16 مايو 2015 بقلم
محمد مسعد العربي قسم:
الدين وقضايا المجتمع الراهنة حجم الخط
-18
+ للنشر:تشير العديد من أدبيات علم الاجتماع الديني والاجتماع السياسي ودراسات الحركات الدينية إلى قصور مفاهيم مثل العلمانية والدولة المدنية والحكم الديني عن تفسير العديد من ظواهر وجود الدين وفاعليته في المجال العام للدولة الحديثة، وينبع هذا القصور من أنّ هذه المفاهيم قد تمّ إنتاجها على نحو ضدي يناقض كلّ واحد منهما فيه الآخر، لوقوعها في القلب من الجدالات بين الثنائيات الفكرية خاصة في حالة الفكر العربي المعاصر. ومن ناحية أخرى، يعبّر واقع المجتمعات المعاصرة عن تجاوز مركّب لهذه المفاهيم النظرية على نحو يستدعي إعادة تأطير المفاهيم الكائنة وصياغة مفاهيم مركّبة لتواكب تعقد الواقع الاجتماعي والسياسي وتغيره السريع. من بين هذه المحاولات ما قام به عالم اجتماع الشرق الأوسط آصف بيات عندما استخدم مفهوم الدولة العلمادينيّة Seculareligious State (العلمانية الدينية)
1عند دراسته واقع تطور الدين والتدين في المجال العام في مصر في العقود الأربعة الأخيرة. وعلى الرغم من أنّ بيات لم يقم بتنظير للمفهوم منفصل عن تحليل آليات تدين المجال العام في مصر على خلفية صراع الدولة مع حركات الإسلام السياسي والتحولات الخطابية التي أصابت الدولة والمجتمع والإسلام السياسي، إلا أنّ المفهوم يشير إلى العديد من عناصر الجدل الفكري السائد حتى الآن، خاصة علمانية الدولة وتدينها بعد انفجار جدالات ما بعد ثورة يناير 2011، وما أعقبها من تحولات سياسية أطاحت في النهاية بحكم الإسلام السياسي، وأنتجت نظاماً معبّراً عن الدولة والتباس علاقتها بالدين كسلوك في المجال العام وكمؤسسات عاملة فيه.
ويسعى هذا المقال إلى تجلية هذا المفهوم وتبيان أبعاده وما ينطوي عليه من إشكالات، وكذلك علاقته بمفاهيم أخرى تعالج قضيته مثل مفهوم الدين العام Public Religion، لدى خوسيه كازانوفا، وأخيراً أوجه قصوره عن تفسير الواقع الحالي. من خلال العناصر الآتية:
- "العلمادينة" كما قدّمها بيات
- إعادة تعريف العلمانية
- العلمادينية والدين العام
- نقد المفهوم
في دراسته لتطور الحالة الإسلاميّة في كل من مصر وإيران منذ سبعينيات القرن العشرين حتى العقد الأول من الألفية الحالية، والتي انتهت باضطرابات الثورة الخضراء في إيران 2009-2010، وثورة يناير 2011 في مصر، تحدّث آصف بيات عن عمليات أسلمة قام بها نظام الثورة في إيران 1979، ونظام الحكم السلطوي في مصر. قلبت عمليات الأسلمة في الحالة الأولى إيران رأساً على عقب حيث أسّست لنظام ثيوقراطي ديني قائم على ولاية الفقيه وحكم الملالي، وتقييد الحريات العامة وتحجيم حقوق المرأة والهيمنة الإيديولوجية على المجال العام، من خلال إطلاق القوى الشعبية الثورية في الشارع والجامعة والمدرسة، فضلاً عن أسلمة القوانين العامة على أنقاض نظام الشاه العلماني. كانت الأسلمة في إيران أعنف وأسرع، ومختلفة في منطقها وأهدافها عمّا جرى في مصر في الفترة ذاتها.
وقع في مصر على مدى عقود ما يطلق عليه بيات "ثورة إسلامية سالبة"، نتج عنها "تديين الدولة ودولنة الدين"، في إطار ظاهرة الدولة العلمادينيّة، وهي ظاهرة تشكلت كتحول في بنية وخطاب الدولة المصرية نتيجة لعاملين أساسييْن:
يتمثل الأول في أزمة الشرعية التي أثارتها المعارضة الإسلاموية، والثاني تدين قطاعات واسعة في أجهزة ومؤسسات الدولة سواء في الطبقة السياسية أو في الجهاز البيروقراطي. وتفاعل العاملان على خلفية مجتمع اجتاحت قطاعات عريضة منه مشاعر مختلطة من التدين والقومية مشكلة اتجاها أهلانيّاً Nativism يضع الذات في مواجهة الآخر، خاصة مع ازدياد موجات الاغتراب الثقافي والانقسام الاجتماعي على خطوط عديدة.
بدأت الدولة وفقاً لبيات في التعبير عن تدينها مع إقرارها الشريعة باعتبارها المصدر الرئيس للتشريع في دستورها (دستور 1971- وتعديلات 1980). وعلى الرغم من إقرارها بالإسلام ديناً رسميّاً لها وإظهار قيادتها للتدين والتشجيع عليه، إلا أنّها جوبهت بجماعات إسلامية متشددة تطعن في شرعيتها، بل ترفض أساسها القومي الحداثي بدعوى جاهليته ومخالفته للنظام الإسلامي، ومع تفشّي خطر هذه الجماعات التي قامت باغتيال رأس الدولة (1981)، ومحاولتها إقامة نظام إسلامي شبيه بزميله الإيراني من خلال ثورة عسكرية، لجأت الدولة إلى جانب عزمها على سحق هذه الجماعات أمنيّاً، إلى المناورة مع الحركات الإسلامية المعتدلة، فتسامحت معها سياسيّاً، وفسحت لها مجال الحركة اجتماعيّاً. "في ذروتها، لم تستولِ الحركة الإسلاموية على مساحة كبيرة من المجتمع المدني فقط، لكنها أثرت على الدولة بشكل كبير بما عساه يجعلها تتلاءم مع الخطاب الإسلامي، بل وتستولي عليه بشكل أكبر. فلم تجعل الإسلاموية الدولة فقط تتعايش مع حساسيات المجتمع الطاغية فقط، لكنها ساعدت، من خلال اختراق أجهزة الدولة، على خلق نوع من الدولة العلمادينيّة"
2 .
إنّ حالة تديين المجال العام قد اتضحت في الهيمنة الإسلاموية على عدد من النقابات والمؤسسات الخيرية والاجتماعية، والأهم التغلغل داخل المؤسسات التعليمية؛ حيث هيمن ذوو الميول الإسلاموية والمحافظة الدينية على المدارس، كما تزايدت المدارس الإسلامية، وقد توزات هذه الحالة مع منح الدولة مساحة أكبر لمؤسساتها الدينية الرسمية وعلى رأسها الأزهر ودار الإفتاء، وفيما راحت هذه المؤسسات تناهض التطرف الديني من ناحية، فقد استغلت الفرصة لتمارس بناء سلطة رقابة معنوية على المجتمع، في مقابل ما تضفيه من شرعية على النظام الحاكم، وهو النزوع السلطوي الذي مارسته بقية أجهزة الدولة باميتاز، حيث "لم تغادر الدولة فرصة إلا واستغلتها في إظهار كونها حامية القيم الدينية والأخلاق. ولم يكن احتضان النخب السياسية للإسلام يهدف ببساطة إلى تأمين الشرعية السياسية، لقد عكس هذا الاحتضان صدق إيمانها بالرقابة الدينية على المجتمع"
3 .
تجلت الرقابة المعنوية/ الدينية التي مارستها الدولة وحلفاؤها الدينيّون في العديد من قضايا الرقابة على الإبداع الفني والفكري، وسماحها بالحسبة التي مارسها الشيوخ والمحامون ذوو النزعة الأصولية المحافظة على العديد من الكتّاب والفنانين بدعوى الحفاظ على "الشخصية الأخلاقية للمجتمع"، وهي الذريعة نفسها التي سيقت لمطاردة الممارسات الدينية أو الأخلاقية الخارجة عن "الإسلام الرسمي"، يلخص بيات هذه الظاهرة التي ما زالت مسيطرة على سلوك الدولة وخطابها قائلاً: "لقد أجبرت النخب السياسية على تبني خطاب ديني من أجل استعادة السيادة المعنوية على المجتمع وتأمين الشرعية السياسية، لكنها كيّفت في هذه العملية على أن تفكر وأن تعمل على نحو متدين. وبالتالي، امتلكت الدولة نزعة "علمادينيّة" فصامية: إنها تتبنى قوانين لها جذور في كلٍّ من القيم الدينية والعلمانية، وتقيم سلطتها بناء على كلا الخطابيْن، وترهن نفسها بالالتزام بكل من المعايير والتوقعات الدينية والعلمانية العالمية"
4.
على هذا يمكن القول إنّ مفهوم الدولة العلمادينيّة عند بيات يشير إلى ظاهرة تتشابك فيها وظائف الدولة الثيوقراطية وخطابها ببنية الدولة العلمانية. ويحتوي هذا المفهوم على عدة إشكالات لعل أهمها أنّه يعيد تعريف مفهوم علمانية الدولة.
على نحو دال وقاطع، عبّر القائمون على الدولة في مصر، عن كون النظام لن يسمح بقيام دولة علمانية، وأكّد شيخ الأزهر السابق في أكثر من مرّة أنّ الأزهر في مصر لا يقبل الفصل بين الدين والدولة. مثل هذه التأكيدات إلى جانب وجود نصوص دستورية وقانونية ومؤسسات دينية تديرها الدولة وتتحكم فيها، تنفي أن تكون مصر دولة علمانية. ففيمَ كانت علمانية الدولة التي جرى تديينها فأنتجت هذه المركب الهجين العلماديني الذي يتحدث عنه بيات؟ في الواقع يستبطن مفهوم بيات أنّ علمانية الدولة في مصر أبعد ما تكون في جوهرها أو شكلها هذا عن الفصل بين الدين والدولة، أو الحكم والمؤسسات الدينية. ولم تشهد مصر على امتداد تكوين دولتها الحديثة هذا الفصل على مستويات عديدة.
يستبطن مفهوم بيات علمانية تقوم على دولة منفصمة الصلة عما سبقها من كيانات سياسية تحكم باسم مُثل متجاوزة مطلقة كالشريعة والإسلام، أو باسم كيانات وروابط تقليدية، وهي دولة مركزية قامت على تحديث المجتمع التقليدي، ودمج مكوناته المنعزلة (الطوائف) في بنيتها، من خلال القضاء على الجماعات التقليدية الوسيطة التي تقف بين الأفراد "المواطنين" والسلطة المركزية ومؤسساتها الحديثة التي حلت محلّ المؤسسات والروابط التقليدية. لقد خلقت هذه الدولة شعبها على نحو سلطوي، وأضفت عليه هويّة قومية متخيلة موحدة. يترادف هذا التعريف مع الدولة القومية الحداثية التي بدأ بناؤها في مصر منذ دولة محمد علي في بداية القرن التاسع عشر، وقامت بعمليات تحديث وعلمنة للمؤسسات حتى سبيعينات القرن العشرين.
لم تقم هذه الدولة على تضاد أو رفض للدين، على النحو الذي قامت به نماذج التحديث وبناء الدول في فرنسا (الثورة الفرنسية) أو في تركيا، (الكمالية العلمانية) بل إنها، ولأسباب متعلقة بوقوع هذا التحديث في إطار إصلاحات في العالم العثماني بعد احتكاكه بالغرب، والأهم لأسباب متعلقة برؤية التحديث داخل النخبة السياسية العثمانية ومن بعدها المصرية، قامت بتوظيف الدين كخطاب وكمؤسسات في إطار عملية التحديث وأدمجت مؤسساته التقليدية داخل مؤسساتها بالتدريج، وبالتالي لم تنفصم عنه بل ألحقته بها، وجعلت من النخبة الحاملة إياه موظفي دولة، لكنها أزاحته من موقع المرجعية النهائية للسلطة، وجعلت من نفسها مرجعية القوانين والسلوك العام للمؤسسات والأفراد.
يرى الباحث شريف يونس في دراسته عن أزمة التحديث السلطوي والدولة والإسلام في مصر "أنّ الدولة القومية الحديثة دولة علمانية بعمق؛ أي أنها كذلك بصرف النظر عن الشعارات والجدل، لأنها علمانية في بنيتها نفسها. وهي بالضبط علمانية بقدر ما تكون قومية، ليس لأنّ القومية في حد ذاتها لها موقف سلبي أو إيجابي من الدين، لكن لأنّ الجماعة القومية تكون قومية بقدر ما تتخيل وحدتها تجريداً نابعاً منها، لا خارجيّاً عنها؛ فهي لا تنتسب مثلاً إلى طوطم أو إلى أحد الأسلاف أو إله. يتمثل المواطنون الوطنية من خلال رموز متداولة مثل العَلم والنشيد والخريطة والمتحف والصحف الوطنية التي تقرأ في أنحاء البلاد ثم الإذاعة والتلفزيون وغيرها. وتجري عملية التوحيد القومي من خلال عناصر موحدة على رأسها التجنيد والتعليم العام والتعامل اليومي مع جهاز دولة تحكمه القوانين والإجراءات نفسها، سواء في الشارع أو في المصالح الحكومية أو في مختلف أشكال النشاط"
5.
على أنّ علمانية الدولة القومية لا تعني حيادها تجاه مكوناتها الدينية والقومية، فالدولة تمثل بناءً فوقيّاً يعوم على تكوين اجتماعي له تراثه وسماته الخاصة الأبعد جذوراً من السلطة الحداثية المركزية، وفي مراحلها التكوينية الأولى عادة ما تستعير الدولة النظم التقليدية السابقة عليها وتقوم بمأسستها، ثم بإعادة إنتاجها، وتتضح هذه العملية في تاريخ التشريعات أكثر من أي عنصر آخر من عناصر الدولة. على امتدادها حافظت الدولة المصرية الحديثة على الإسلام باعتباره مكوّناً أساسيّاً من مكونات "الشعب" الذي شكلته، كما أدمجت الاجتهادات التشريعية الإسلامية في بنيانها التشريعي إلى جانب التشريعات والنظم القانونية المستوردة من الغرب. هذا بالإضافة إلى أنّ دساتير الدولة في أكثر مراحلها علمانية لم تتجاهل الإسلام وجعلته ديناً رسميًاً لها. لذا، فإنّ ظاهرة الدولة العلمادينيّة ليست وليدة القرون الأخيرة بقدر ما هي ممتدة الجذور.
ويمكن القول إنّ الظاهرة التي يتحدث عنها بيات تتعلق بالمجال العام للمجتمع أكثر مما هي متعلقة ببنية الدولة، وبنمط تعامل الدولة في هذا المجال من حيث سماحها أو عدم سماحها بتديينه، أكثر من تحولات واقعة في بنيتها. وبالتالي يمكننا النظر إلى ظاهرة الدولة العلمادينيّة من منظور آخر طرحه خوسيه كازانوفا في كتابه: "الأديان العامّة في العالم الحديث"
6 .
يناقض كازانوفا المنظور الليبرالي التقليدي في تمييزه بين الخاص والعام، ووضعه الدين في دائرة الخاص الشخصي والمنزلي، حيث يصبح ما خارجه مجالاً عامًاً. هذا التمييز ناتج عن تصور ضيق لكل العلاقات السياسية بما فيها الدينية؛ حيث يتمّ التمييز فقط من جهة خطوط الفصل القانونية- الدستورية؛ بيد أنّ مشكلة العلاقة بين الديني والسياسي لا يمكن أن تختزل ببساطة في مسألة الفصل الدستوري بين الكنيسة والدولة
7. حيث تتصاعد حالة من "تعميم الدين" أي إدخاله في إطار المجال العام. ويعيد كازانوفا صياغة مفهوم روسو عن "الدين المدني"
8 ليقدم نظرية "الدين العام".
انقضت المراحل التاريخية التي وقع فيها الدين في مواجهة التنوير الحداثي الذي أقصاه من الهيمنة على المجتمعات الغربية، واستوعبت الكنيسة كلّ النقد التنويريّ له، وأصبحت مقرّة بالأسس العلمانية للمجتمع والدولة، بل تخلت عن "هويتها الذاتية، أي كجماعة دينية إلزامية، ومنظمة مليّاً، ومتساوية الامتداد مع الجماعة والدولة"، ومن ناحية أخرى ساهمت الكنيسة الكاثوليكية "في الحد من النزعات الاستبدادية التي تتجلى في الدولة الحديثة سواء في شكلها البولندي الشيوعي أو في شكلها المنادي بـ"الأمن القومي"، كما في أمريكا اللاتينية". كلّ هذا أدّى إلى عودة الدين إلى المجال العام من خلال عملية التعميم التي يقصد بها كازانوفا "العملية التي يتخلى بواسطتها الدين عن موقعه المحدد في النطاق الخاص، ويدخل في النطاق العام غير المتمايز للمجتمع المدني من أجل المشاركة العملية في المسيرة المتواصلة للمعارضة والشرعية الخطابية وإعادة رسم الحدود"
9.
ويقدّم كازانوفا في دراسته لحالة التعميم هذه نموذجاً لعملية تعميم الدين لخمس حالات في العالم الغربي شماله وجنوبه هي: الكاثوليكية الإسبانية، والكاثوليكية البولندية، والكاثوليكية البرازيلية، والمسيحية الإنجيليّة، والكاثوليكية في الولايات المتحدة. وهي حالات تتراوح فيها عملية "تعميم الدين" بين مساندة المؤسسات الدينية للتحول الديمقراطي بدعم حركات التحول أو الانفصال عن السلطة الاستبدادية، والمشاركة في الحركة التحررية مثلما هو شأن "لاهوت التحرير اللاتيني"، أو المشاركة في المجتمع المدني وإعادة تشكيل اليمين الديني السياسي، كتحالف اليمين الإنجيلي مع المحافظة الجديدة في الولايات المتحدة. ويمكننا تلمّس عدة اختلافات جوهرية بين هذا المفهوم ومفهوم الدولة العلمادينيّة لدى بيات، هذه الاختلافات تمثل فروقاً جوهرية بين حالتي وجود الدين في المجال العام في الدول التي تناولها كازانوفا، والحالة المصرية التي بنى عليها بيات مفهومه، ولعل أهمّ هذه الاختلافات هي التالية:
- عبّرت الدولة العلمانية الدينية عن قصور في شرعية الدولة تمّ علاجه عبر اللجوء إلى المؤسسات والجماعات الدينية وتبنّي خطابها، وبالتالي لم يكن حضور الدين في المجال العام أو في خطاب الدولة ومؤسساتها إلا تأكيداً لسلطوية الدولة التي راحت توسع من سلطتها المعنوية والأخلاقية على المواطنين. أمّا الدين العام فهو مفهوم أكثر إيجابية من منظور الحداثة الليبرالية، حيث قام بدور إدماجي لجماعات سياسية واجتماعية وحركات دينية في منظومة الدولة الديمقراطية.
- فيما عبّر المفهومان عن عملية تأثر الدولة بتدين المجتمع Socialization of the state وبتأثير الحركات الدينية المنظمة على سياساتها وخطابها، إلا أنّ الدين العام يعبّر عن توازن بين الدين والدولة، وهو توازن محكوم بالوضع الدستوري العلماني الفاصل بين الدولة والكنيسة. أمّا مفهوم "الدولة العلمادينيّة"، فهو تعبير عن دولنة الدين؛ فالدين ومؤسساته جزء من أجهزة الدولة. وبهذا يصبح الفارق بين المفهومين هو فارق دستوري ديمقراطي قوامه الفارق بين بُنيتيْ الدولة الحداثية السلطوية والدولة الحداثية الديمقراطية.
- استبطن الدين العام إعادة تأويل للدين على أسس ديمقراطية استيعابية تحررية، وربما تكون حالة الأصولية البروتستانية الغربية شاذة عن هذه الحالة، حيث تمّت إعادة تقديم الإيمان القويم بكلّ ما يحوي من مضادة للأفكارة التقدمية. أمّا الدولة العلمادينيّة، فقد حافظت على فهم أصولي للدين، وهو هنا الإسلام بما رسخ التأويل الأصولي له بل ودفعت نحو مأسسته هذه السلطة، ومنحها سلطة الرقابة على المجتمع لتقويمه حسب رؤيتها، وهو وجه هام للمسألة الدينية في مصر تناوله بيات بمهارة. 10
لذا يبدو أنّ مفهوم الدولة العلمادينيّة تجسيد أقرب لحالة التفاعل السلطوي بين الدولة والمجتمع. وعلى الرغم من تفسيرية المفهوم بالنسبة للحالة المصرية أو حتى غيرها من حالات عربية
11، إلا أنّ المفهوم يغفل بنيوية التفاعل بين الدولة والإسلام في مصر منذ نشأة الدولة الحديثة في مصر وعلى مختلف مراحل تطورها المختلفة، فقد اقتصر توصيف بيات على الفترة التاريخية السابقة على ثورة يناير 2011، عندما أشار إلى أنّ هذه الدولة تأسست بناء على أزمة الشرعية في مواجهة الحركات الإسلامية السياسية، خاصة العنيفة منها وبناء على تدين الجزء الأكبر من القائمين على الدولة في النخبة السياسية والجهاز البيروقراطي، وربما الأمني أيضًا، إلا أنّه أغفل أنّ علاقة الدين الملتبسة بالدولة أقرب إلى المركّب الجيني في جسد الدولة حتى في أكثر مراحل الدولة علمنةً. يقول شريف يونس في دراسته سابقة الذكر: "لم تكن الدولة المصرية الحديثة أصلاً دولة علمانية أو دولة مواطنة بشكل كامل، فلم ينشأ أبداً زواج مدني، ولا قوانين موحدة للأسرة غير تابعة للديانات، ولم يتح فيها للأفراد حرية الاعتقاد واقعيّاً في معظم تاريخها. وقد نصّ أول دستور متكامل لمصر (1923) على أنّ الإسلام دين الدولة".