الدين والعلم الحديث
29 أغسطس 2014 بقلم
عبد الله المتوكل قسم:
الفلسفة والعلوم الإنسانية حجم الخط
-18
+ للنشر:ترجمة عبد الله المتوكل عن مقال "الدين والعلم الحديث" للباحث الكندي جون غرودان
إذا كانت الفلسفة لا تجد أدنى صعوبة في الاعتراف بأنّ الدين يقدم أجوبة قوية عن معنى الوجود، فهي تعرف أيضاً أنّ هذه الأجوبة قد فقدت اليوم بداهتها. غير أنّ هذا الحكم يبقى نسبياً، ذلك أنّ حقبتنا هي أيضاً حقبة انبثاق الديني من جديد، في أشكال متعددة، رغم التنبؤ الخاطئ الذي سبق أن بشّر بقرب عهد أفوله: فهناك الصعود المتنامي للنزعات الأصولية، والترويج الإعلامي للباباوات وللشخصيات الدينية الكبيرة، وتكاثر النِحَل الروحانية ذات الطابع الانتقائي التركيبي spiritualités éclectiques، وعودة الديني في بلدان الغرب (وفي الصين أيضاً) التي كانت مطبوعة بهيمنة الإلحاد، واستمرار طرح الأسئلة الدينية الكبرى وشيوع الاعتقاد في البلدان المتقدمة (في استطلاع للرأي أجري سنة 2008 قال 92% من الأمريكيين إنّهم يعتقدون في وجود الله).
عندما نقول عن الدين إنّه فقد بداهته، فلأننا نقيسه على ضوء معرفة تجريبية وعلمية فرضت نفسها في الأزمنة الحديثة باعتبارها الطريق المفضل، إن لم يكن الوحيد، المؤدي إلى الحقيقة، والتي لا يمكن للدين، الذي تعتبر أصوله أعرق وأقدم من العلم، إرضاء متطلباتها. يتضمن الدين عناصر الإيمان والسنة والطقوس، ويبدو أنّ وجوده تمليه حاجات ذاتية ويحيل إلى ما لا يمكن البرهنة عليه. وهي عناصر تنسف مصداقيته في نظر العلم الحديث. إنّ الدين وهو يحافظ على قوته التي تشكل جزءاً من أسراره، أصبح، أكثر فأكثر، مسألة ذات طابع إشكالي في نظر الفلسفة.
إنّ الوعي التاريخي للقرنين الأخيرين، مع ما تضمنه من اندفاعة قوية للنزعة النسبية، قد ساهم بدرجة كبيرة في إضفاء هذا الطابع الإشكالي على الدين: لم يسبق من قبل أن حصل لدينا هذا الوعي بكثرة الديانات وتنوع أصولها الثقافية والتاريخية (تم إحصاء ما يربو على 10000 طائفة دينية في الفترة الحالية). ومن نتائج ذلك إضفاء طابع نسبي على رسالة الدين ذاتها: كيف يمكن، في خضم هذا التنوع، أن ندافع على كون ديانة بعينها هي التي تجسد الطريق المفضل للخلاص؟ إنّ الديانات التي تقوم بذلك، أي تلك التي يدعو تقليدها وسنتها إلى التأكيد على وحدة الوحي التي تستند عليه وعلى طابعه فوق الطبيعي، تجازف بأن تظهر بمثابة ردود فعل متشنجة ويائسة إزاء هذه النسبية التاريخية التي يصعب إنكارها.
منذ مدة ليست بالبعيدة أصبح هناك حديث كثير عن "التجربة الدينية"، وذلك بفعل التأثير المتصاعد الذي يمارسه النموذج العلمي. غير أنّ العلم يميل إلى النظر إليها باعتبارها شكلاً ضعيفاً من المعرفة، يرتبط بالاعتقاد أو "الرهان" حسب تعبير باسكال. لكن الحديث عن الرهان، يعني، مسبقاً، افتراض نموذج رياضي عزيز على العلم الحديث، نموذج حساب الاحتمالات، وهو ما كان باسكال يدركه: فبالنظر إلى الحياة الخالدة التي تنتظرنا وقصر مدة الحياة الدنيا، من الأفضل أن نراهن على الإيمان الذي يمنحننا، في الوقت ذاته، طمأنينة في هذه الحياة ووعداً بسعادة أبدية في الحياة الأخرى، لا يمكن لأشكال السعادة التي نأملها في هذه الحياة العابرة أن تقارن بها، يقول باسكال: "هكذا تقوم قضيتنا على قوة غير محدودة متى كان ما نخاطر به متناهياً [...] وما نتوخى ربحه غير متناهٍ". واضح أنّ هذا الرهان يندرج، ضمنياً، في إطار العلم الحديث مع ما يتطلبه من حساب ومردودية؛ يُؤخذ الدين هنا بمثابة "فرضية" (علمية) يتبناها البعض لأنها تستجيب لحاجاتهم، بينما يستبعدها آخرون لأنها لا تستجيب لمعايير العلم، وهكذا أصبح الدين يظهر كمسألة خاصة أو ذاتية ترتبط بأذواق كل فرد أو برهاناته، في حين أضحت المعرفة "الموضوعية" للواقع من اختصاص العلم وحده.
1- النزعة الاسمية للعلم الحديث
إنّ أفق الفكر، الذي فرض ذاته مؤخراً والذي يرى في الدين مجرد بناء ثقافي ينضاف إلى واقع وحده العلم قادر على معرفته، هو أفق النزعة الاسمية التي تقدم نفسها باعتبارها جواباً على السؤال الذي يتوخى معرفة ما يوجد واقعياً: أن "يوجد" الكائن"، في عُرفها، هو أن يوجد في الواقع وجوداً مادياً ملموساً وإلا فهو غير موجود. أي أن ينبثق واقعياً في المكان، وتشهد على وجوده حواسنا، وتثبته وسائل القياس. فعلى سبيل المثال، هذه الطاولة أو هذا الكتاب يوجدان لأنني أراهما ماثلين أمامي. هذا التصور للوجود الحديث العهد نسبياً خاص بالنزعة الاسمية. فهي تسلم أنه لا وجود إلا للوقائع الفردية المادية القابلة للإدراك في المكان والزمان. وهكذا تبعاً لهذه النزعة، فالطاولات وفاكهة التفاح موجودة، في حين أنّ القارن licorne
* والملائكة أو البابا نويل غير موجودة، إذ هي مجرد أوهام وتخيلات. أمّا المفاهيم الكلية فلا وجود لها أيضاً، ما هي إلا أسماء ( nomina، ومن هنا أتت تسمية هذه النزعة) تصلح للإشارة إلى مجموعة من الكيانات الفردية التي تتميز بخصائص مشتركة، والتي يكون كل واحدٍ منها قابلاً للملاحظة في فردانيته بمعزل عن الكيانات الأخرى.
[2] إننا هنا أمام رؤية واضحة للأشياء، أصبحت تحدد فكرنا بطريقة قوية، والتي غالباً ما ننسى أنّ الأمر معها يتعلق بتصور خاص للوجود، يمنح الأولوية القصوى في الكائن للوجود الفردي والعرضي.
غير أنّه يوجد تصور آخر للوجود أقدم من هذا الذي عبّرت عنه النزعة الاسمية، التي تبلورت ببطء ضده، وأصبحت تنظر إليه باعتباره غريباً عن عصرنا الذي هيمنت فيه بدون منازع. إنه التصور الذي يفهم الكائن، ليس باعتباره وجوداً فردياً، بل بما هو تجلٍ لماهية ذات بداهة أولية. وهو ما يبدو لنا مستبعداً لأننا تعودنا على النظر إلى الماهية باعتبارها تأتي بعد الوجود الفردي وتنضاف إليه بواسطة عملية التجريد. هذا التصور الذي ظهر مع فلاسفة اليونان، خاصة مع أفلاطون، يرى أنّ الفردي لا يملك إلا واقعاً من درجة ثانية. فهو ثانٍ بالنسبة إلى البداهة الساطعة للماهية (أو النوع، مادام أنّ كلمة eideos اليونانية تحيل أيضاً على هذا المفهوم) الذي يمثلها: هكذا، مثلاً، فكائن بشري ما أو شيء جميل، ليس كل واحد منهما إلا تجلياً (زائلاً) لماهية أو نوع. إنّ الماهية كما يشير إلى ذلك اسمها (esse)، تتضمن الكائن الكامل، لأنّه يتمتع بوجود دائم مقارنة مع وجود الكائن العرضي.
هذا التصور الذي يبدو اليوم غريباً، قد واكب الفكر الغربي إلى حدود نهاية القرون الوسطى. وقد صدرت الانتقادات الأولى الموجهة إليه من طرف الكتّاب الذين نُعتوا بالاسميين، وعلى رأسهم غيوم أوكهام (نهاية القرن 13- 1350). ولعل ما يبعث على السخرية، أنّ حافزه على هذا النقد، كان قبل كل شيء لاهوتياً: فقد اعتقد أوكهام أنّ قوة الله الواسعة التي كانت من الموضوعات الأساسية التي اهتم بها الوعي اللاهوتي في القرون الوسطى المتأخرة، تبدو غير متلائمة مع نظام خالد لماهيات يأتي ليحد من هذه القدرة. فإذا كان الله مطلق القوة، فيمكنه في كل لحظة زعزعة نظام الماهيات هذا، ويجعل الإنسان قادراً على الطيران وأشجار الحوامض منتجة للتفاح. فالماهيات في نظره ليست إلا أسماء خاضعة لنقده الهدام الذي شُبه بالشفرة rasoir، وتبعاً لذلك، أصبحت عبارة "شفرة أوكهام" مثلاً مأثوراً يحيل إلى الدور الحاسم الذي لعبه في التمهيد للعصور الحديثة.
هذا التصور الاسمي للوجود تعرض بدوره في فترة أوكهام لعدة انتقادات (من بينها أنه يبدو غير متلائم مع عقيدة سر القربان حيث تعتبر مسألة تحول الماهيات أساسية)، لكنه انتهى ببطء وبخطى ثابتة إلى الهيمنة في العصر الحديث، إلى درجة ألغى معها بصفة تامة التصور الآخر للوجود ذي الأصول الأفلاطونية. وهكذا لم تعد توجد بالنسبة للحداثة إلا الكيانات الفردية والمادية. ومعرفة هذه الوقائع لا تعني أبداً معرفة الماهيات، بل رصد انتظامات أو قوانين في قلب هذه الوقائع الفردية المعتبرة بمثابة وقائع أولية. وقد اخترق هذا التصور كل مناحي العلم الحديث. والحالة هذه، فليس من المدهش أن نلفيه مهيمناً في فكر الحداثة "السياسي"، حيث أضحت رِفعة الفرد تفرض ذاتها أكثر فأكثر باعتبارها الواقع الوحيد الأساسي.
تسير هذه النزعة جنباً إلى جنب مع الاهتمام الذي يوليه العلم الحديث لما هو مباشر وقابل للملاحظة. والمفاهيم والأفكار التي كانت تهُم العلم التقليدي أصبحت موضع شك وبدون قيمة. بل حتى العلوم الإنسانية التي أصبحت "اجتماعية"، وهي تقتفي أثر هذه السيرورة، هي في حاجة إلى وضعيات فردية قابلة للملاحظة مكانياً. وذلك لأنّ الأفكار لم تعد بمثابة تجليات للكائن بل وقائع اجتماعية، يُعتقد أنّ بالإمكان أن تكون موضوع ملاحظة اختبارية. واضح أنّ العلوم الإنسانية تستنسخ هنا تصوراً للكائن مأخوذاً عن علوم الواقع الفيزيائي (الذي أصبح يُختزل إليه كل كائن).
هكذا يتضح أنّ هذه النزعة مخربة للدين ولإمكانية فهمه فهماً سليماً. ولعله من باب تحصيل الحاصل القول إنّ الوقائع الدينية ـ وجود الإله على سبيل المثال- تتخذ طابعاً إشكالياً في إطار النزعة الاسمية: هل يوجد الله في الواقع وجوداً مباشراً وملموساً على نمط وجود تفاحة أو نملة؟ ومادام الجواب بالنفي، فالله غير موجود بالنسبة لتيارات الحداثة المطبوعة بهذه النزعة، أو لا يوجد إلا في توهمات الخرافة.
إنّ التصور الذي كان ينظر إلى الكائن باعتباره تجلياً للماهية، ومهما بدا اليوم غريباً، لم تكن تعترضه مثل هذه الصعوبات، لأنّ الوجود الفردي في منظوره عرضي وتابع لوجود أسمى منه، وبالتالي فوجود الإلهي لم يكن يطرح في حد ذاته أي مشكل، باعتباره وجوداً أولياً. أمّا بالنسبة للإيمان فلم يكن مسألة مرتبطة بالاختيار الشخصي للفرد، بقدرما كان يعني معانقة المرء لبداهة الماهية الإلهية واستشعار ما يغمره من حضور وسخاء إلهيين. وهذا الإيمان، بما هو هبة إلهية، لا علاقة له بذلك الذي يأتي نتيجة الاختيار الشخصي.
لا يمكن لفلسفة الدين أن تتجاهل هذا الأفق الاسمي للعلم الحديث، الذي يجعل من الدين مسألة جد إشكالية. لكنها تعرف أيضاً أنّ الدين أقدم من العلم ( وأنه، بنظرته إلى العالم ككسموس محكم التنظيم، قد ساهم في ظهوره عند اليونان)، وأنه، منذئذ، مارس تعليمه باستقلال عنه. كما أنها تعرف أنّ الأشكال الدينية القديمة مازالت تتمتع بحيويتها في عصر العلم، في حين نجد أشكالاً أخرى من المعرفة، من التجربة أو الإيمان التي توصف بأنها قبل علمية، قد اختفت في هذا العصر: ربما أنها ما زالت موجودة هنا أو هنالك، لكن بعض الممارسات، مثل علم التنجيم أو السيمياء، قد اختفت تقريباً. طالما اعتقدت الحداثة، وربما مازالت تعتقد أنّ المصير نفسه ينتظر الدين، غير أنّ هذا لم يحصل. فالدين ما زال يشكل أحد الأبعاد الحيوية والقوية للوجود الإنساني. إنها لمدهشة هذه الحيوية التي يتمتع بها الدين في العالم المعاصر، حيت نجد أنّ كبار الزعماء الأخلاقيين، مثل غاندي والبابا بولس الثاني مروراً بمارتن لوثر كينغ وأوليي فييزل Elie Wiesel وأوسكار روميرو والدايلي لاما والأم تيريزا والقس بيارL’abbé Pierre، هم في الغالب شخصيات دينية مُلهِمة. إلى ماذا تعود قوة الدين هذه، والتي لا تفتأ أحداث الساعة تؤكدها؟ أقل ما يمكن قوله، هو أنّ هذه القوة تشهد على تجربة في الحياة تتجاوز الإطار الضيق للنزعة الاسمية.
سنتناول فيما يلي سؤالاً يتضمن اليوم في ثناياه كلّ فلسفة الدين.
2- هل تجاوز العلم الحديث الدين؟
من الواضح أّنّ العلم قوّض العديد من التصورات الدينية للعالم: العالم لم يخلق في ستة أيام (بل في جزء صغير من الثانية)، والإنسان العاقل ينحدر من القرد القريب منه وراثياً، وجاليلي كان على صواب. وممّا لا جدال فيه أنّ نزعة العالم الحديث اللاأدرية، إن لم تكن معها نزعته الإلحادية، هي مطبوعة بالتصور العلمي للعالم، الذي لا يمثل الدين في منظوره إلا شكلاً من الخرافة من المفيد للإنسانية تجاوزه.
ومع ذلك، فممّا لا شك فيه أنّ الديانات حافظت على وجودها في العالم الحديث "رغم كل شيء". باسم العلم الحديث كان الفلاسفة قد نعوا الدين واعتبروه مهجوراً ووهمياً بل خطيراً. وهو الحكم الذي مازال بعض الكتّاب يرددونه من حين لآخر. لكل واحد الحرية في أن يرى في الدين مجرد بقايا سذاجة خرافية، لكن استمرار وثبات الديني هو أمر واقع. والإيديولوجيات التي أرادت أن تحل محله، ومن بينها الماركسية، هي التي شاخت بطريقة سيئة. وهيجل كان على صواب عندما قال إنّ على المرء التفكير ملياً إذا رام معارضة سلطة الدين بسطلته، لأنه يواجه سلطة معترف بها كونياً.
يمكن أن نستحضر شهادة العلماء أنفسهم الذين باسمهم يزعم هذا الخطاب المناهض للدين الحديث. لن نثير هنا إلا حالة ألبير أينشتاين، لأنه، من جهة ذائع الصيت، ومن جهة أخرى، لأنه يمثل أحد العقول العظيمة في تاريخ البشرية. وقد زكّته مجلة التايمز مؤخراً باعتباره الشخصية الأكثر تأثيراً في القرن العشرين بل في الألفيتين السابقتين. فقد قال في نص شهير وواضح، ولكنه غير معروف: "أؤكد أنّ الشعور الديني الكوني هو الحافز الأقوى والأنبل للبحث العلمي". إنه نص محير وغير منتظر في رأي البعض، لكنه لم يصدر عن آخر من التحق بكوكبة العلماء، ولا عن الكائن الأتقى في العالم (كان أينشتاين يهودياً، قليل الاهتمام بممارسة الشعائر الدينية، بل لا يمارسها إطلاقاً). وقد شرح فيما بعد معنى هذا الشعور الديني الكوني قائلاً: "إذا كان فيّ شيء مما يمكن تسميته "بالديني"، فسيكون هو إعجابي اللامحدود ببنيات الكون التي يكشف عنها العلم قدر المستطاع".
هذا الاقتناع بوجود "عقل أعلى ينكشف في عالم التجربة" يعبر بالنسبة إليه عن "فكرة الله". في كتابه كيف أرى العالم 1934، لم يتردد في التأكيد على "أنّ العلم بدون الدين هو أعرج، والدين بدون علم هو أعمى". لكن إله أينشتاين ليس بالإله الذي يهتم كثيراً بمصير البشر: "أعتقد في إله سبينوزا الذي ينكشف في النظام المتناغم لما يوجد، وليس في إله ينشغل بمصير وأفعال الكائنات البشرية"، (البرقية الموجهة إلى الحاخام غولدشتاين سنة 1929). ويشرح ذلك في الكتاب السابق، كما يلي: "لا أستطيع تخيل إله يجازي ويعاقب مخلوقاته. ولا يمكنني توهم إله ينظم حياته انطلاقاً من تجربتي الخاصة. ولا أريد ولا أستطيع تصور كائن يستمر في الحياة بعد موت جسده. وإذا ترعرعت مثل هذه الأفكار في عقل ما، سأحكم عليه بالضعف والجبن والأنانية البلهاء".
تكمن أهمية هذه الشهادة في التذكير بأنه من غير الصحيح القول إنّ الدين قد اندحر على يد العلم الحديث (رغم أنّ أينشتاين انتقد ضعف وسذاجة جُلّ المعتقدات الدينية). يمكن أيضاً التذكير بأنّ الذي صاغ فرضية البيغ بانغ كان راهباً كاثوليكياً، هو جورج لوميتر Georges Lemaitre، حتى وإن كان قد أعطاها اسماً آخر. وقد رفض الفلكي فريد هويل (Fred Hoyle (1915-2001 هذه الفكرة التي تسلم بأنّ الكون هو في تمدد متنامٍ منذ انبجاسه المفاجئ نتيجة انفجار عظيم، واعتبرها مدعاة للسخرية. وقد انتهى هذا التعبير الذي أُطلق في البداية بغرض التهكم** على هذه الفرضية، إلى نيل قبول المجموعة العلمية.
لن ندخل هنا في جدال مع أفكار أينشتاين أو لوميتر، بل نستخلص منها أنّ العديد من خيرة العلماء لا يستبعدون كل منظور ديني. لكن من المهم التأكيد على أنهم لم يقوموا بذلك بصفتهم علماء، أي بالاستناد على نتائج بحث ملزمة. فعندما يتحدث أينشتاين عن الشعور الديني الكوني يقوم بذلك باعتباره فيلسوفاً، وبالتالي فهو يمارس فلسفة الدين وليس العلم. لكن من اللازم أيضا النظر في ما يقوم به العديد من العلماء الأكثر تأثراً بالنزعة الاسمية، والذين يعتقدون أن العلم قد رمى في سلة المهملات كل أشكال الدين، باعتبارها نوعاً من الخرافة. فليس هناك اختلاف كبير، في نظرهم، بين السيونتولوجيا la scientologie*** والإسلام والمسيحية: ففي جميع هذه الديانات والنِّحل يتعلق الأمر بتصورات خاطئة حول الواقع، تفرض ذاتها عن طريق استغلال سذاجة الناس.
هنا أيضاً، يتجاوز العالِم مجال كفاءاته المتمثلة في اكتساب معارف قابلة للبرهنة بطريقة منهجية في حقل معرفي معين. هناك دروس ثمينة يمكن لفلسفة الدين أن تأخذها عن العلماء الملاحدة أوالمؤمنين واللاأدريين، لكن عليها أن تذكرهم بأنّ النتائج الميتافيزيقية التي يستخلصونها من اكتشافاتهم العلمية، متباهين بوضعيتهم كعلماء، لا ترتبط بالعلم، بل بحقل فلسفة الدين الذي سنقوم بالتقديم له في الفصل القادم.