوي هانز بيرجر، أول تقدم علمي ملحوظ بالتوصل
إلى طريقة لتتبع النشاط الكهربائي للدماغ وأطلق عليه: «مخطط النشاط
الكهربائي للدماغ»، مما أتاح لبيرجر اكتشاف نوعين مختلفين من النشاط
الكهربائي داخل الدماغ، أطلق عليهما «موجات ألفا وموجات بيتا» وبدا أنهما
مرتبطان بالجوانب الأساسية للوعي. وتتذبذب موجات ألفا حوالي 10 مرات في
الثانية الواحدة، واتضح أنها تعكس حالة الوعي، وهي تضعف في أثناء النوم أو
التخدير.
ومن جهة أخرى، فإن موجات بيتا كانت أسرع بنحو ثلاث مرات، وتعكس مستويات
التركيز والأستجابات غير الواعية، مثل الانعكاس اللاإرادي لشيء ما روعنا
بشكل مفاجئ.
- هل نحن نشغل الطيار الآلي؟
مهدت اكتشافات بيرجر الطريق لدراسة ما يعرف الآن بـ«الارتباطات العصبية
للوعي» وهي أنماط من النشاط الكهربائي مقترنة بالتجربة الواعية. وتلقى هذه
الارتباطات في الوقت الحاضر، اهتماماً بالغاً في بحوث العلماء، الذين يعتقد
الكثير منهم أن فهم الوعي يتضمن فهما لكيفية قيام الدماغ بدمج كم هائل من
الارتباطات العصبية للوعي في كيان واحد موحد. وساعد في تحقيقها للنجاح،
اكتشاف مذهل تم في الستينيات من القرن العشرين، مفاده أن وعينا لا يحتاج
إلا لجزء ضئيل من نشاطنا الدماغي، إذ قام فريق يقوده طبيب الأمراض العصبية
الأمريكي «بيامين ليبت» بوضع مؤثر بالغ الضعف على جلود المرضى الذين أجروا
عمليات جراحية عصبية في أدمغتهم. وأوضحت قياسات مخططات كهرباء الدماغ، أن
أدمغتهم قد كشفت هذه المؤثرات، إلا أن المرضى أنفسهم أفادوا أنهم لم يشعروا
بشيء.
وحدثت الرواية نفسها عندما تعرّض أولئك المرضى إلى مؤثرات أقوى استمرت أقل
من 0.5 ثانية، فقد كشفت أدمغة المرضى تلك المؤثرات، لكن المرضى لم يشعروا
بشيء. وتم التوصل إلى نتائج مماثلة من دراسات على الارتباطات العصبية
للوعي، مثل الرؤية والصفات المميزة المتفردة الناجمة عنها، كاحمرار اللون
الأحمر وهكذا. وعلى الرغم من أن أعيننا تستقبل المعلومات بمعدل يبلغ نحو
ميغابايت(7) واحد كل ثانية، إلا أن وعينا يبدو وكأنه يتجاهل كل هذا فيما
عدا قدرا ضئيلا منها.
ويوحي هذا التفاوت الهائل بأن الدماغ يعالج كمية ضخمة من المدخلات الحسية
بلا وعي ويرشحها قبل أن ندركها. ولا بد أن أداء تلك المعالجة تستغرق بعض
الوقت ويعني ذلك ضرورة وجود تأخر زمني، ما بين كشف أدمغتنا لمثير ما وإدراك
عقولنا له. وأدت محاولات قياس هذا التأخر الزمني إلى اكتشافات لعلها تكون
الأكثر إثارة في مجال طبيعة الوعي.
في عام 1976م أجرى فريق من الباحثين بقيادة طبيب الأمراض العصبية الألماني
هانز كورنهوبر تجربة لقياس التأخر الزمني المتضمن للعملية الواعية لقرار
تحريك إصبع، والتحريك الفعلي لها. وتوحي سرعة النبضات العصبية بأن التأخر
الزمني يبلغ حوالي 200 مل/ ثانية(8)، وهو يماثل الأفعال اللاإرادية، إلا أن
التأخر الزمني المقاس كان أطول بكثير ومتناغما ـ على الأقل ـ مع فكرة أن
أي شيء يتعلق بالعقل الواعي، يتضمن قدرا كبيرا من المعالجة.
ومن ناحية ثانية، فقد توصل الباحثون أيضاً إلى شيء آخر: أن نشاط الدماغ بدأ
بزمن يبلغ حوالي 800 مل / ثانية، قبل ادعاء الناس بأنهم قرروا ـ بوعي ـ
تحريك إصبع.
وكان لهذا الاكتشاف المذهل تداعيات مربكة لفكرة الإرادة الحرة، التي تبوأت
مكانا أثيرا لفترة طويلة من الزمن، إذ إنه يعني أن أفعالنا لا تبدأ من
عقلنا الواعي، وإنما من نشاط الدماغ غير الواعي خارج نطاق إدراكنا.
وثمة اكتشاف آخر أكثر إرباكاً تم في عام 1979م، بمعرفة ليبت وزملائه، في
أثناء دراساتهم للتأثير الناجم عن وضع مثيرات مباشرة على الدماغ. ومرة
أخرى، توحي الفطرة السليمة بوجود تأخر زمني قصير بين وضع المثير وكشف الوعي
له. ولكن وجد الباحثون من جديد تأخراً زمنياً كبيراً يبلغ حوالي 50 مل/
ثانية. كما توصلوا أيضاً إلى شيء آخر: إن الدماغ يحدث استجابته الواعية
«بأثر رجعي»، مما يخلق انطباعا بعدم وجود أي تأخر زمني على الإطلاق.
لم يكتف هذان الاكتشافان فحسب بإلقاء ضوء جديد على الحلقة التي تربط ما بين
نشاط الدماغ والوعي، وإنما قدمت بصائر عن جوهر الوعي. فأولا بينما لا تنشأ
أفعال على الإطلاق من عقلنا الواعي، فإن وعينا يمكن أن يرفض أي أفعال تنتج
عن عقلنا اللاواعي، الذي نعتقد أنه غير مقبول، وبالتالي، فإن الإرادة
الحرة ليست هي اختيارنا الواعي للقيام بأفعالنا بطريقة معينة، وإنما هي
اختيارنا الواعي لعدم أدائنا لهذه الأفعال.
وثانياً، تحدد تجارب ليبت السبب في بذل الدماغ لكل هذا الجهد لخلق الوعي:
إنه يجمع معا كل المدخلات الحسية من العالم، لكي يقدم صورة متناغمة وموثوقا
بها لما يحدث من حولنا.
- مسرح العقل:
إن تصور الوعي على أنه صورة للحقيقة التي تحيط بنا يتفق إلى حد بعيد مع
الفكرة التي لدينا بأن أدمغتنا تبدع نوعا من المسرح العقلي. وفي عام 1988م
استخدم العالم النفسي برنار بارس هذه الفكرة لابتكار نظرية «منطقة العمليات
الشاملة» عن الوعي.
وطبقاً لهذه النظرية، فإنّ العمليات الواعية هي تلك التي تجري في بؤرة
الاهتمام العقلي، بينما تظل العمليات الأخرى خارج دائرة الاهتمام مخزونة في
الذاكرة، حيث يمكن استدعاؤها على الفور. وفي غضون ذلك تتم العمليات
اللاواعية خلف الكواليس، وهي تشكل جمهوراً يستجيب لما يجري حالياً في بؤرة
الاهتمام. ونظرية منطقة العمليات الشاملة، ليست مجرد مجاز، وإنما بنيت على
أساس النتائج المنبثقة في الوقت الحاضر، من أعظم إنجاز حتى الآن في مجال
الدراسة الموضوعية للعمليات الواعية من مسح الدماغ. إن استخدام تقنيات مثل
التصوير الوظيفي بالرنين المغناطيسي توفر للباحثين خرائط واقعية عن نشاط
العقل، مما يمكن من ربطه بالعمليات الواعية. وأدى ذلك إلى حدوث تقدم مفاجئ
في دراسة الارتباطات العصبية للوعي، بعد تحديد أجزاء معينة من الدماغ اتضح
أنها تقوم بأدوار رئيسية في العمليات الواعية. وعلى سبيل المثال، هناك
منطقة مركزية في الدماغ تعرف باسم «المهاد البصري»، يبدو أن لها دورا
جوهرياً في توصيل المدخلات الحسية إلى بؤرة الاهتمام الواعي، بينما يظهر أن
«القشرة الأمامية الوسطى» تخلق إحساسنا بأن لحياتنا هدفاً.
وفي الوقت نفسه، بدأ الباحثون يعيدون النظر في وسائل فونت لمعالجة موضوعات
صعبة وسيئة السمعة، الجانب غير الموضوعي للوعي. وقد قاموا بالاستعانة بأناس
قضوا عقودا في ممارسة تجارب السيطرة على حالات وعيهم، لكي يعرضوا تجربتهم:
إنهم الرهبان البوذيون. وتوحي النتائج الأولية لدراسات مسح أدمغة الرهبان،
بأن سنوات ممارساتهم للتأمل المكثف مكنتهم من إيجاد تنظيم لحالاتهم
العقلية المستقرة، مما يوفر للباحثين الاتساق اللازم للحصول على بصائر
موثوق بها في التجربة غير الموضوعية للوعي.
إنّ هذا الالتقاء الحاسم بين التقانة والممارسات الروحية القديمة ربما يفضي
إلى بصائر جديدة بشأن الارتباطات العصبية الواعية، وقدرتنا على التحكم
فيها. ومع ذلك، فقد فشل في توجيه الاهتمام نحو إماطة اللثام عن بعض الأسرار
الكبرى عن الوعي، مثل: لماذا نمتلك الوعي؟ وما المزايا التي يمنحها لنا؟
وهل البشر ـ دون غيرهم من الكائنات ـ هم الذين لديهم وعي كامل؟ ثمة تفسير
واحد محتمل يكمن في النظر إلى الوعي باعتباره وسيلة لخلق صورة عقلية عن
الحقيقة. ويمكن لأي كائن دقيق حي لديه هذه الوسيلة. أن يفعل أكثر من مجرد
رد الفعل للمؤثرات، والابتهال بأن تكون تلك الاستجابة سريعة بما يكفي
للهروب من الضواري. ويمكن للكائن الحي أن يستخدم الصورة العقلية للتنبؤ
بالتهديدات والفرص الممكنة من حوله في «العالم الحقيقي»، مما يحرره من قيود
السرعة اللازمة للاستجابات اللاإرادية.
وبتعبير آخر، فإنّ الكائن الواعي لا يلزمه أن يتحرك هنا وهناك عشوائياً،
متمنياً في أن تبقيه استجاباته اللاإرادية آمناً. وعن طريق تجميع
الاستجابات اللاإرادية معا لخلق صورة مبسطة عن الحقيقة، فإن الكائن الذي
يتملك قدراً معقولاً من الوعي، يمكنه أن يتجنب الأماكن المكتظة في المقام
الأول، مما يعطي له ميزة تطورية هائلة.
ويوحي ذلك بدوره، أن التساؤل عما إذا الكائن الدقيق الحي واعياً أم لا، هو
في الواقع تساؤل مغلوط فيه، إذ قد يكون الوعي أمراً نسبياً بمعنى أن الحشرة
ـ على سبيل المثال ـ تكون لها بالطبع صورة حقيقية بما حولها أقل تعقيداً
من الإنسان.
ومع وجود كل تلك الجوانب من الوعي، فإنّ الإجابات القاطعة عن كل سؤال لن
تتوافر في القريب العاجل. وعلى أية حال، فإن هناك اهتماماً متزايداً بشأن
قرب وصول العلماء إلى حل لغز كيف أن 1400 جرام من نسيج رخوي يشكـّل الدماغ،
تهبنا الإحساس المتفرد الذي لا يوصف بذاتنا!؟.