02 مارس 2015 بقلم
محمد نور الدين أفاية قسم:
الدين وقضايا المجتمع الراهنة حجم الخط
-18
+ للنشر: كل اكتشاف تقني حصل في التاريخ إلا وكانت له تداعيات على السلوك والمواقف والقيم الثقافية. هذا ما يؤكد على ملاحظته "ريجيس دوبري"، مؤسس الميديولوجيا
[1]. والغموض الذي يحيط بالحديث عن تكنولوجيا الإعلام والاتصال في علاقتهما بالمفهوم الجديد لإنتاج المعرفة في حاجة إلى الكشف عنه وتدقيق سياقاته الاستعمالية. إذ كثيرًا ما يلتبس على الناس الإعلام بالمعرفة، والأحاديث، بل والكتابات الكثيرة حول الموضوع نادرًا ما تراعي ضرورة التمييز بينهما. فليس ولوج المعلومات مرادفًا لولوج المعرفة. وامتلاك معلومة لا يعني بالضرورة استبطان معرفة، ويزداد الغموض غموضًا حين تقترن المعلومة بالمعنى. يتطفل مهندسو المعلوميات على الدلالات، في الوقت الذي يتعين أن تقتصر وظيفتهم على التقنيات والأشكال. هنا يغدو الالتباس سيد الموقف.
ينطبق الأمر نفسه على ما يحدثه ضجيج الفضائيات والمواقع الإلكترونية، إذ كرسوا الخلط بين الاطلاع على الحدث والتوهم بفهم خلفياته وأبعاده ومعانيه، ومهما بذل الصحفي أو رجل الإعلام من جهد، ومهما كانت نوعية معالجة الحدث، فإن الإعلام يصل إلى مستوى يجد نفسه عاجزا عن إبراز معنى الحدث
[2]، في الوقت الذي ينتظر من وسائط الاتصال تقريب الناس في ما بينهم، أو على الأقل تسهيل الاقتراب بينهم وفهم الحدث. تتمثل وظيفة التواصل، مبدئيا، في الحد من المسافات، إلا أن هذه المسافات- وهنا تتجلى إحدى مفارقات الإعلام والاتصال- تقاوم عملية الاختراق بأشكال لا نتوقعها.
يلاحظ نفس الأمر على تقنيات "الوسائط المتعددة" والثورة الهائلة التي أحدثتها بإدماج المكتوب، المصور والمسموع. وقد غيرت هذه التقنية كثيرا من العادات ومن أساليب البحث، والتدريس والتعلم. فالقدرة اللامحدودة على تخزين أكبر قدر ممكن من المعلومات والمعارف شجعت مؤسسات التربية والتكوين على ضرورة إدخال تعليم فن وطريقة الإبحار في عالم المعرفة، غير أن هذه الحجة بقدر ما تمتلك من عناصر الإقناع والإبهار تنسى أن هذه التقنية تعزز الخلط، مرة أخرى، حول التصور الذي أصبحت هذه الأدوات التقنية تعطيه للمعرفة، إذ أصبحت عبارة عن "خزان معلومات رقمية" متوفرة بفضل الطرق السيارة للمعطيات.
يتعلق الأمر بفتوحات تقنية لا غبار عليها، لكن مؤرخي التربية والبيداغوجيا أصبحوا يلاحظون بأن تخزين المعارف لا يعني، إطلاقا، القدرة على اكتسابها، وبالخصوص على استبطانها بوصفها معرفة محصلة، فضلا عن أن أبناك المعطيات والمعلومات ليست في متناول كل الناس؛ إذ لا يمكن حصر عمليات التربية واكتساب المعرفة في تقنيات ولوج مخزونات المعلومات، وإنما في طرق صياغة الأسئلة الجوهرية المرتبطة بالرغبة أو بإرادة المعرفة. الانتقاص من هذا الشرط الوجودي في التعامل مع التقنيات الجديدة هو نتاج تمثل طوباوي للإنسان، باعتباره كائنًا بدون حميمية أو فاقدًا للرغبة، ومجرد بارع في تدبير المعلومات التي تأتيه من الخارج من خلال شبكات أو مجتمعات شبكية توهمه بأنها تمتلك ما يكفي من شروط خلق نمط حياة خاص مصطنع، أو متوهم أو متخيل. المهم أنه ينخرط في كون افتراضي ينتج واقعه الذي لا علاقة له بالواقع، ويتقاسم معلومات أو أنواعًا من المعارف مع فئات هامشية، أو مهووسة بالتفاعل الشبكي.
المسألة الثانية التي تثير انتباه القارئ للأدبيات المحررة حول "مجتمع المعرفة" أو "مجتمع التواصل" تتمثل في بث ونشر "طوبي" عن التواصل في سياق يتميز بفراغ إن لم نقل بغياب أي حس نقدي يقظ. فسلطة وسائط الاتصال، ونجاعة تكنولوجيا المعلومات، والثورة الرقمية مقترنة باختيارات ليبرالية، يتم استعراضها بوصفها دليلا على نضج في السياسة سمح بإقامة طرق سيارة للمعلومات والمعطيات ستشكل، بالتدريج، أسس "مجتمع تواصلي" مستقبلي رائع. غير أن "لوسيان سفيز"
[3] وكتابات "جان بودريار" أو "بول فيريليو"
[4] أو نصوص "ريجيس دوبري"
[5] أو دومينيك فولتون
[6] وآخرون يقترحون فرصًا للتأمل النقدي حول هذه الطوبى، حتى ولو كانت هامشية قياسًا إلى حمى الأحاديث عن مجتمع التواصل والمعرفة.
لا يتعلق الأمر بصراع بين "عشاق التقنية" ومن يكن لها العداء، أو أن يوضع المرء أمام معادلة أن تكون مع أو ضد المجتمع الشبكي والثورة الرقمية. ليس الأمر كذلك البثة، ولا يتعين السقوط في هذا الفخ. لأن المعرفة، كما رأينا، ليست مجرد شعار، أو يمكن اختزالها في أبناك معلومات أو في اعتبارات كمية. المعرفة استثمار متعدد قصد خلق فرص المتعة والرضا والتحرر بالنسبة للفرد وللجماعة. لذلك، يفترض التمييز بين الأدوات والأجهزة التقنية وبين طبيعة الاستعمال، وبالأخص المعاني التي ينتجها مجتمع ما حول الأدوات وطرق استعمالها.
فالدعوات إلى إقامة "مجتمع المعرفة" والاشتراك في المجتمعات الشبكية لا تعني استبطان واستنبات ثقافة عقلانية في مؤسسات وأنسجة المجتمع ككل، بل كثيرًا ما توحي هذه الدعوات بنوع من الحداثة المزيفة التي تقفز على كل شروط ومقومات التفكير الذي أسس الحداثة. فالحضور المتنامي للتقنيات الرقمية، وغيرها في الفضاءات العملية والخاصة لا يؤشر، أوتوماتيكيًا، على استيعاب فعلي للحداثة لسبب جوهري يتمثل في كون الحداثة لا تستقيم في الفكر وفي المجتمع إلا إذا سبقها أو صاحبها مشروع سياسي حديث بالفعل. فطوبى "مجتمع المعرفة" أو "مجتمع التواصل" مسكونة بإقامة "مجتمع منسجم وبدون صراعات، وإقامة عالم إجماعي في الأخير، مضبوط بـ "قواعد لعب" محددة جماعيًا"
[7] لا مجال للصراع في صنع التاريخ أو إنتاج المعرفة، لأن هذا التصور يضع المرء أمام ثنائية الخير (الانسجام في تحديد أهداف مجتمع المعرفة) والشر (الصراع) بدون إتاحة الفرصة لأي بديل تركيبي يقضي بما يسميه فيليب بروتون "الصراع التعاقدي"؛ أي الاعتراف بالصراع الذي لا يمكن تجاوزه مؤقتًا أو التغلب عليه، ولكن يتعين، مع ذلك، التقدم في إطار جماعة فعلية لا تلغي اختلافاتها.
وهو ما ينطبق أيضا على التعامل النقدي مع الخطابات حول مجتمع المعرفة. فالبحث المهووس عن الانسجام أو الإجماع يلغي كل تعبير نقدي. يعمل منظرو "أيديولوجيا التواصل" على استبعاد الشروط المطلوبة لكل معرفة يقظة، من شك، وسؤال، وحكم، ونقد، لأن ذلك، عندهم، "يشوش" على التواصل. فالأمر عندهم تركيب لا يحتمل السلب، لأن "ما هو عقلي هو واقعي"، والعالم يتكون من أهداف يجب تحقيقها، ومن فوضى يتعين إنهاؤها، ولا داعي للدخول في متاهات الصراع ولعبة التوازنات غير المجدية.
إزاء التحولات الكبرى التي يشهدها العالم يلزم تحريك مقومات الفهم للوقوف عند الانعكاسات الفكرية والثقافية للعولمة. فعلى الرغم من "التضخم الخطابي" حول هذا الموضوع وحول "مجتمع المعرفة" و"المجتمعات الشبكية"، والعالم الافتراضي...إلخ ناذرًا ما نعثر على محاولات تفكر في "الوضع التفسيري" للعولمة
[8]. لم يكن هدفنا القيام بذلك، لأن الأمر يفترض مقاربات متعددة الاختصاصات، وفي الحقول التي تعمل العولمة على إعادة النظر فيها، بل وتخلخل أساسياتها.
غير أن الحديث عن العولمة في علاقتها بمجتمع المعرفة وتداعياتها على الهوية الثقافية، سيما في السياق العربي، كثيرًا ما ينسى بأن مجتمع المعرفة يستدعي عقلانية في الاقتصاد وحداثة في السياسة يعتمدان على قيم ثقافية هي التي تحدد نوع الأداء الاقتصادي، ومستوى النشاط الديمقراطي، ونمط التواصل الإنساني. خلقت الثقافة الحديثة المؤسسة الاقتصادية العصرية التي انفصلت عن العائلة والمنزل، وتسير بعقلانية في المحاسبة والتدبير، بهدف ضمان ربح متجدد، وتوسيع مجال الاستثمار، وليس للإنفاق المبالغ فيه في التمتع وفي مظاهر البذخ والاستهلاك، أو استعمال التكنولوجيا الرقمية للتسلية بالدرجة الأولى.
تعطي الثقافة العصرية الأولوية لحقوق الإنسان، ولحرية المبادرة، ولروح الابتكار، وللتربية على التفكير والحرية، وللمسؤولية في السلوك، ولإقامة مجتمع سياسي يعتمد على التعاقد بين إرادات أفراد أحرار. هناك من المجتمعات من آمن أو وطَّن شروط هذه الثقافة في العلاقات الاقتصادية والاجتماعية، وجنى ثمار معجزة نهضة شاملة كان للقيم الثقافية فيها دور محرك. استنبتها في مؤسسات ومدارس ومعاهد وجامعات، تُحضر المنتجين في الاقتصاد والخدمات، والمهن والإدارة، والمعرفة. لا تتأتى هذه النهضة بدون رأسمال اجتماعي يمثل جماع قيم وأخلاقيات ودراية تُكتسب ويتم نقلها في الأسرة والمجتمع، ويتوافق عليها ويتعامل بها في العلاقات والمعاملات، خصوصا إذا استند فيها إلى مقومات "مجتمع المعرفة" من معلومات ومعارف يسهل الحصول عليها وتبادلها، وإلى ثقة ترقى إلى قيمة أخلاقية راسخة في تعامل الأفراد والمؤسسات.
ذلك أنه يمكن لمجتمع أن يُكوِّن الناس في مختلف ميادين المعرفة والمهن والتخصصات، لكنهم لن يكونوا منتجين حقيقيين ما لم يكن مجتمعهم قد تواطأ على قيم اجتماعية من ثقة في التعامل، والتزام بالتعاقد، ووجود بيئة اجتماعية تتيح تدفق المعلومات وأخلاقيات العمل وإتقانه. يتأتى هذا الرأسمال الاجتماعي بالتربية التي توفرها الأسرة، بالتعليم الذي تقدمه المدرسة والجامعة، وبرصيد القيم والسلوك في المجتمع.