الأنظمة الرمزية ومطلب التواصل
زهير الخويلدي
"المدلول
الواسع الذي نعطيه للفظ رمز هو الذي منحه إليه "كاسيرر" في "فلسفته عن
الأشكال الرمزية"، يعني بنيات التجربة الإنسانية المتوفرة على قانون ثقافي
والقادرة على ربط أعضاء الجماعة فيما بينهم والذين يعترفون بهذه الرموز
كقواعد لسلوكهم."[1] ما
يميز مجتمع المشهد لدينا اليوم هو الثورة الرقمية وتنوع وسائل الاتصال
والقدرة التأثيرية الهائلة التي تمتلكها هذه الوسائل على العقول والميولات
والأذواق دعاية وإشهارا واستهلاكا وفرجة. ولكن إذا شخصنا واقع العلاقات
الإنسانية نكتشف مفارقة عجيبة تتمثل
في تراجع فرص التواصل الحقيقي في زمن معولم اشتهر بتنامي الوسائط وتطورها
وربما تعقد الحياة اليومية وتشعب مظاهرها هو الذي حول المعمورة إلى سوق تعرض فيه الرموز وتكتسح الصور العملية التواصلية لتمارس وظيفة الإبهار والانتقاء والفرز.
وينقسم
التواصل اللغوي إلى تواصل عبر العلامة وعبر الإشارة وآخر عبر الرمز وإذا
كانت العلامة تعرف على أنها شيء يقوم مقام شيء آخر ويساعد التعرف على هذا
الشيء على التعرف على شيء آخر لكونها عادة حسية حركية ترمي إلى إثارة تصرف
لدى المتلقي فإن الرمز ليس علاقة طبيعية بالشيء وإنما هو تمثيل يحمل معنى
ويهدف إلى استحضار اللامرئي بالاعتماد على المرئي لكونه فعل إنساني يعبر عن
فكرة ويظهر في صور تحمل كثافة دلالية تقبل لتأويل لامتناهي. لقد وصل الأمر
إلى حد الاعتراف بسطوة السيموس والرمز في تحديد الذاتية الإنسانية بحيث:
" لا نتعرف على أنفسنا إلا باعتبارنا سيميائية متحركة وأنظمة دلالية
وعمليات تواصل. ووحدها الخارطة السيميائية هي التي تقول لنا من نكون وكيف
نفكر." لكن
ما المقصود بالرمز؟ وماهي وظيفته في العملية التواصلية؟ وما الفرق بين
الرمز والمجاز والعلامة؟ ماهو تصور علم النفس التحليلي للرمز؟ وكيف يقع
توظيفه لفهم الحياة النفسية؟
1- تحولات الرمزية في التحليل النفسي:
"هذه
الرمزية الأنثربولوجية والكونية هي نوع من الاتصال ما تحت الأرضي مع مواطن
طاقة اللبيدو في دواخلنا ومن خلالها مع ما يسميه فرويد بالصراع بين
العملاقين: عملاق الجنس وعملاق الموت."[2] الرمز
هو مصطلح قريب من الإيماء والإشارة والعلامة والمجاز ويوجد في اللغة
والمنطق والرياضيات والشعر والأدب والتحليل النفسي وهو ما دل على غيره وله
وجهان:
- دلالة المعاني المجردة على الأمور الحسية كدلالة الأعداد على الأشياء ودلالة الحروف على الكميات الجبرية.
- دلالة الأمور الحسية على المعاني المتصورة كدلالة العلم على الدولة.
المذهب
الرمزي هو استخدام الرموز للدلالة على الأوضاع الإنسانية ويتم تأويل
العقائد الدينية تأويلا باطنيا رمزيا مثل التأويل الصوفي كما تلبس الحقائق
الفلسفية في المذهب الاشراقي لباسا رمزيا وتستعمل الرموز في الحساب وفي
الشعر يتم التعبير عن المعاني بالرمز ليبدع القارئ ويكون له مساهمة في
تكميل الصور وتقوية العاطفة بما يضيف إليها من فيض خاطره واستطلاع خياله
المنتج. أما الرمزي فهو المنسوب إلى الرمز كالكتابة الرمزية أو التفكير
الرمزي المبني على الصور الإيحائية على خلاف التفكير المنطقي المبني على
البنى المجردة وهو أيضا علم يبحث في أسرار الرموز المستعملة في نصوص دينية
كالقبلانية في اليهودية وتسمى نظرية الرموز جبر المنطق.
ثمة
أيضا من يرى أن العقل البشري لا يدرك إلا الرموز ولا يعبر عن الأفكار إلا
على سبيل المجاز وليس على سبيل الحقيقة ولذ يطلق الرمز على كل حد في سلسلة
المجازات ويمثل حدا مقابلا له في سلسلة الحقائق، وكل لفظ أخذ عن معناه
وأطلق على آخر مجازا فهو رمز له.
أما المجاز métaphore
فهو اسم لما أريد به غير ما وضع له لمناسبة بينهما كتسمية الشجاع أسدا،
وقيل المجاز ما جاوز وتعدى عن محله الموضوع له إلى غيره لمناسبة بينهما إما
من حيث الصورة أو من حيث المعنى اللازم المشهور أو من حيث القرب
والمجاورة، وهناك عدة أنواع من المجاز مثل المرسل العقلي واللغوي والمركب
والاستعارة.
إن المجازAllégorie اسم
لقصة أو مثل أو أسطورة تستعمل فيها المجازات بحيث تجيء رموزها مطابقة في
نظام لواحد من الأشياء المعبر عنها. يستعمل المجاز للتعبير عن الأفكار
المجردة بالصور المشخصة والرموز الحسية والأفعال الجزئية كأمثولة الكهف عند
أفلاطون وقصة الزارع في إنجيل متى ورسائل ابن سينا والغزالي وابن طفيل
الرمزية كالطير وسلامان وأبسال وحي ابن يقظان والتي تعبر عن المعاني
العقلية بلغة المجاز والتشبيه والتخييل والمحاكاة.
من جهة ثانية إن "الرمز symbole في اللغة هو
العلامة والإشارة، يدل بها الرامز على المرموز. والرمز في الاصطلاح ما دل
على غيره دلالة معان مجردة على أمور حسية، كدلالة الأعداد على الأشياء
ودلالة أمور حسية على معان متصورة، كدلالة الثعلب على الخداع، والكلب على
الوفاء.
ويطلق الرمز على كل حد في سلسلة المجازات يمثل حدا مقابلا في سلسلة الحقائق. والرمزي (symbolique ) هو الدلالي المنسوب إلى الرمز كقولك التمثيل الرمزي وهو الإيماني. والرمزية (symbolisme)
كفلسفة تعارضها الواقعية والانطباعية. وكان ظهور الرمزية كحركة فنية
وأدبية في فرنسا سنة 1885 ميلادي، وكان أبرز الرمزيين فيها هم: مالارميه
وبودلير وفيرلين ومورو وريدون.
علاوة
على ذلك "إن الكلام الرمزي هو اللغة الأجنبية الوحيدة التي ينبغي لكل منا
أن يتعلمها. إذ إن فهمها يجعلنا نضع أيدينا على مصدر من أغنى مصادر الحكمة
وأعني به الأسطورة، كما أن هذا الفهم يضعنا على صلة بأعمق الركائز التي
تقوم عليها شخصيتنا. فالواقع أن هذه اللغة تساعدنا على إدراك المعنى الذي
يصدر عن مستوى بشري مخصوص من مستويات الخبرة المعيوشة."[3] بيد
أن الرمزية كدلالة اجتماعية تنبه إلى الانتماءات الفكرية والطبقية حيث
يعلن البعض عن أنفسهم ومراتبهم عن طريق لباس خاص يرمز لهم ويميزهم. في حين
أن الترميزsymbolisation هو
استخلاص المفاهيم من الخبرة وإدراك العلاقة بين الرموز وما تنطبق عليه في
الواقع. وبالترميز نعطي رموزا لما ندرك ونربط بين هذه الرموز وما تمثله.
وبالرموز العلمية تكون صورة العالم علمية وبالرموز الأسطورية تكون الصورة
أسطورية، وبرموز اللغة العادية تكون صورته المألوفة التي نعرفها عنه بشكل
عام، فكأن التمثيل الرمزي وظيفة تناسب كل صورة، ووظيفته في الترميز
الأسطوري تعبيرية تدمج الرمز فيما يرمز إليه، ( فالرعد يعبر به الرب عن
غضبه لا يكون مجرد تعبير خارجي عن غضب الله، ولكنه هو نفسه غضب الله،
ووظيفته في الترميز العادي حدسية، نعبر فيه باللغة العادية عن العالم كما
ندركه بالفطرة، بوصفه موجودات في الزمان والمكان لها خصائص دائمة وأخرى
عارضة). فكأن لغة أرسطو التي يطرح بها تصورات شبيهة بهذه التصورات لغة
عادية أو قبل علمية، وتأتي في مرتبة بعد الرمزية الأسطورية وقبل الرمزية
العلمية. وأخيرا هناك الوظيفة التصويرية في الترميز العلمي وغايتها تنظيم
التفاصيل وربط الجزيئات والتعبير عن العلاقات بينها."[4] اللافت للنظر أن للرمز عدة معان:
1- ما دل غيره، وله وجهان: الأول دلالة المعاني المجردة على الأمور الحسية. والثاني دلالة الأمور الحسية على المعاني المتصورة.
2- يطلق
على كل حد في سلسلة المجازات يمثل حدا مقابلا له في سلسلة الحقائق، وكل
لفظ أخذ عن معناه وأطلق على أخر مجازا فهو بمعنى ما رمز له. 3
3- علامة التعارف بين الأفراد المنتسبين إلى جمعية معينة أو هيئة مخصوصة .
4- تمثل مقنع لأمر جنسي لاشعوري له دلالة ثابتة وهو غير مرتبط بالنشاط الجنسي ارتباطا شعوريا.
من هذا المنطلق يقوم الرمز حسب نظرية التحليل النفسي بعملية تمثيل مقنع لرغبة لاشعورية ويمتلك
دلالة ثابتة رغم عدم ارتباطه الواعي بالنشاط الغرائزي، ولكن كيف يساعد
الرمز على فهم الحياة النفسية للإنسان؟ والى أي مدى يفهم الشخصية من يمتلك
القدرة على فك رموز اللغة التي تبوح بها هذه الشخصية؟
"
تصر مختلف مدارس التحليل النفسي على امتلاك المفتاح الوحيد الذي من شأنه
أن يميط اللثام عن أسرار اللغة الرمزية. وهكذا بتنا نقصر عن رؤية الدلالات
العديدة التي تحفل بها هذه اللغة وصرنا نحاول إخضاعها عنوة للتمدد على سرير
بروكست بطريقة من الطرق وبهذه الطريقة فقط."[5] والحق
أن ايريك فروم يعيد طرح السؤال عن معنى الرمز قصد اعادة تعريفه والاشتغال
عليه من أجل توظيفه في فهم الثقافة الانسانية بجميع طبقاتها السردية ويقول
في هذا السياق:"ماهو الرمز؟ لقد درج البعض على القول بأن الرمز هو شيء يمثل
شيء آخر". لنتعرف أن مثل هذا التحديد لا يفي بالحاجة! غير أنه قد يلبي
جانبا من هذه الحاجة إذا أخذنا بالاعتبار ذلك الصنف من الرموز التي هي
التعبيرات البصرية والسمعية والشمية واللمسية التي تمثل شيئا آخر، نعني
تجربة من التجارب الحميمة أو شعورا من المشاعر أو فكرة من الأفكار. إن هذا
الرمز يقع خارج ذواتنا. لكن ما يرمز إليه يقع داخل هذه الذوات. فاللغة
الرمزية لغة نعبر بها عن تجربتنا الداخلية كما لو كانت تجربة خارجية. أعني
بذلك، تعبيرها عن حدث من أحداث عالم الأشياء التي تتأثر بها الآن أو كنا قد
تأثرنا بها فيما مضى. إن الكلام الرمزي كلام يكون العالم الخارجي من خلاله
رمزا للعالم الداخلي، رمزا للنفس والذهن. من هنا إننا إذا حددنا الرمز
بأنه "شيء يمثل شيء آخر" فإن ثمة سؤالا كبيرا يطرح عندئذ علينا: ماهي الصلة
المخصوصة التي تقوم بين الرمز والمرموز إليه؟
يجيب فروم عن هذه الأسئلة بالتمييز بين ثلاثة أنواع من الرموز: الرمز الاصطلاحي والرمز العرضي والرمز الجامع. ويؤكد أن العرضي والجامع هما فقط اللذان يتصفان بمواصفات اللغة الرمزية ويعبران عن التجربة الحميمية بوصفها تجربة حسية.
"إن الرمز الاصطلاحي
هو الرمز المعروف لدينا على أفضل نحو لأننا نستعمله في كلامنا
اليومي...أما الرمز العرضي فهو يقع موقع التضاد من الرمز الاصطلاحي، رغم أن
الرمزين يتصفان بصفة مشتركة وهي أنهما لا ينطويان على صلة جوانية مع ما
يرمزان إليه... وأما الرمز الجامع فهو يتصف بوجود صلة جوانية بين الرمز وما
يمثله...إن الرمز الجامع هو الرمز الوحيد الذي نجد فيه أن العلاقة بين
الرمز والمرموز إليه ليست علاقة اتفاقية بل علاقة جوانية. فهو يقوم بالأساس
على تجربة الألفة المعيوشة التي تنحو نحو الربط بين عاطفة معينة أو فكرة
معينة من جهة وبين حدث أدركته الحواس من جهة أخرى. وإذا كنا نسمي هذا الرمز
رمزا جامعا فلأن البشر جميعا قد مروا بتلك التجربة المعيوشة. وهذا على كل
حال ما يميزه عن الرمز العرضي الذي يقتصر من حيث طبيعته على كونه رمزا
شخصيا وحسب، كما يميزه عن الرمز الاصطلاحي الذي يقتصر على فريق من الأفراد
الذين يتداولون في ما بينهم بالاصطلاحات المجتمعية نفسها.
إن الرمز الجامع
يضرب بجذوره في خصائص الجسد البشري بالذات، في خصائص الحواس والفكر، وهي
خصائص مشتركة بين الجميع وبالتالي فهي لا تقتصر على الأفراد بما هم أفراد،
ولا على فريق محدد منهم. والواقع أن كلام الرمز الجامع قد أتاح للجنس
البشري أن يبلور اللغة الوحيدة المشتركة بين سائر الناس... إن كل كائن بشري
من الكائنات التي تتصف بالسمات الأساسية التي تتكون منها البنية البشرية
جسدا وذهنا ، قادر على التكلم باللغة الرمزية وقادر على فهمها بحكم كونها
مبنية على خصائص الجنس البشري بالذات... ألسنا نجد الدليل على ذلك في كون
هذا الكلام الرمزي كما هو مستعمل في الأساطير والأحلام معتمدا في الحضارات
المسماة بدائية كما هو معتمد في أكثر الحضارات تطورا كالحضارة المصرية أو
اليونانية مثلا، إلى ذلك فالرموز المعتمدة لدى العديد من الشعوب تتصف على
نحو واضح بخصائص واحدة، نظرا لأن تلك الرموز تنجم جميعا عن تجارب حسية وعن
تجارب انفعالية معيوشة من قبل جميع البشر وجميع الحضارات...قد يختلف معنى
بعض الرموز باختلاف الدلالة الخاصة التي تتخذها في حضارات مختلفة... لكن
دلالة الرمز المخصوصة لا يمكن أن تتحدد والحالة هذه إلا بناء على السياق
العام الذي يندرج فضمنه هذا الرمز..."[6] هل
حافظ فروم على التعريف الفرويدي للرمز أم أنه عمل على تطويره وتوسيعه حتى
يستجيب لتجديداته النظرية ويشمل مختلف الثقافة الانسانية؟
في الواقع " يرى فرويد أن الرمز أداة في يد اللا شعور أو المكبوت الجنسي» فأغلب الرموز في الحلم رموز جنسية "، وقد أورد فرويد بعض الأمثلة على هذا النوع من الرموز قائلا: "إن
البيت يرمز لشخص الإنسان في مجمله، الأبوان يرمز لهم بالإمبراطور
والإمبراطورة، العضو الجنسي الذكري يرمز له بالعصي، جذوع الأشجار والأسلحة
والسكاكين والخناجر والسيوف ... أما عضو الأنوثة فيرمز بكل الأشياء التي فيها تجويف، والتي يمكن بالتالي أن تكون أوعية ومستودعات كالمناجم والحفر والكهوف."
من البين اذن أن الرمز بمعناه الواسع في التحليل النفسي يمثل تصويرا غير مباشر للأفكار والرغبات اللا شعورية. وهو
أحد ميكانيزمات تفسير الأحلام فأشـار إلى العلاقـةالرمزية الثابتـة بيـن
عنصـر الحلم وتأويلـه ، فتأويل الأحلام يقوم على دعامتين مبدأين" أولاهما تداعيات الحالم وثانيهما يتعلق بتأويل الرموز"، كما أن العلاقة الموجودة بين الرمز والفكرة المرموز إليها هي علاقة أقرب الى الثبات منه الى الاعتباطية، وتظهر في أعراض اللا وعي الأخرى من مثل الأسطورة والدين والمحكيات.
ان
الإبداع الفني أشبه ما يكون بالحلم حين يفلت من الرقابة، فتكون فيه الصورة
رمزية لها باطن وظاهر،وان الفنان يشبه العصابي ويكون على حافة المرض ولكن
الابداع يجعله يقوم بوظيفة التحويل فيستثمر طاقة الليبدية في الانتاج
الثاقافي وكما يقول هو نفسه" مزيدا من الكبت مزيدا من الحضارة' .
أما
تلميذ فرويد الآخر كارل يونغ فقد تناول الرمز من جانب مستوى اللا وعي
الجماعي، الذي هو المخزون الشامل لذكريات شخصية وصور بدائية موروثة من
أجيال عديدة عن السلف" فكل
فنان يملك ذكريات شخصية لبعض الأشياء ترتبط غالبا بمجالات وجدانية ارتباطا
لا يمكن تحليله، ووراءها تقبع انطباعات قديمة أو صور أولية...هذه
الصور تلوح من بعيد غامضة وراء التجربة الحاضرة وتؤثر تأثيرا خفيا في
النفس، فاللا شعور الجمعي الذي هو مكمن الموروث من تاريخ البنية العقلية
البشرية بكل ما يمثله هذا الموروث من الأساطير البدائية والمكونات الدينية
والخرافية، يتكون من وحدات يسميها يونغ بالأنماط الأولى وهي عبارة عن صور
كونية توجد منذ أزمنة بعيدة الغور، وتعود إلى حين كان الشعور الإنساني
مرتبطا بالكون متوحدا فيه، عن طريق الترميز والأسطرة، وهذه الصور النمطية
هي التي تصل الإنسان بجذوره الأولى فيظل مرتبطا بأرضه وجنسه وأسلافه، إن
هذه الأنماط الأولى المكونة للاشعور الجمعي، هي مجموع الأساطير التي تركها
الإنسان البدائي وتبقى مخزونة في ذهن الإنسان وآخر، في عصور مختلفة وبين
شعوب مختلفة مهما ارتقى الإنسان في سلالم التقدم والمدنية . فالإنسان حسب هذا الطرح يجد نفسه مرغما على إعادة إنتاج هذه الصور البدائية بصيغ متشابهة" وهذا التشابه في الرموز الأسطورية والأحلام، كما يبدو في عصور وبين شعوب متباعدة، هو أكبر دليل عند يونغ على وجود اللاوعي الجماعي. زد
على ذلك أن " الأسطورة هي ضرب من الحكاية التي تعبر بكلام رمزي عن أفكار
دينية أو فلسفية، عن خبرات معيوشة من قبل النفس تكمن فيها دلالة الأسطورة
بمعناها الصحيح."[7] لقد
شكل مفهوم اللاوعي الجماعي الأساس الذي قامت عليه الكثير من الدراسات
النقدية والأنتروبولوجية التي ذهبت تبحث عن الأنماط الأولى الناتجة عن
الفطرة الخالصة كمقياس لتحديد قيمة الأعمال الإبداعية وخلودها، ولكن ثمة
فرق بين فرويد الذي ينسب إلي الرمز محتوى يتعلق بالجنس الطفولي المحرم وإلى
المكبوت المكتسب في حياة الفرد ويونغ الذي ينسب الرمز إلى الذكريات
الشخصية التي تعود بالفرد إلى الماضي السحيق مما يقرب بحوثه من
الأنثربولوجيا وتاريخ المعتقدات.
اذا عدنا الآن الى المجدد البنيوي جان
لاكان فاننا ننتبه الى أنه استعمل مدلول كلمة رمزي كأحد العناصر الثلاثة
الأساسية التي يمكن التمييز بينها في مجال الدراسات النفسية إضافة إلى
مدلول الواقعي والخيالي، فمدلول كلمــة "رمــزي (Symbolique) حسب لاكان "يدل على تلك الظواهر التي يتناولها التحليل النفسي باعتبارها أبنية لغوية"، فإذا
كان فرويد قد أكد على العلاقة الرابطة بين الرمز وما يدل عليه مهما كانت
الطبيعة المركبة لهذه الروابط، فإن لاكان اهتم ببناء النسق الرمزي بالدرجة
الأولى، لتأتي الصلة بالمرموز سواء عن طريق التشبيه أو المماثلة وهي مشبعة
بالعنصر الخيالي.
لقد
كشف التحليل النفسي عن العلاقة الموجودة بين عمليات الترميز الأدبي وترميز
الأحلام وأن الرمزية ليست خاصية من خواص الأحلام فحسب، بل من خواص التفكير
اللا شعوري برمت، كما أن الاعتماد على تقنية التداعي الحر كوسيلة للكشف عن
طبيعة الرموز مكن من تدعيم الأبحاث التي يقيمها علم النفس في مجال الذاكرة
والتلقي...
ومن الواضح مجال تحليل الخطاب الأدبي قد استقى الكثير من مقارباته من
الكشوفات التجريبية لتقنيات التحليل النفسي خاصة عند المدرسة البنيوية التي تعتمد على الأشكال اللغوية كأساس للتحليل والتفسير، ومن
جهة ثانية فإن التيار الرمزي بات يرى أن الصور التي يملكها الإنسان وتمنح
الأشياء درجة الوجود لا تمثل الحقائق الا بشكل نسبي وعلى نحو ذاتي وفردي،
ومن هذا المنطلق إن عنصر العودة إلى الذات الإنسانية أصبح مبررا في الأبحاث
التي اهتمت باللا شعور بوصفه تعبيرا عن الجانب المترسب من النفس ورغباتها المكبوتة وعقدها الدفينة.
على
الرغم من إن الرمزية قد ارتبطت أساسا بالعلم والأسطورة والتجربة الدينية
والمعرفة التاريخية والتصوف و بفنون الأدب ومدارسه باعتبارها نهجا في
التعبير ورؤية فنية للواقع، إلا أنها قد امتدت إلى مجال الفلسفة أيضا لتصبح
مجالا من مجالات التفلسف وأداة للتعبير عن رؤية الفيلسوف للواقع. وجاءت
الرمزية للفلسفة لتحررها من وظيفة التحليل المنطقي للتصورات الرئيسية
المستخدمة في لغة الحديث الانساني عاديا كان أم علميا. ولتضع حدا للصراع
القائم بين أصحاب النزعة العلمية التحليلية وأصحاب الاتجاهات الكلاسيكية
خصوصا وأن الرمز مفهوم يعبر عن مناطق مختلفة من النشاط الفكري الانساني
كالمنطق واللغة والفن والدين والأسطورة.
في
هذا الموضوع يقول ريكور:" قوة الرمزية الكونية تكمن في العلاقة غير
العشوائية بين السماء المرئية والنظام غير المرئي الذي تجليه. فهي تتكلم عن
الحكيم والعادل وعن الواسع والمنظم، عن وساطة القدرة التماثلية لمعناه
الأولي. وهذا هو امتلاء الرمز بالتعارض مع فراغ العلامات."[8] إن إدخال الرمز إلى الفلسفة المعاصرة قد فتح لها آفاق جديدة لم تعهدها الاتجاهات الوضعية وكان
ذلك على يد كل من أرنست كاسرر وسوزان لانجر وشالز موريس دون أن ننسى بول
ريكور وكلود ليفي ستروس وميشيل فوكو وكل الذين اهتموا بمسألة الرمز في
دراسة العديد من الظواهر الإنسانية مثل اللغة والقرابة والنسب والزواج."
لكن كيف انتقل الاهتمام بالرمز من دائرة المعرفة إلى دائرة الحضارة؟
2- الرمزية :من نظرية المعرفة إلى فلسفة الحضارة:
"إذا
كان كاسيرر قد قدم لنا في مؤلفه الكبير "فلسفة الأشكال الرمزية عوالم
اللغة والأسطورة والعلم فانه في كتاب مقال عن الإنسان يقدم عالمي الفن
والتاريخ وكل منهما يقدم لنا نوعية جديدة من المعرفة، فالفن يقدم لنا معرفة
بالأشكال الخالصة للواقع والتاريخ يقدم لنا معرفة بالأحداث الماضية. ومن
هنا أصبحت لدينا معرفة أسطورية ومعرفة لغوية ومعرفة جمالية ومعرفة
تاريخية.." [9] ما
يمكن الانتباه إليه أيضا أن التواصل بين الأنا والآخر وبين ثقافة معينة
وثقافة أخري يمر حتما عبر وساطة الأنظمة الرمزية ولكن استعمال الرموز ليس
أمرا مستحدثا بل قديم قدم التواصل بين البشر ويتجاوز دائرة اللغة إلى
الصورة والأسطورة والدين والفن والعلم والتقنية.
غير
أن الجديد في دائرة الثقافة والعلم هو نشأة قطاع معين يبني موضوعه
بالاعتماد على التناول العلمي للرموز ويعتبر الرمزية فرعا لا غنى عنه من
الفروع التي تنقسم إليها الفلسفة المعاصرة في إطار عزمها على تخطي الإطار
العلموي الوضعي والشروع في بدء جديد أكثر انفتاحا واندماجية.
"لقد حاولت الفلسفة الرمزية التي تزعمها أرنست كاسيرر في كتابه "فلسفة الأشكال الرمزية" أن
تجد في الرمز مفتاحا لفهم طبيعة الإنسان من خلال اهتمامها بالأشكال
اللغوية والفنية والميثولوجية التي تمثل وسيطا رمزيا يواجه به الإنسان
الكون وما حوله، لتضحي هذه الأشكال عبر السنين نتاج تفاعل بين عالم الإنسان
وعالم الواقع. لقد
أورد كاسيرر جملة من المعطيات الأساسية تبرز اللغة في صورة أوسع من أنها
مجرد أداة للتواصل، فاللغة خاصة الشفوية منها، تتقاسم مع سلسلة من الأنظمة
التي تشكل في مجموعها أجزاء هامة من كون الإنسان.وهذه
الأنظمة تتمثل في الخرافة والدين والعلم والتاريخ ؛فبهذه الوحدات استطاع
الإنسان من التعبير عن الواقع الطبيعي المادي بلغة الواقع الاجتماعي البشري
ومن ثم صرح كاسيرر "أن
الإنسان حيوان رمزي في لغاته وأساطيره وديانته وعلومه وفنونه. فما أوجه
القرابة والغرابة بين المقاربة اللسانية السيمائية للرمز والمقاربة
الثقافية لكاسرر؟
من المعلوم أن فيرديناند
دي سوسير في كتابه محاضرات في اللسانيات العامة في محاولته لتعريف الدليل
اللغوي ذكر مفهوم الرمز ولو بطريقة عرضية ، فتحدث عن العلاقة الاعتباطية
التي تربط الدال بالمدلول، كأن لا يحمل الدال "شجرة" على سبيل المثال أي صفة تحيل على مدلولها، وأن ما يبرر هذه التسمية هو مجرد الاصطلاح. ثم
أشار في موضع آخر إلى نوع آخر من الدلائل سماها الدلائل الطبيعية، أي تلك
التي يحيل مدلولها على مدلول ثان بشكل طبيعي كدلالة الميزان على العدل
ويؤكد سوسير في هذا الاطار علىأن المدلول اللغوي هنا يضطلع بالوظيفة
الرمزية لاسيما وأن "الرمز يتميز بكونه ليس دائما اعتباطيا تماما، فهو ليس
خاويا، بل نجد فيه شيئا طفيفا من الربط بين الدال والمدلول، فلا يمكن أن
نعوض رمز العدالة بما اتفق من الأشياء الأخرى"[10].. بعد ذلك منح الناقد والسيمايائي تودوروف الرمز
مدلولا شاملا يتضمن كل أشكال المجاز بحيث يكون للكلمة مدلول آخر غير
معناها المعجمي، فكلمة لهيب مثلا إذا وظفت توظيفا استعاريا قد ترمز إلى
الحب، ثم يعلل تودوروف بأن العلاقة في صلب الرمز بين الرامز والمرموز ليست
ضرورية، إذ أن الرامز وأحيانا المرموز يوجد
أحدهما مستقلا عن الآخر، ولهذا السّبب "فإن العلاقة لا يمكنها إلا أن تكون
سببية، وإلا فليس هناك ما يبرر" وقد برهن تودوروف على عدم وجود علاقة
مشابهة واضحة بين الرامز والمرموز أحيانا عند الرومانسيين، وفي اختصاصات
مختلفة كالأنتروبولوجيا وعلم الاجتماع والتحليل النفسي والألسنية
والسيمياء. هذا الاحتفاء بالرمز غزى جميع الدوائر بما في ذلك الأدب الذي
انضم الى حقل الدراسات السيميائية، ولم يبق بمعزل عما يجري من نقاش حول
الرمزية ، وهذا ما أدى الى ظهور سيمياء الأدب التي أصبحت تَعتبر الخطابات
بمختلف أنواعها كأنظمة رمزية تنتج المعنى و تصوغ عالم الثقافة.
على خلاف ذلك تشير جوليـــا كريستيفـا الى أن الرمز لا يشبه الموضوع الذي يرمز إليه وأن "الفضاءين (الرامز والمرموز) منفصلان وغير قابلين للاتصال"، وترى
أن وظيفة الرمز في بعده العمودي وظيفة حصر، أما في بعده الأفقي فتكمن
وظيفته في الإفلات من المفارقة، فالفكر الأسطوري الذي يدور في حلقة الرمز
يتجلى في الملحمة والحكايات الشعبية، يشتغل في وحدات حصر بالمقارنة مع
الكونيات المرموزة كالبطولة والشجاعة والنبل والخيانة.
في حين أن غريماس يؤسس
للرمز انطلاقا من منظور هيلمسلاف عندما يعتبره جزء من سيمياء السطح ،
ويبين أنه ليس علامة لكونه يدخل في نظام من المشاكلة ويرتبط عادة بسياق
اجتماعي ثقافي؛ وهو عكس العلامة لا يقبل تحليلا تصويريا. وبالنسبة للاستعمالات غير اللسانية وغير السيميائية يقر غريماس بأن الرمز يعني بساطة شيء آخر، ولذا يبدو متعدد الأقطاب.
كما نجد جان مولينو قد حصر الحدث الرمزي في النصوص والمأثورات الشفوية ودرسها من مستويات ثلاثة: المستوى الشعري، المستوى المادي، المستوى الحسي. وهذه
المستويات بمثابة وظائف للرمز، فالمستوى الأول يتناول علاقة المنتج
بإنتاجه، والمستوى الثاني يتناول الإنتاج نفسه، والمستوى الثالث ينصب على
الإنتاج وعلاقته بالقارئ.
اذا عدنا الى صاحبا قامـوس الرموز : آلان قــربــان وجـون شوفالييــه فإننا نجدهما يميزان تمييزا دقيقا بين الرمز و بعض المفاهيم التي تقرن بصفة خاطئة به مثل الشارة (Emblème) والمجــاز الصـــوري (Allégorie) فالشارة «صورة مرئية اصطلاحية لتمثيل فكرة أو شخصية معنوية كأن نقول العلم شارة الوطن. أما
المجاز الصوري فهو "حكاية ذات طبيعة رمزية أو إيحائية، ومن حيث هو سرد
يجلي شخوصا ذوي صفات وملابس وأفعال وحركات لها قيم ، في حين أن الرمز لا
يتوفر على أي قرينة لفظية تساعد على التأويل.ان
الكثير من النقاد لا يفرقون بين الرمز الفني والرمز الشارة فحين ينظر إلى
الرمز في الشعر بوصفه مقابلا لعقيدة أو لأفكار بعينها يخطئ معنى الرمز
الفني، أو رمزية الشعر إجمالا وهو عيب يتورط فيه النقاد أحيانا، حين يقنعون
بأن كذا يرمز إلى فكرة أو مذهب أو عقيدة."[11] من
هذا المنطلق أضحى الرمز من المفاهيم التي تعرضت لاستعمالات يصعب حصرها في
المجال الفني وذاك لكونه أوسع من كونه وسيلة من وسائل الأداء الشعري، وقد
اختلفت مدلولاته من حقل معرفي إلى آخر، بل كثيرا ما تعددت معانيه داخل
الحقل المعرفي الواحد. ويبدو أن
كلمة رمز أصبحت مستهلكة في مجال البحوث السيميائية ، وذلك لنضوب الوعي
الرمزي الذي يعتمد على علاقة التشابه بشكل ما بينما أخذت النظرة التحليلية
تعني بالعلاقات الشكلية بين الإشارات نفسها خارجة بذلك عن هذا الضمير الذي
لم يكن يعنيه من الشكل إلا ما يدل عليه ومن ثمة فإن موقع العلامة في السياق
اللغوي هو الذي يحدد قيمتها من الوجهة السيميولوجية.
فكيف سيحضر مفهوم الرمز في جميع قطاعات المعرفة عند كاسرر؟ وماهي اعتراضاته على التصورات اللسانية التقليدية؟
"إذا
كانت الإبستيمولوجيا التقليدية ابتداء من كانط إلى الكانطية الجديدة قد
اكتفت بنقد المعرفة العلمية، فإن كاسيرر جعلها تمتد إلى نقد المعرفة
الإنسانية أو نقد الحضارة الإنسانية في كل أشكالها من لغة الى أسطورة إلى
فن إلى تاريخ. لقد كانت مشكلة كانط هو كيفية تطبيق التصورات الذهنية على
الخبرة الحسية، أما عند كاسيرر فلقد استحالت عملية التصور conceptualisation الى مجرد حالة خاصة مما يطلق عليه الرمزية symbolisation أو التمثيل الرمزي symbolique représentation
. فالتمثيل الرمزي عند كاسيرر أصبح في المحل الأول يمثل عملية أساسية في
الوعي الانساني وهو الذي يوضح لنا كيفية فهمنا للعلم بل وأيضا للأسطورة
والدين واللغة والفن والتاريخ. ولا غرو في ذلك فالموجود البشري عند كاسيرر
قد أصبح خالقا للرموز ولم يعد مجرد حيوان ناطق. ويتميز الرمز عند كاسيرر
بأنه يخلق علامات أو ارتباطات معينة بين الإشارات الحسية من ناحية والمعاني
من ناحية أخرى- فطبيعة عملية الرمز تتمثل في خلق عالم يعلو على الإشارات
الحسية ويغلفها به. والعالم الرمزي الذي يخلقه الموجود البشري شأنه في ذلك
شأن التصورات والمقولات الكانطية، فهو لا يعكس العالم الموضوعي أو يحاكيه
بل انه يخلقه ويكونه ويبنيه وينظمه. فالرموز العلمية تنشأ وتخلق عالما من
الموضوعية ألا وهو عالم العلم. والصور الأسطورية تنشأ وتكون وتخلق واقعا
آخر موضوعيا ألا وهو عالم الأساطير والدين. والكلام العادي واللغة الجارية
تكون وتشكل أيضا واقعا موضوعيا ألا وهو عالم الحس المشترك. والرموز الفنية
تخلق وتشكل واقعا آخر موضوعيا ألا وهو عالم الأشكال الخاصة. ويمكن القول
بصفة عامة أن هناك دائما طريقة معينة يجري على أساسها التمثيل الرمزي. وهذه
الطريقة تقابل واحدا من النظم الثلاثة الرمزية التي تخلق وتشكل ثلاثة
نماذج من الواقع الموضوعي تقابلها على التوالي ثلاث وظائف رمزية:
- وظيفة
التعبير: العالم الذي تخلقه هذه الوظيفة هو عالم الأسطورة البدائي. وهنا
تختلط العلامات أو الإشارات بمدلولها وتمتزج الرموز بما ترمز إليه...
- وظيفة الحدس: هذه الوظيفة تتم
عن طريق استعمال اللغة العادية التي تخلق أشكال عالم الإدراك العادي. إنها
الوظيفة التي تشكل وتخلص وتصوغ عالم الحياة الجارية. وبهذه الصفة يمكن أن
نميز بين بعض الصفات الدائمة التي تحدد لنا أنواع الجواهر وبين الصفات
الأخرى العرضية. كما يمكننا أن نميز بين الموضوعات وصفاتها أو بين الأشياء
وبعضها. وفلسفة أرسطو تقدم لنا طريقة في التفكير في الأشياء سابقة على
المرحلة العلمية هي طريقة التمثيل الرمزي.
- الوظيفة
التصويرية: هذه الوظيفة تخلق وتشكل عالم العلوم، وهو عالم أقرب إلى أن
يكون نسقا من العلاقات وليس مجرد نسق من الجواهر وصفاتها. فالجزء لا يرد
إلى الكل، بل انه يرد إلى مبدأ تنظيمي بحيث تنتظم الجزئيات بحسب نظام معين
أو سلسلة محددة."[12] إذا كانت الفلسفة النقدية الكانطية قد اعتبرت العقل النظري المنطقي هو العامل الوحيد الحاسم في تمييز الإنسان فإن كاسيرر عدد وظائف العقل النظري واعتبره بمثابة فرع من قدرة بشرية جوهرية هي الرمز.
يقول
حول هذا الأمر:" العقل أو النطق اصطلاح ناقص لا نستطيع عن طريقه وحده فهم
أشكال الحضارة في ثرائها وتنوعها وكل هذه الأشكال رمزية." على هذا الأساس
بدلا من أن نعرف الإنسان باعتباره حيوانا عاقلا فإن علينا أن نعرفه
باعتباره حيوانا رامزا. فعن طريق العقل وحده لا نستطيع أن ندرك العالم
الأسطوري أو العالم اللغوي...
يبين
لنا كاسيرر أن البيولوجي يوكسل قد أوضح بأن لكل كيان عضوي حسب تركيبه
التشريحي جهازين: الأول منهما يسميه جهاز الاستقبال والثاني منهما يسميه
جهاز التأثير. ولابد من تعاون بين الجهازين معا.
وهذان
الجهازان، جهاز الاستقبال الذي يتحقق عن طريقه تقبل المثيرات الخارجية
وجهاز التأثير الذي يستجيب لهذه المؤثرات يتسمان بسمة التلاحم الوثيق
بينهما، فهما حلقتان في دائرة واحدة يسميها يوكسل بالدائرة الوظيفية. يقبل
كاسيرر تشريح يوكسل للجهاز العضوي ويضيف إليه جهازا آخر يميز الإنسان عن
غيره من الكائنات العضوية ويسميه بالجهاز الرمزي.إذ يقول:" بين
الجهاز المستقبل والجهاز المؤثر وهما يوجدان في كل الأنواع الحيوانية نجد
لدى الإنسان حلقة ثالثة يمكن تسميتها بالجهاز الرمزي.فإذا قرنت الإنسان
بغيره من الحيوانات، وجدته لا يعيش في واقع أوسع فحسب ولكنه يعيش أيضا إن
صح القول في بعد جديد من أبعاد الواقع وهو البعد الرمزي."
"مادام
الإنسان قد تجاوز العالم المادي فإنه أصبح يعيش في عالم رمزي وما اللغة
والأسطورة والفن والدين إلا أجزاء من هذا العالم. فهذه هي الخيوط المتنوعة
التي تنسج منها الشبكة الرمزية. إنها النسيج المعقد للتجربة الإنسانية وكل
التقدم الانساني يرهف من هذه الشبكة ويقويها".[13] هنا
يتقلص العالم المادي كلما تقدمت فعالية الإنسان الرمزية، إذ لم يعد
الإنسان قادر على مواجهة الواقع مباشرة ويحدق فيه وجها لوجه فلقد استغرق
نفسه بالأشكال الرمزية والصور الفنية والرموز الأسطورية أو الشعائر الدينية
حتى لم يعد يعرف ويرى إلا عن طريق تلك الوسائط المصطنعة. وبدلا من التعامل
مباشرة مع الأشياء نجده يتحدث دائما مع نفسه.
إن الإنسان لا يعيش عالم من الوقائع الصلدة وإنما يعيش وسط عواطف
متخيلة وفي الآمال والمخاوف، الواقع الرمزي الجديد الذي ينتمي إلى عالم
المعنى لا يمكن أن يكون مجرد محاكاة للواقع المادي بل هو بعد من أبعاده وعن
طريقه يصبح كل شيء موضوعا للإدراك. "من الضروري من أجل الفكر الرمزي أن
يوضع فصل حاد بين الواقعي والممكن أي بين الأشياء الواقعية والمثالية.
والرمز ليس له وجود واقعي كجزء من العالم المادي وإنما له معنى.
"
لقد كان من العسير على الفكر البدائي أن يميز بين الوجود والمعنى، فهما
هنالك مختلطان وإنما ينظر إلى الرمز نظرته إلى شيء قد وهب قوى سحرية
ومادية" لكن تقدم الحضارة جعلت التفرقة بين الأشياء والرموز وبين الواقع
والإمكان أمرا ملموسا بوضوح. إن الواقع الرمزي هو في المحل الأول ولكنه ليس
شيئا ماديا بالرغم من حاجته إلى بنية مادية وقوام حسي يتجلى من
خلاله...يتسم الشكل الرمزي بنوعية خاصة تتمثل في شكله الحسي المادي من
ناحية وماهيته العقلية المتمثلة في المعنى من ناحية أخرى... وهذا
التمييز بين الرمز والمعنى ماهو إلا عملية تجريدية تتم في الفكر وحده لا
في الواقع. فالرمز على الرغم من بنيته المادية الحسية إلا أنه يتجاوز مع
ذلك تلك البنية ليشير بذلك إلى المعنى. إن ماديته مستغرقة تماما في هذه
الوظيفة."[14] لكن كيف يمثل عودة الفكر الفلسفي إلى الرمز محاولة للرد على النظرة الضيقة للمدرسة الوضعية؟
" ترى سوزان لانجر أن الوضعية المنطقية حصرت نفسها في حدود عالم اللغة فحسب بينما
عالم المعنى أوسع من عالم اللغة. ذلك أنه توجد مجالا ت أخرى لا يمكن
قياسها على أساس المنطق اللغوي وحده كالأحلام والأساطير والفن
والميتافيزيقا... وهي مجالات تعد رموزا حافلة بشتى المعاني خلقتها الطبيعة
الإنسانية للتعبير عن بعض الجوانب التي تعجز اللغة عن التعبير عنها... كما
تفرق بين الإشارة والرمز فالإشارة تفهم متى استخدمت للإشارة إلى موضوع أو
الموقف الذي تدل عليه أما الرمز فأنه يفهم متى جعلنا نتصور الفكرة التي
يقدمها.فالإشارة ماهي إلا مجرد أداة أو وسيلة لخدمة الفعل بينما الرموز
تشكل أدوات ذهنية أو مظاهر لفاعلية العقل البشري. وعندما ينجح الموجود
البشري في إيصال فكرته إلى غيره عن طريق الرموز فإنه بذلك يكون قد نجح في
التعبير عن هذه الفكرة.
في نفس السياق يفرق شارلز ويليامز
موريس بين الرمز الفني وبين الرمز أو العلامات المستخدمة في العلم،
فالعلوم تستعمل رموزا مختلفة أو إشارات مثل الحروف والأشكال والأعداد.
والفرق بين الإشارة والرمز إنما يرجع إلى أن الإشارة ليس لها معنى نستمده
من تأملنا لها وإنما تستمد دلالتها من الشيء الذي نتفق علي أن نستعملها
للإشارة إليه، أما الرمز فله في ذاته معنى خاص به ونستمده من تأملنا له
والانفعال به فكأن الشكل والمضمون يكونان معا وحدة عضوية... من هنا تصبح
الصلة بين الشكل والمضمون في العمل الفني صلة طبيعية وليست مصطنعة كالتي
نجدها في الإشارة ومعناها. وبناء عليه نستطيع أن نستبدل إشارة بإشارة أخرى
في نطاق علم معين بغير أن يتغير المعنى.."[15] كما" حاول الأنثربولوجي الفرنسي كلود ليفي ستروس وفق
منهجية بنيوية "استخراج القوانين الصوتية والنحوية والصرفية من مادة
الكلام العادي، ذلك أنه يوجد تماثل بين الأبنية اللاشعورية للعادات وبين
أبنية اللغة، فالنشاط اللاشعوري للعقل يتضمن فرض أشكال على المضمون وهذه
الأشكال واحدة لكل العقول بمعزل عن تغيرات التاريخ. وعلى ذلك فإن دراسة
الوظيفة الرمزية كما يعبر عن نفسها في اللغة تبرهن على ذلك بوضوح ومن ثم
يصبح من الضروري الوصول إلى البنية اللاشعورية الكامنة ووراء ككل مؤسسة وكل
عادة للوصول إلى مبدأ صحيح للتفسير لبقية المؤسسات والعادات الأخرى...
هكذا تبدو المظاهر المختلفة للثقافة كمجموعة من اللغات كل منها يعبر عن
جانب أو مظهر أو بعد واحد من أبعاد المجتمع، فالثقافة كلها ماهي إلا مجموعة
من النظم الرمزية، في المستوى الأول منه تقع اللغة، وقوانين الزواج
والعلاقات الاقتصادية والفن والدين. وكل هذه الأنظمة الرمزية تستهدف
التعبير عن بعض مظاهر الواقع الاجتماعي والفيزيائي...هكذا تتحول العلاقات
الإنسانية الأصيلة بين البشر إلى ما يشبه العلاقات القائمة بين الظواهر
الطبيعية.."[16]
،و" مادام الإنسان قد خرج من العالم المادي الصرف فإنه يعيش في عالم رمزي
وما اللغة والأسطورة والفن والدين إلا..الخيوط المتنوعة التي تحاك منها
الشبكة الرمزية."[17] وكما يقل بودلير "كل ما في الكون رمز، وكل ما يقع في متناول الحواس رمز يستمد قيمته من ملاحظة الفنان لما بين معطيات الحواس المختلفة من علاقات ". بيد أن السؤال الذي يطرح هنا هو: كيف يمكن استثمار الرمزية من أجل فهم أعمق للتجربة الدينية؟
المراجع:
Ernest Cassirer, Essai sur l’homme, Editions. De minuit 1975 , Paris,Chevalier, A.Gherbranti, Dictionnaire des Symboles, tra