الموقف من الغرب.. العزلة أم التواصل؟الخصومة
مع الغرب قد تبذر للتواصل بذوراً قوية، وكثيرة الإثمار الإيجابي في تدافع
الطرفين، ثمّ إنجاب كل منهما بفوائد من خصمه، وقد يفيد منها المسلمون كما
أفاد النصارى الغربيون من خسارتهم في الحروب الصليبية.
وهنا نشير إلى بعض ما يذكره المؤرخون للحروب الصليبية من فوائد جنوها من
الحرب الصليبية، منها الفوائد في مجال العلوم، والتجارة، وحرّية العقل،
والإصلاح الديني، والتواصل بين الأوروبيين، وتعزيز مكانة الدولة، وتجديد
روح الحرب والفداء، والأخوّة الدينية، وانتشار أخلاق المحاربين، وزيادة
السكّان، وتحسُّن أدوات الحروب، وهيجان المغامرات البحرية، والهجرة للآفاق
البعيدة، والبحث في جهات أخرى غير المشرق الإسلامي، حين فشلوا في البقاء
والإمتداد.
ولا أُريد أن يفهم من هذا السياق القياس الحرفي، فالقياس كثيراً ما تخالف
نتائجه هوى مَن يعتمده، ولأن اعتماد منهج القياس يتراجع منذ زمن والمناسب
اعتماد الإستقراء في هذه الحال، الذي كان أنجع منه في تحقيق كثير من مصالح
العباد في العصور الحديثة. ولكن السياق هنا إشارة لسنن التحرك الأُممي
المشاهد من دون التزام منهجية شيء من هذه المدارس، وتنبيه إلى فوائد الصلة
بالناس، فقلما يستطيع إنسان أن يصنع الأفكار بنفسه، ولكن العاقل النبه يحسن
استخدامها، فالأفكار هي ثروة الأذكياء العاجزين، وتطبيقها ثروة مجتمع
العقلاء المنفذين من التجار والزعماء والقادة. وقد كانت حملات الإستكشاف
يموِّلها الحُكّام والأغنياء، ويُنفِّذها المغامرون.
ليس من مصلحة العالم الإسلامي أن يقاطع العالم من حوله، من النصارى
الغربيين الإستعماريين، ولا المضطهدين في أمريكا الجنوبية، ولا الأفارقة،
ولا غيرهم من الأُمم الشرقية، كالهند والصين وأوروبا الشرقية وفتات روسيا
القديمة. وتتنازع مَن يدرس هذه المسألة عدد من العوامل، وبعد فهمها يكون
التوصيف الفقهي للموقف، أولاً: إنّ حصار أو عزل دولة أو شخص أو جماعة في
زماننا يعد من أكبر العقوبات التي تدمر، وتهدد كيانه، وتسقط تجارته، وتهوي
بعملته، وتفقر شعبه، وتذل حكومته، فإن كان الحصار في الماضي مؤلماً فهو في
هذا العصر أسوأ تأثيراً من أي زمن سبق. وإن أوقعه أعداء المسلمين عليهم،
فإنّهم لا يسعون له، ومن المفترض أن يتخلصوا من كل ما يدعو إليه ويسببه.
وقد كان رسول الله (ص) خير مثال لمقاومة العزلة التي فرضها ملأ مكة عليه
وعلى أصحابه في شعب أبي طالب. ففي أصعب أوقات الحصار كان يخرج للحجيج، وفي
ساعات التشويه والمطاردة كان يقابل الناس ويكشف عن نفسه وأتباعه التهم التي
يلصقها به أهل السوء.
وبعد هزيمة المسلمين في معركة أُحُد، انتقل المشركون إلى حملة أخرى ووجد
المسلمون أنفسهم محاصرين وراء خندق ضيق، ولكن الحصار المكاني لم يحاصر
الفكرة، ولم يقض الحصار والضيق على تطلع الأُمّة لتقلب الحصار وليصبح
المعتدون ضحية حصارهم القاسي ضدّ المضطهدين في المدينة.
إنّ عصر الدعوة والتعريف بالإسلام يختلف عن عصر القوة والسيادة، فالمسلمون
في حالهم اليوم هم أشبه بحال الدعوة والتعريف والتجلية لما شوّه من الدين
أشخاصاً وأفكاراً. ومن معرفة قريبة فإنّ المسلم الذي يعرض الإسلام على
الناس مخالفين أو موافقين، يجد في نفسه حبّاً وشغفاً وتنفيذاً والتزاماً
بالرسالة التي يعرضها، فيصبح هو من مغانم الأُمّة في التعليم.
ومَن لا يواجه ولا يتعرّض للمواجهة مع المخالفين، فإنّه غالباً لا يعرف
مقدار ما عنده من قوة، ولا قيمة ما يحمل من مبادئ، وهو كشف تجده من الحوار
في أي موضوع أن يتبيّن لك الحق عندك وتقويه وتنصره، أو ترى الخلل والضعف.
وصحيح أنّ جزءاً من هذا يخضع للمهارات الفردية، وهو جزء مهم، ولكن الخسارة
بالعزلة أكبر. وثقة المنعزل تضعف بمجرد المنازلة، لأنّها قوة معزولة عن
التمرين والحيوية والمجادلة، والقوة الضعيفة تنال قدراً من القوة إعادة
التقوية والتهيئة بمجرد التمرين، فما تراه الفطر والأفهام غير إنساني ولا
معقول ولا مقبول تاريخياً ولا واقعياً ينال بالتمرين والتحسين القوة
والقابلية.
ثمّ إنّ الكثير ممّا أقره الفقهاء في عصور متأخرة عن عصر الدعوة، كان في
ذروة قوة الخلافة الإسلامية حيث كانت مهوى القلوب. وكان مَن يفارق مجتمعه
أو يذهب عنه ربّما ناله الأذى أو الردة، وبسبب القطيعة الثقافية، والتباعد
وصعوبة الإتصال، والزيارة والبُعد عن المعرفة وعن علوم الإسلام، في تلك
القرون.
أمّا اليوم، فإن بإمكان المقيم في أقصى الغرب البعيد أو الشرق الأبعد أن
يعايش ويفهم ويسمع الإعلام الإسلامي، ويملك أن يؤثر ويفيد، ويربي أبناءه
على أحدث المعلومات الإسلامية ومناهج التربية التي يختارها إلى حد كبير.