بل إنَّ سعيداً، الذي يميّز بين الاستشراق
الثقافي الأكاديمي، بوصفه حقلاً معرفياً وتصوراً متكاملاً بنته أوروبا عن
الشرق، وبين مؤسسة الاستشراق، بوصفها أداة توسّع أوروبي نحو الشرق وقوة
مادية فاعلة في هذا الاتجاه، إنّما يجعل الاستشراق الثقافي الأكاديمي ذلك
المصدر الذي نبعت منه مؤسسة الاستشراق وليس العكس. وهذا ما يدفع سعيد، كما
يذكّرنا العظم، لأنْ يرى أن (فكرة قناة السويس)، على سبيل المثال، هي نتيجة
منطقية لفكر الاستشراق وجهوده أكثر بكثير من كونها نتيجة طبيعية للتنافس
الفرنسي الإنكليزي على بناء الإمبراطورية والحفاظ عليها عبر الهيمنة على
الشرق. وبالمقابل، فإنَّ هذا ما يدفع إعجاز أحمد إلى التذكير بالبديهة
القائلة إنَّ تواريخ الاستغلال الاقتصادي، والقهر السياسي، والفتح العسكري،
هي التي تلعب الدور الأساسي التكويني في خلق الشروط التي تمكّن من قيام ما
يدعوه سعيد (الخطاب الاستشراقي) وليس العكس.
وكما كانت لافتةً محاولةُ الجمع بين فوكو وأورباخ، فإنَّ تناول سعيد لمسألة
التمثيل ومدى اقترابه من الحقيقة أو ابتعاده عنها هو لافتٌ بالمثل. فنحن
نقرأ في لحظةٍ أنَّ كتاب (الاستشراق) حاول أن يبيّن (أنَّ الإسلام قد أُسيء
تمثيله في الغرب...)، لكننا نقرأ في الصفحة التالية مباشرةً أنَّ فكرة
سعيد بأكملها عن منظومة الاستشراق (ليست أنّها إساءة تمثيل لضرب من الجوهر
الشرقي...). غير أنَّ الأخطر هو السؤال الأساسي الذي يطرحه سعيد بين هاتين
الجملتين عمّا (إذا كان يمكن أن يوجد تمثيل حقيقي لأيّ شيء على الإطلاق، أم
أنَّ جميع التمثيلات بلا استثناء، وبسببٍ من كونها تمثيلات، تغور بعمق في
لغة الممثِّل أولاً ثمَّ في ثقافته ومؤسساته وجوّه السياسي. وإذا ما كان
البديل الثاني هو الصحيح (كما أؤمن) فإنَّ علينا أن نكون على استعداد لقبول
حقيقة أنَّ أيّ تمثيل هو، بحكم طبيعته، متورط، متشابك، منسوج مع عدد كبير
جداً من الأشياء الأخرى إلى جانب (الحقيقة) التي هي، بدورها، مجرد تمثيل).
هكذا يدخل سعيد العالم النيتشوي الذي ينفي إمكانية قيام أيّ تمثيل حقيقي أو
التفوّه بأي أقوال صادقة، بل حيث يسود الشكّ بوقائعية الوقائع ذاتها. وهذا
ما قيّض لسعيد أن يكون مثالاً يدفع عدداً كبيراً من المؤرّخين والنقّاد
والباحثين حول العالم لوضع كلمة (واقعة) بين قوسين يشكّكان بوجودها في ضرب
من اللاعقلانية الحديثة التي استشرت وغدت موضةً رائجة.
وإذْ يأتي سعيد إلى علاقة العقل الفردي باللغة المؤسسية الرسمية التي هي
لغةٌ جمعية أو لغة الجمع، نجد أنّه يصوغ للفكر ما يبدو كأنّه قانون عام
مفاده أَن (ليس في وسع أي باحث (...) أن يقاوم ضغوط أمته، أو ضغوط التقليد
البحثي الذي يعمل في سياقه). فحتى لو تمكّنت عبقرية فردية، مثل ماسينيون أو
ماركس، من الخروج على الثقافة السائدة، التي يراها سعيد على أنّها ثقافة
الأمّة التي تحتلّ كامل الفضاء الثقافي دون أن تتيح مجالاً لوجود ثقافة
نقيضة، فإنَّ الفرد لا يلبث أن يعود لينسحق في الأمّة التي تظلّ باقيةً في
استمراريتها كأنّها مطلق يتجدّد. ألسنا أمام تنويع من تنويعات الفكر القومي
الذي يتعزّز بواقعة أنَّ كتاب (الاستشراق) لا يتفوّه بكلمة عن أيّ خطأ من
طرفنا، حيث تبدو جميع آثامنا وجرائمنا أمراً باهتاً بالمقارنة مع تلك القوى
التي جعلتنا ضحايا ودفعت بنا إلى الدرك الأسفل، نحن أصحاب البراءة الأصلية
الدائمة كما يروق لتلك الأشكال العاطفية المتطرفة من قوميات العالم الثالث
أن تصوّرنا؟
تبعاً لهذا المنطق الأخير، وبعد أن أعطى سعيد (الخطاب الاستشراقي) كلَّ هذا
المدى التاريخي وكلَّ هذا التسيّد، ربما كان من تحصيل الحاصل، عند تعامله
مع دانتي وجحيمه، أن ينتزع تمثيلات دانتي من سياق إنتاجها، ضمن خطاب
الثنائيات المسيحية التي تقابل بين الإيمان والبدعة وضمن بدايات النهضة
التي راحت تترك أثرها على هذه الثنائيات، ليعيد وضع هذه التمثيلات في خطاب
الاستشراق المختلف تماماً، مهملاً أنَّ دانتي يضع ابن رشد على قدم المساواة
مع سقراط وأنَّ المعاملة التي يلقاها ابن رشد في خيال دانتي لم تكن أسوأ
من المعاملة التي لقيها في الحياة العادية من قِبَل سلطات زمنه العربية
المسلمة التي أمرت بنفيه وحرق كتبه.
أمّا ماسينيون، وعلى الرغم من عجزه في النهاية عن مقاومة ضغوط أمته بحسب
منطق سعيد، فإنّه يظل (بطل) كتاب (الاستشراق). حيث يصف سعيد إسهامه بأنّه
(الأعظم) في مجال الدراسات الشرقية، نظراً لمقاربته الشرق تلك المقاربة
التي تقوم على (حدس فردي ذي أبعاد روحية) مما تفرّد به ماسينون فتماهى مع
روح الشرق وأمكن له أن يتجاوز بنية الفكر الاستشراقي. مع أنَّ سعيداً نفسه
يعلم أنَّ ماسينون كان قد حمل معه بضاعة الاستشراق التقليدية الفاسدة
كلّها، وكان يطابق الشرق مع عالم أهل الكهف والأدعية الإبراهيمية وينظر إلى
القضية الفلسطينية على أنّها نزاع بين إسحق وإسماعيل، فضلاً عن أنَّ
مشورته كانت مطلوبةً على نطاق واسع كخبير في الشؤون الإسلامية، من جانب
الحكومات الاستعمارية. ولعلَّ الذي أراح سعيد لتأويلات ماسينون
الميتافيزيقية الصوفية هو انسجامها، كما يقول العظم، مع نزعات سعيد
المثالية عموماً على المستوى الإيديولوجي والذاتية النسبية على المستوى
الإبستمولوجي.
الأحد يونيو 27, 2010 3:55 pm من طرف سميح القاسم