18 يونيو 2015 بقلم
مولاي عبد الصمد صابر قسم:
حجم الخط
-18
+ للنشر:دور الوعي بالتهديدات التي تواجه الإنسانية في تعزيز الحوار بين الحضارات
عبد الصمد صابر: الأحداث الأخيرة، التي شهدتها فرنسا، والمتعلّقة بالهجوم الذي تعرّضت له صحيفة شارلي إيبدو في باريس، ما أسفر عن مقتل عدد كبير من الضحايا، أعادت إلى الأذهان أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001م، وأنعشت خطاب الصراع بين الغرب والإسلام. كيف ترون مستقبل هذا الصراع في ضوء تصاعد اليمين المتطرف في أوروبة؟
د. إدريس لكريني: أعادت هذه الأحداث، فعلاً، إلى الأذهان ما شهدته الولايات المتحدة الأمريكية من عمليات بتاريخ 11 أيلول/ سبتمبر، وما جرّته على المنطقة من ويلات خطيرة، وعلاقة ذلك بالتضييقات التي مسّت الجالية العربية والمسلمة، في عدد من الأقطار الغربية، وتجريم الكثير من حركات التحرر الوطني، والخلط المقصود بين الإسلام والإرهاب...
إنّ مثل هذه العمليات، التي تُرتكب باسم الدفاع عن الإسلام، بمثابة حطب يذكي نار الكراهية تجاه المسلمين والإسلام، وهو ما يجعل منها عاملاً منعشاً للتيارات اليمينية المتطرّفة وخطاباتها، في كامل أوروبة، والغرب بشكل عام.
وقع هذا الاعتداء في مرحلة شهدت تصاعداً وتنامياً لليمين المتطرّف في أوروبة، الذي غالباً ما يستمدُّ خطاباته من المعاداة للمهاجرين، لاسيما المسلمين منهم، وتحميلهم مسؤولية مختلف المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، التي تعيشها أوروبة، من تطرّف، وبطالة، وإجرام، وأزمات اقتصادية ومالية...
كما شهد الكثير من دول أوروبة، في الآونة الأخيرة، تنامياً للخطابات العدائية للمهاجرين، ولاسيما المسلمين منهم. وقبيل الأحداث، شهدت ألمانيا مجموعة من المظاهرات احتجاجاً على ما سُمّيَ "أسلمة أوروبة".
على الرغم من الاستنكار والرفض، الذي عبرت عنه الجاليات المسلمة في أوروبة تجاه هذه العمليات، وعلى الرغم من أنّ السلطات الفرنسية اعتبرت أنّ حربها مع الإرهاب، وليس مع الإسلام، فإنّ هناك الكثير من الصعوبات والتحديات التي ستواجه هذه الجاليات في الأيام القادمة.
الأحداث تطرح الكثير من الإشكالات...، فالجناة المباشرون في الحادث وُلدوا في فرنسا، وتشبّعوا ببعضٍ من ثقافتها. وعلى الرغم من هامش الانفتاح والرفاه الذي تعيشه هذه الدولة، فهي لم تستطع دمج مختلف المكونات الاجتماعية داخلها، في إطار مواطنة تحتمل الجميع...
كما أنّ عدداً من الملتحقين بتنظيمات مسلّحة ومتطرّفة، كما هو الشأن بالنسبة إلى داعش، والقاعدة، وغيرهما، ولدوا داخل عدد من الدول الأوروبية، وتشبّعوا بكثير من مظاهر ثقافتها؛ كما أنّ هناك عدداً من الأشخاص، ذوي الأصول الأوروبية، التحقوا بهذا التنظيم، وغيره من التنظيمات المتطرّفة، والجماعات المسلّحة، لكنّ الإعلام يركز، مع كلّ أسف، على ديانتهم فحسب؛ دون التطرّق إلى أصولهم، أو إلى البيئة التي ترعرعوا فيها.
عبد الصمد صابر: أحداث باريس، وغيرها من الأحداث، إضافة إلى انتشار الجماعات المسلّحة، على امتداد عدد من المناطق عبر العالم، يطرح جدوى الجهود التي قامت بها الولايات المتحدة منذ أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2011م، في سبيل الحدّ من "الإرهاب الدولي". ما تقييمكم لهذه الجهود؟
د. إدريس لكريني: ينبغي الإشارة إلى أنّ "الإرهاب الدولي" بات يطرح تحدّيات وإشكالات كبرى أمام المجتمع الدولي برمّته؛ بالنظر إلى التداعيات الأمنية، والسياسية، والاقتصادية، التي يفرزها، وقد تصاعدت وتيرة العمليات الإرهابية، بشكل مكثّف، في العقود الأخيرة، في مختلف المناطق من العالم، سواء من حيث مخاطرها وأشكالها، أم على مستوى النطاق الذي تتمّ فيه، أم بالنسبة إلى عدد المنظمات التي تمارسها... الأمر يتعلّق، إذاً، بظاهرة دولية عابرة للحدود، يُفتَرض أن تقارب في إطار من التعاون والتنسيق الدوليين، وبسبلٍ شموليّة تقف على مختلف العوامل التي تغذيها.
تكمن المشكلة في أنّ هناك، في مقابل الإجماع على خطورة هذه الآفة، وعلى ضرورة مجابهتها، اختلافاً وتبايناً على مستوى المقاربة، ما جعلها تتنامى بصورة خطيرة في السنوات الأخيرة.
لقد سعت الولايات المتحدة، في أعقاب أحداث 11أيلول/ سبتمبر 2001م إلى اختزال أسباب الإرهاب، في غياب هامش الديمقراطية، وحقوق الإنسان، في الدول التي ينتمي إليها الضالعون المفترضون في هذه العمليات، وهو ما دفعها إلى اقتراح عدد من المبادرات والمشاريع تصبّ في اتجاه إدخال إصلاحات على النسق السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، في عدد من الدول، التي اعتبرتها شموليّة؛ ولاسيّما في منطقة الشرق الأوسط، ومجمل الدول العربية، والإسلامية.
فيما قامت بمجموعة من التدابير الزجرية لاحتواء الظاهرة، ووصل الأمر إلى التدخّل بناءً على فرض عقوبات انفرادية، تتنوّع بين الطابع السياسي، والاقتصادي، والعسكري، أو دفع الأمم المتحدة إلى اعتماد تدابير زجرية في مواجهة دولٍ تعتبرها داعمة للإرهاب، أو اختصار الطريق، من خلال اللجوء إلى عمليات عسكرية مباشرة, إضافة إلى وضع عدد من الجماعات، بما فيها منظمات تندرج ضمن حركات التحرّر، في قائمة الجماعات الإرهابية...
وعلى الرغم من كثافة هذه الردود، فهي لم تكن بالفعالية المطلوبة، حيث تبيّن أنّ الظاهرة باتت في تزايد مستمر، وخطورة متنامية، وانتشار واسع. ويمكن القول: إنّ اقتصار المقاربة على الجوانب العلاجية والأمنية، إضافةً إلى عجز المجتمع الدولي عن صياغة مفهوم دقيق، ومتفق عليه، بشأن هذه الظاهرة، بسبب تباين الخلفيات الإيديولوجية، والمصلحية، والمذهبية، كلّها عوامل أسهمت، بشكل كبير، في قصور مختلف هذه التدابير والإجراءات، التي حاولت مقاربة هذه الظاهرة العابرة للحدود.
والواقع أنّ الممارسة تبرز أنّ أيّ إجراء أمني، مهما توافرت له الإمكانات البشرية، والتكنولوجية، والمادية، لا يمكنه الحدّ من هذه الظاهرة، بعدما أصبح القائمون بهذه الأعمال يطورون آلياتهم ووسائلهم، ويستغلّون، بتحايل كبير، أضيق الفرص والفجوات لتنفيذ أعمالهم.
عبد الصمد صابر: ما العوامل المسؤولة عن تنامي العنف والإرهاب في عالم اليوم؟
د. إدريس لكريني: إنّ العوامل المغذية لظاهرة "الإرهاب"، في بُعدها المحلي، أو الدولي، تتنوع بين ما هو سياسي، واقتصادي، واجتماعي، وتربوي، وأمني أيضاً، غير أنّ إلقاء نظرة سريعة على مختلف الجهود الدولية، أو الانفرادية، المرتبطة بمكافحة ظاهرة الإرهاب، تؤكّد أن جلّ هذه الجهود اتخذت الطابع العلاجي، وتحكّم فيها الهاجس الأمني أكثر من أيّ اعتبار آخر.
إن اللجوء إلى العنف، في واقع الأمر، تغييب للعقل، واعتماد سبل غير مشروعة، وغير مقبولة، في الإقناع، ولا يمكن مواجهة الإرهاب بصرامة وفعالية ما دام هناك تضارب دولي في مدلول الإرهاب؛ بل إنّ الأمّم المتحدة نفسها لم تستطع بلورة مفهوم متّفق عليه بشأنه, وتتعدّد التعريفات بين مؤكّدٍ اختزالَ "الإرهاب" في كلّ أشكال العنف، وبين من يميّز بين العنف المشروع، والعنف المحرّم، وبين من يركز على "إرهاب" الأفراد، وبين من يميّزه عن "إرهاب" الدولة.
ويُعدّ الوقوف على الخلفيات والأسباب الحقيقية المغذية للظاهرة، التي أضحت في تزايد مستمر؛ خطوة كبيرة على طريق بلورة مقاربة فعّالة لها. وإذا كان الحدّ من تصاعد هذه الظاهرة يتطلّب اعتماد مقاربة شمولية، تتأسّس على مختلف المقومات والعناصر الكفيلة بتوفير الشروط اللازمة لحفظ كرامة الإنسان، فإنّ إعطاء الأولوية لجانب التأطير، والتربية، والتعليم، ينطوي على أهمية وملحاحية كبرى في هذا السياق، بالنظر إلى الانعكاسات الإيجابية لذلك، على مستوى تحصين شخصية الفرد ضدّ أيّ فكر متطرّف، أو عنيف، وتعدّ التنشئة الاجتماعية أحد أنجع المداخل والسبل لبناء مواطن يؤمن بالحوار، والاختلاف، والتسامح.
كما أنّ الإرهاب هو خطر يواجه الإنسانية جمعاء، ويفرض اعتماد مداخل شمولية، وعلى قدر من التنسيق والتعاون، وتجاوز المقاربات الانفرادية، مع الحرص على إدارة مختلف الأزمات والنزاعات الدولية، التي غالباً ما تشكّل فضاءً خصباً لانتعاش الظاهرة.
عبد الصمد صابر: ما تأثيرات التوظيف المشين للدين الإسلامي في تسويغ القتل والإرهاب؟
د. إدريس لكريني: إنّ الأعمال الإرهابية مرفوضة بكلّ المعايير والضوابط القانونية، والأخلاقية، والدينية، والإسلام في غنى عن الجماعات المسلحة والمتطرفة، التي تريد تبرير الدفاع عنه بسبل عنيفة.
وكما أنه لا يمكن تبرير الاعتداء والإساءة إلى الأديان بأيّ مبرر من قبيل حرية التعبير، لا يمكن، أيضاً، للعنف والإرهاب أن يحملا رسالة ما، كما لا يمكن ربطهما بدين معين. فالأديان السماوية جاءت لأجل نشر السلام، والتسامح، والمودة، بين الناس.
لكن الجماعات، التي تتبنى القتل باسم الإسلام - مع الأسف - لم تعد تسيئ إلى نفسها فحسب؛ بل إنّ الكثير من الغربيين أصبحوا يخلطون، بناءً على هذه السلوكيات المشينة، بين الإرهاب والإسلام ديناً.
عبد الصمد صابر: عاد موضوع صراع الإسلام والغرب إلى الواجهة؛ هل يمكن الحديث عن صراع مصالح أو حضارات؟
د. إدريس لكريني: إنّ الأصل في عمق وطبيعة الحضارات هو التحاور، والتشابك، والتواصل، ولذلك، فإنّ الصراع - وإن اتّخذ مظهراً ثقافياً - غالباً ما تكون وراءه دوافع وخلفيات سياسية واقتصادية أكثر منها ثقافية، وهي الخلفيات التي طالما عكّرت الحوار بين الحضارات، ولعلّ الأحادية الثقافية، التي تروّج لها بعض الجهات داخل المجتمع الغربي، وتلقى تجاوباً في الأوساط الشعبية والرسميّة، لن تصمد أمام التاريخ. والحضارات - وإن كانت تختلف بعضها عن بعض، لا تحتمل، أبداً، إجراء تقييم تفضيلي بينها، ومن ثمّ، الصراع القائم هو، في العمق، صراع سياسي واقتصادي.
لقد شهد المجتمع الدولي تداخلاً وتعدداً في العلاقات بين مختلف الشعوب والأمم، في شتى المجالات والميادين، يؤكّدها التنقل المستمر للقيم، والأفكار، والأشخاص، بالشكل الذي يجعلنا نستبعد كلّيّاً نظريات المواجهة، أو القطيعة لحساب التواصل، لكنّ التصريحات والسلوكات المستفزة الاستثنائية، التي تصدر عن بعض الجهات، التي تعتقد أنها تمثّل الغرب برمّته، أو تلك التي تعتقد أنّها تمثل الإسلام والمسلمين، يمكن أن تشوّش على هذا التواصل والحوار الضروريين والحتميين.
عبد الصمد صابر: هل المسلمون مستعدّون للدخول في حوار حقيقي مع الغرب؟
د. إدريس لكريني: يمكن القول إنّ الصوّر النمطية، التي تشكلت عن الإسلام والمسلمين في الغرب، تعود، في جانب مهمّ منها، إلى تعدّد الخطابات الإسلامية، التي تُقدّم للغرب تبعاً للمذاهب والرؤى الفردية، في غياب رؤية واحدة، وتصوّر منسجم بين من يخلط بين التجارب الإسلامية الإنسانية والدين، وبين من يركز على المبادئ الإسلامية، ويميّزها عن الممارسة الإنسانية، التي تحتمل الخطأ كما الصواب، وبين من يتبنّى رؤية مرنة في الحوار ملؤها التعايش والتواصل، وبين من يتبنّى رؤية لا تخلو من تشدّد ومغالاة في هذا الشأن.
إنّ هذه المعطيات، مجتمعةً، تجعل من بلورة حوار داخلي بنّاء وهادئ بين المسلمين، بمختلف أجناسهم، وثقافاتهم، ومذاهبهم، أمراً ملّحّاً وضرورياً، ما يدعم ميزان الحوار في علاقتهم بحضارات وثقافات أخرى.
عبد الصمد صابر: ما أهم التحديات التي تواجه الحوار بين الغرب والإسلام؟
د. إدريس لكريني: على الرغم من مظاهر الصراع والحروب، التي ميّزت العلاقات الدولية، على امتداد التاريخ، فقد كانت هناك، دائماً، علاقات من التواصل والتعاون، وظلّت هنالك أصوات تدعو إلى الحوار والتآلف بين مختلف الشعوب.
والواقع أنّ الرغبة في إقامة حوار بنّاء، بين مختلف الشعوب والحضارات، تربكها أقلّية تحركها عقدة التفوّق والأحادية، في التفكير والميل نحو الهيمنة. وهاجس تحقيق المصالح الضيّقة تروّج لمقولات الصدام والصراع، كما تكتنفها مجموعة من الصعوبات والإكراهات، التي تشوّش على مختلف الجهود المبذولة في هذا الشأن. فالقانون الدولي، ضابطاً مفترضاً للعلاقات الدولية، يعكس، في الواقع، مصالح الغرب ورؤيته، فهذه العلاقات أصبح منطق القوة يتحكّم فيها بدل القانون، وهناك عدد كبير من الاتفاقيات الدولية، التي تجسّد، في مضمونها، مصالح القوى الكبرى، ولا تخفى الآثار الكارثية، التي يخلّفها السّعي المتزايد للدول نحو التّسلّح التقليدي والنووي، لما يخلفه ذلك من حالات الشّك والحذر بين الأمم والدول، ويعزّز من فرص الصراع والحروب.
كما أنّ المؤسسات الدولية، على اختلاف تخصصاتها وأهدافها، والتي وجدت بقصد التعاون الدولي، وتحقيق الأمن والسلم الدوليين، أصبحت، في واقع الأمر، مجرّد أدوات تخدم مصالح الأقوياء بفعل تغييب البعد الديمقراطي فيها، سواء تعلّق الأمر بالمؤسسات الاقتصادية (البنك وصندوق النقد الدوليين...)، أم السياسية (مجلس الأمن...)، أم القانونية (محكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية...).
ولا تخفى أهمية تفعيل هذه المؤسسات في بلورة نظامٍ دولي عادل يسمح بتحقيق السلم والأمن الدوليين، وإرساء سبل الحوار والتواصل بين مختلف الشعوب والحضارات، وجديرٍ بمواجهة "الإرهاب" الدولي، ولاسيّما أنّ تعطيل دور هذه المؤسسات، أو انحرافها عن أهدافها المفترضة، سيدفع، حتماً، نحو البحث عن سبل لا مشروعة، قد تصل إلى درجة العنف بكلّ مظاهره لتحقيق المطالب، ما يذكي عوامل الصدام والصراع.
وفي هذا الصدد، يمكن القول: إنّ تجريم حركات التحرّر الوطني المشروعة، وعدم بلورة حلول عادلة ودائمة لنزاعات وقضايا دولية مطروحة، واعتماد سبل الكيل بمكيالين، عند مقاربة القضايا الدولية المختلفة، بالإضافة إلى الإساءة إلى الرّموز الدينية والحضارية للشعوب، ومختلف التصريحات والسّلوكات المستفزة، تشكّل عرقلةً لكل المبادرات والجهود الرامية إلى التواصل، والحوار، والتقارب، بين الشعوب والحضارات، وعاملاً مشجّعاً لخطابات التّطرّف والمغالاة.
عبد الصمد صابر: إلى أيّ حدّ يمكن القول إنّ بقاء القضية الفلسطينية دون حلّ عادل يذكي نار الكراهية للغرب، ويدعم نشاط الجماعات المسلّحة خارج الأراضي الفلسطينية المحتلة؟
د. إدريس لكريني: ينبغي أن نميّز، بدايةً، بين الإرهاب المحرّم من جهة؛ والحقّ في تقرير المصير، وفي الدفاع الشرعي عن النفس، من جهة أخرى، ذلك أنّ العنف، الذي تمارسه المقاومة الفلسطينية، عنف مشروع في مواجهة الاحتلال وإرهاب الدولة، اللذين يقوم بهما الكيان الإسرائيلي، يومياً، في الأراضي الفلسطينية المحتلّة.
ولكن ينبغي، في مقابل هذه المقاومة المشروعة، الإقرار بأنّ هناك الكثير من الجماعات الإرهابية تستغلّ، بصورة منحرفة، قضية فلسطين العادلة، في سبيل تحقيق أهداف مصلحية ضيقة.
وعموماً؛ يبدو أنّ هناك مجموعة من العوامل، التي تنعش التوجّه إلى اعتماد العنف طلباً للحقوق؛ فالأمّم المتحدة، التي أُنشِئت، أساساً، لحفظ السلم والأمن الدوليين، ولتلافي الحروب، التي جرّت على الإنسانية دماراً وخراباً كبيرين؛ وبفعل الضغوط، التي تمارس، غالباً، عليها، من قبل الولايات المتحدة، أضحت مؤسسات شكليّة تفتقد كلّ استقلالية، أو صدقية؛ بل إنّ قراراتها تأتي، في كثير من الأحوال، امتداداً للسياسة الخارجية لهذه الدولة، وفي مواجهة الدول الضعيفة فحسب، وأكثر من ذلك، ظلّت مشلولة أمام عدد من القضايا والأزمات الدولية، التي كانت تتطلّب تدخّلات عاجلة، وذلك بفعل استعمال "الفيتو" الأمريكي، أو التهديد باستخدامه، كما هو الشأن بالنسبة إلى القضية الفلسطينية، واحتلال العراق...، وحتى تلك القرارات، التي تمكّنت هذه المنظمة من استصدارها بعد جهد جهيد، تظلّ، في الكثير من الأحوال، حبيسة الرفوف، ولا تُتاح لها إمكانية التنفيذ بفعل غياب الإمكانات المادية لذلك من جهة، وغياب الإرادة السياسية لمعظم القوى الدولية الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، من جهة أخرى، ونسحضر، هنا، مختلف القرارات المرتبطة بالقضية الفلسطينية.
ويمكن اعتبار عدم فعالية هذه المؤسّسات في انتزاع حقوق الضعفاء، وفي مواجهة ظلم واعتداء الأقوياء، بمثابة إغلاق لباب تصريف المشكلات، والمطالب، وحلّ المنازعات، بشكل ودّي وقانوني عادل. الأمر الذي يدفع إلى اتّباع سبل وبدائل أخرى، قد تكون لا مشروعة، وأكثر عنفاً ودمويّة لتحقيق المطالب.
حيث يجد عدد من الضالعين في عمليات "الإرهاب الدولي" ذريعتهم في مختلف السلوكات الاستفزازية، التي تنهجها الولايات المتحدة وإسرائيل، عبر سياساتهما الجائرة في عدد من المناسبات والمحطات، والتي تصل، أحياناً، إلى حدّ تعطيل عمل المؤسسات الدولية، وقطع الطريق أمام تدخلاتها المشروعة.
عبد الصمد صابر: وصول عدد من الحركات والأحزاب الإسلامية إلى السلطة، خلال السنوات الأخيرة، مع الربيع العربي، سيدعم الحوار أم الصراع مع الغرب؟
د. إدريس لكريني: لقد ظلّت نظرة الكثير من التيارات الغربية نحو الغرب مشوبةً بنوع من الالتباس والغموض، وتتراوح بين القبول، والانفتاح، والتواصل، تارةً، والرفض، والانغلاق، والتحفّظ، تارةً أخرى. ويسعى الكثير من القوى الإسلامية، التي وصلت إلى الحكم، خلال مرحلة الحراك العربي، إلى كسب ثقة واعتراف القوى الغربية الكبرى، وهو ما يجعل مواقفها إزاء قضايا المحيط الدولي مرنة إلى حدّ ما، وتحاول الموازنة ما بين مواقفها التقليدية من جهة، وعدم الدخول في صراعات مبكّرة مع هذه القوى من جهة ثانية.
وأكثر من ذلك، الإشكالات والتحديّات الداخلية الكبرى، التي واجهت دول الحراك، التي وصلت فيها التيارات الإسلامية إلى الحكم، كما هو الشأن بالنسبة إلى تونس، والمغرب، ومصر، أخذت النصيب الأوفر من اهتماماتها، ولم تسمح ببلورة مواقف على قدر من الأهمية تجاه الغرب، وقضايا خارجية أخرى؛ بل إنّ بعض هذه الحركات قامت بمراجعات مهمّة إزاء قضايا داخلية وخارجية تحت محكّ العمل الحكومي.
عبد الصمد صابر: هل للغرب يدٌ فيما يجري في دول "الربيع العربي"، ولاسيّما ليبيا، وسورية، واليمن، من مآسٍ؟
د. إدريس لكريني: الحديث عن العامل الخارجي لا ينبغي أن يسقطنا في نظرية المؤامرة في تفسير الحراك؛ لأنّ في ذلك تنكُّراً لحقائق ومعطيات موضوعية وواقعية، ولد معها الحراك ولادة طبيعية في دول نخرها الاستبداد والفساد.
فالشعوب صنعت الأحداث، والدول الكبرى، من منطلق الحرص على مصالحها، تحاول توجيه الأحداث, وقد تبيّن، في كثير من الأحيان، أنّ بعض القوى الإقليمية والدولية، في سعيها لحماية مصالحها، ظلّت حريصة على دعم الاستبداد بكلّ الوسائل الاقتصادية، والمالية، والتقنية، والعسكرية، وهو ما تأكّد في الحالة السورية مثلاً.
كما أنّ ربط الارتباكات والانحرافات القائمة، حالياً، في عدد من دول الحراك، هو، في حدّ ذاته، تصريف لمسؤولية القوى والنخب المحلية في هذا الشأن، والواقع أنّ التدخل الدولي يبدأ عندما يفشل الفاعل الداخلي في تدبير الخلافات والأزمات بصورة بنّاءة، تسمح بتحصين الذات.
وعموماً، أثبت مسار الحراك ضعف الدعم الغربي للتحوّل في المنطقة، مقارنة بحضوره في تجارب أوروبة الشرقية؛ لاعتبارات ذاتية مرتبطة برفض هذا التدخل رسمياً وشعبياً في المنطقة، وأخرى تتعلّق بالتلكؤ الغربي والأمريكي الحاصل في هذا الشأن.
عبد الصمد صابر: كيف ترون مستقبل الحوار بين الغرب والإسلام؟
د. إدريس لكريني: يُعَدُّ الصّراع، واختلاف الآراء والثقافات، أمراً طبيعياً في العلاقات بين الدول والمجتمعات؛ بل حتى داخل المجتمع الواحد نفسه، وتقوم الديمقراطية، في أحد جوانبها، على تدبير الخلافات والأزمات بصورة راقية وسليمة بعيدة عن العنف، ما يسمح بالتعايش، والتسامح، والقبول بالرأي والرأي الآخر.
ويُعدُّ الحوار المدخل المناسب للتقريب بين وجهات النظر، وتلطيف الأجواء، ويجد الحوار أساسه في التشريعات الدينية، والقوانين المحلية والدولية، التي تدعم التواصل بين الناس، وتحفّز على السعي لحلّ مختلف المشكلات والقضايا الشائكة عبر التواصل والنقاش البنّاء، بعيداً عن كلّ مظاهر التعصّب، والعنف، والإقصاء.
والواضح أنّ تشابك العلاقات الدولية، نتيجة لتزايد الاعتماد المتبادل، وتعقّد المصالح بين مختلف أشخاص القانون الدولي، جعل من مواجهة الكثير المخاطر الآخذة في التطوّر (أمراض خطيرة، وتلوث للبيئة، وإرهاب، وتهريب...) أمراً ملحّاً لما تفرضه من تحدّيات أمام جميع الدول، في ظرفية لم تعد فيها الحدود الجغرافية والسياسية حصناً منيعاً للاحتماء من تداعياتها.
وأعتقد أنّ الوعي بخطورة هذه التحديات على الإنسانية جمعاء سيعزّز من إمكانية الحوار والتواصل بين مختلف الحضارات، لمواجهة تحدّيات مشتركة، ومصير إنساني واحد، وسيشكّل عاملاً داعماً على هذا الطريق، غير أنّ ذلك لن يتأتّى بالشكل المطلوب إلا مع توافر مجموعة من الشروط، التي تجعل الحوار ممارسة مألوفة، وبنّاءة، ومتوازنة.
* مدير مجموعة الأبحاث والدراسات الدولية حول إدارة الأزمات، في جامعة القاضي عياض، في مراكش- المغرب.