2014-10-14 الشخص، والحرية، والديمقراطية
|
| |
قدمنا لموضوعنا الحالي في حديثنا السابق عن الشخصانية الواقعية بتحديد مفهوم الشخص الذي تستند إليه تلك الفلسفة. فالشخص هو من يجوز الحديث في حقه عن الحرية وما يرتبط بها من مسئوليات وواجبات، وهو كذلك من يمكن أن نطلب مساهمته في البناء الديمقراطي للمجتمع.
يخص الحبابي موضوع الحرية بكتاب خاص هو الذي صدر في البداية باللغة الفرنسية تحت عنوان: حرية أم تحرر؟ وصدر بعد ذلك مترجما إلى اللغة العربية بعنوان: من الحريات إلى التحرر. لكن الحبابي أشار إلى المعنى الأساسي الذي أخذ به لفظ حرية وتحرر منذ مقدمة كتابه من الكائن إلى الشخص، حيق يبرز من ذلك توجهه الفلسفي من خلال نقده لمعنى مهين من الحرية هو الحرية كشعور باطني بها. كانت غاية الفيلسوف الشخصاني الواقعي هي تجاوز صيغة معينة للحرية هي التي تكون بهاشعورا ذاتيا خال من أي مضمون مجتمعي أو تاريخي، فهي وعي ذاتي بالحرية وكأن الإنسان الحر ليس منخرطا في مجتمع، ويعيش فيفترة محددة من التاريخ. يتجه الحبابي بالنسبة للحرية التي ينسبها إلى الشخص نحو صيغة أخرى يشارك فيها الشخص الآخرين في تحرره ويحيا معهم هذا التحرر. والواقع أن هذا المعنى للحرية يأتي منسجما مع مفهوم الشخص باعتباره مندمجا في مجتمعه، ويحيا حريته عبر هذا الاندماج. أما التحرر، فهو عملية اكتساب نتدرج للحرية، حيث يتحرر الإنسان من قوانين الطبيعة بمعرفته ليصبح سيدا لها، ويتحرر من ضغط أهوائه وغرائزه بضبطها، ولكن عبر معرفتها.
يشير الحبابي بمفهومه للحرية الذي يقيمه على أساس نقده لمفهومها الذي يجعلها كامنة في الشعور الباطني إلى اتجاهه الفلسفي في الطيق المضاد لتصور الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون، وقد كان لفلسفته حضور قوي في ذلك الزمن. وسيعود الحبابي إلى التفصيل في هذا النقد في كتابه من الحريات إلى التحرر.
حين يترك الحبابي مفهوم الحرية الكامن في الشعور الباطني بها،فإنه يصل إلى القول بأن الحرية ليست واحدة ومطلقة، بل هناك حريات، حيث إننا نتحدث دائما عن الحرية بربطها بجانب معين من حياة الإنسان النفسية والمجتمعية.فهناك حرية القول، وحرية التعبير، وحرية التفكير ، وحرية الصحافة، وحرية الاعتقاد، ثم حريات تأسيس الجمعيات والنقابات والأحزاب السياسية. فهذه الحريات كلها ليست بالنسبة للشخص الإنساني مكسبا عفويا ، بل هي نتاج للفعل الإنساني المتجه إلى تحقيقها، أي نتاج للتحرر المتدرج بصددها.
زاد الحبابي مفهومه للحرية والتحرر وضوحا في كتابه من الحريات ‘لى التحرر، وذلك عندما قال بالارتباط الوثيق بين الحريات والديمقراطية. كما أنه حاول مناقشة الإلتباس الذي ساد في استخدام المفهومين في التفكير العربي المعاصر بصفة خاصة في كتابه الذي عنوانه: مفاهيم مبهمة في الفكر العربي المعاصر(دار المعارف، القاهرة ) ورأىالحبابي أن الإبهام يلحق المفاهيم لكثرة استعمالها وشيوعها، ولكننا نكون في مثل هذه الحالات في حاجة إلى مجهود نقدي يعيد للمفاهيم معانيها الحقيقية، وتلك حالة مفهومي الحرية والديمقراطية.
الارتباط بين الحرية والديمقراطية لايكون بينهما على الصعيد المفهومي فحسب، بل إنه يكون على الصعيد الواقعي. ونعبر عن هذا الإرتباط بالقول إنه لاوجود للحريات في مجتمع تغيب فيه الديمقراطية. وينسجم هذا عند الحبابي مع نقده للحرية بوصفها شعورا باطنيا بها لدى الفرد، كما ينسجم مع تأكيده على القول بوجود حريات متعددة تكون مطلوبة في الواقع المجتمعي لايلبيها إلا تنظيم ذلك المجتمع علة أساس دينقراطي يكون ضامنا لوجودها واستمرارها. وبالمثل، وبصفة جدلية، يمكن القول لاوجود لمجتمع ديمقراطي حق يتجاوز مجرد الدعوة إليه والإدعاء بوجوده إلا حين تتحقق بداخله الحريات المتعددة المطلوبو للشخص الإنساني.، ونستنتج من وجهة النظر التي يتبناها الحبابي قولنا، إنه نظرا لارتباط مفهوم الشخص بالحريات ، فإن الشخص ذاته لايتحقق بالمعنى الكامل له إلا داخل التنظيم الديمقراطي للمجتمع الذي يضمن له حرياته المطلوبة.
لايقدم الحبابي تعريفا مباشرا للديمقراطية نرا لعلمة بالاستخدام المكثف لهذا اللفظ، ولما لحقه من إبهام نتيجة لذلك. فنجده يبدأ منذ كتابه عن الحريات في مناقشة بعض الاستخدامات للمفهوم قاصدا من ذلك بلوغ تعريف أقل التباسا، وذلك في كتابه عن الحريات والتحرر. فهو يبحث في بعض المفاهيم التي ترتبط بالديمقراطية مثل الإرادة العامة والمصلحة العامة/ لأمما حين نقول إن منبع الديمقراطية يأتي منهما، بطرح علينا مباشرة السؤال: نامعنى الإرادة العامة؟ ومامعنى المصلحة العامة؟ وعندما يبحث الحيابي عن الديمقراطية في ضوء هذين المفهومين يندرج في بحثه مفهوم ثالث مرتبط بهما هو الشعب مادامت الديمقراطية في معناها الأصلي تعني أن الشعب هو مصدر الديمقراطية، وأنه كذلك هو الغاية منها. ولاشعب يعني مجموع الأفراد المنتمين إلى مجتمع ما.وعبر مفهوم الشعب يتبين لنا معنى الإرادة العامة التي هي مجموع إرادات الأشخاص المكونين للشعب أو للأمة ، مدام الحبابي يستخدم هذا اللفظ أيضا.إنها ليست إرادة فرد أو جماعة أو طائفة أو حزب، بل هي مجموع تلك الإرادات.كما يتضح في ضوء مفهوم الشعب معنى المصلحة العامة التي نقول إن التنظيم الديمقراطي للمجتمع يأتي من أجل ضمانها. فمرة أخرى تكون المصلحة العامة هي غير المصلحة الشخصية، أو التي تهم جماعة ما، أو تتعلق بطائفة معينةأو بجماعة محدودة أو بحزب سياسي، بل هي المصلحة التي تهم الشعب بأكمله. وهذا مايجعل الحبابي يقول بأن وجود السلطة في المجتمع يكون من أجل الحفاظ على الإرادة العامة والمصلحة العامة.
يعود الحبابي كذلك في توضيحه لمعنى الديمقراطية إلى الحديث عن الحريات التي يتحدث عنها بصيغة الجمع لكي يبعدها عن صفة الإطلاق ، وعن كونها متمثلة في الشعور الباطني لها، وهو الهدف الذي يؤسس الحبابي مفهوم الحرية من أجله على نقد فلسفة برغسون. وضمن هذا الارتباط بين الحريات والديمقراطية يصبح أحد مكونات مفهوم الديمقراطية هو ضمانها للحريات الأساسية بالنسبة للإنسان. وهكذا يصل الحبابي في كتابه عن الحريات بتعريف الديمقراطية بأنها نظام سياسي يتفتع على عوالم الفرد البشرين في تواصله الواقعي مع الآخرين،بتكافؤ العضوية والفرصن مع مراعاة التغاير الشخصي لكل فرد.ولاينسى الحبابي ان يشير إلى أن التواصلات المجتمعية تنتظم ضمن النظام الديمقراطي وفقا لقوانين يحكمها قانون عام وأسمى هو الدستور.
ظل الشعور بالإبهام في مفاهيم الحرية والديمقراطية والشعب والإرادة العامة يسكن فكر محمد عزيز الحبابي لأنه يرى أن التقدم في نجال التفكير في القضايا المطروحة يقوم في جانب منه في العمل من أجل طلب المزيد من وضوح المفاهيم، ومن التوافق على معانيها الدقيقة. وهذا في الواقع دور النخبة الفكرية التي لاينبغي أن تنساق لصيغ الإبهام السائدة وتخضع لها. ولهذا، فإن الحبابي عاد بعد كتابه عن الحريات إلى البحث في المفاهيم المرتبطة بهذا المفهوم، وعاد إلى البحث فيها في كتاب آخرهو: مفاهيم مبهمة في الفكر العربي المعاصر.
عاد الحبابي في كتابه الذي ذكرناه أخيرا إلى مفهوم الديمقراطية بصفة أساسية، ورأى أن مايكتنف هذا المفهوم من إبهام مفاهيم أخرى مرتبطة به وتستخدم من أجل توضيح معناه مقل مفهوم الشعب والإرادة العامة والمصلحة العامة، وهو مايجعل توضيح هذه المفاهيم كلها طريق لتوضيح مفهوم الديمقراطية ذاته.ويعمل الحبابي من أجل ذلك. ويناقش الحبابي بهذا الصدد بعض التعريفات الواردة لدى كتاب آخرين نذكر منهم بصفة خاصة عبدالله العروي.ولكن ميزة النقاش الذي فتحه الحبابي مع العروي في هذا النطاق أنه حيم لايقبل بعض التعريفات لايرفضها في الوقت ذاته بصورة مطلقة.يعترض الحبابي على ما ورد في أحد حورات العروي حول الديمقراطية حيث جعل دور البرلمان هو مراقبة الإدارة العامة لأن ذلك أحسن طريق للمحافظة على النسجام بين السلطات. ولكن الحبابي يرى أنه لايمكن حصر وظيفة البرلمان، والنظام الديمقراطي بصفة عامة،في دور مراقبة الإدارة العامة لأن دور الديمقراطية في المجتمع أكثر سعو من ذلك،حيث لايمكن مراقبة الإدارة إلاطبقا لقوانين تشريعية يضعها البرلمانيون. ومعنى هذا أن الحبابي أراد أن يشير، دون أن ينكر أهمية المراقبة، غلى أنها مراقبة سياسية منسجمة مع وظيفة البرلمان في الحياة العامة.
بعود الحبابي في فكرة أخرى إلى التوافق مع تعريف آخر ورد عند العروي في كتابه العربوالفكر التاريخي، وذلك حين يؤكد أن الديمقراطية كنظام مدني تقضي ألا أحد في المجتمع يملك الحقيقة السياسية، بل إن تلك الحقيقة تتكون شيئا فشيئا عن طريق المناقشة المتواصلة ونحاولة البعضإقناع الآخرن وأخيرا الاقتناع كوسيلة لإثبات حقيقة توافقية.
ينتهي الحبابي بعد كل التوضيحات السابقة إلى القول بأن الديمقراطية تظل، رفم التباس معناها،أفضل نسق مجتمعي للحفاظ على توازن المجتمع وعلى حقوق الأفراد وحمايتها.
نختم بالقول: إنه إذا كان الحبابي هو الفيلسوف الذي إستأنف الفكر الفلسفي في المغرب، فإنه فعل ذلك بدفع التفكير الفلسفي نحو الانتباه إلى مفاهيم الشخص والحريات والديمقراطية. ونرى أن هذه البداية القوية لم تلق الصدى الذي تستحقه، وهو ما يجعلنا في محاولة لاحقة نبحث في الشروط التي لم تسمح بوجود ذلك الصدى القوي