24 يونيو 2015 بقلم
جاد الكريم الجباعي قسم:
الدين وقضايا المجتمع الراهنة حجم الخط
-18
+ للنشر:لا يزال الدين يشكّل وجدان المؤمنين في «مجتمعات الكتاب المنزّل»، وغيرها، ويحدّد قيمهم الأخلاقية؛ ولا يزال الإيمان الروحي وازعاً أخلاقياً. فما الذي يشكّل وجدان أتباع المذاهب غير السماوية، ووجدان اللادينيين، أو الملحدين، ويحدّد قيمهم الأخلاقية، ومن الحيف والغلو أن يفترض أحد تجرّد هؤلاء، جملةً، من الأخلاق؟ أهو العقل أو العلم أو الفلسفة أم هو ما يشكّل وجدان هؤلاء، ولا سيّما اللادينيين والملحدين، كما يدّعي بعضهم؟
يقول الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفري: "بالطبع أنا ملحد؛ أنا أناضل لسنوات لتعزيز القيم الأخلاقية، التي أفصلها عن الأخلاق الدينية، التي استمرّت لعدة قرون...، لقد سمحت أعمال كلّ من لودفيغ أندرياس فيورباخ، ونيتشه، وماركس، وفرويد، عن الإله والأديان، برؤية الأمور بطريقة أقلّ لاهوتية، وأكثر فلسفية. نحن لسنا في حاجة إلى إله لنتمتّع بالأخلاق"
[1]. ويشايعه، في ذلك، كثيرون، معتدِّين بالعقل حيناً، وبالعلم حيناً آخر، وبالفلسفة حيناً ثالثاً.
فلو قارنا قوله هذا بقول كانط: "ليس الإنسان في حاجة إلى فلسفة، ولا إلى علم، كي يعرف ما ينبغي عليه أن يفعل كي يكون أميناً وخيّراً؛ لا بل ليكون حكيماً وفاضلاً...
فملكة الحكم العملية تتقدّم، في الفهم الإنساني، على ملكة الحكم النظري"
[2]، لبدا الفرق واضحاً بين تأسيس الأخلاق على ممكنات الطبيعة البشرية، وسيرورة تحسّنها، وبين تأسيسها على الفلسفة، أو العلم. فإنّ تأسّيس الأخلاق على الفلسفة، أو على العلم، يستبعد العناصر اللاأخلاقية فيهما، ويضفي عليهما قداسة ومعصوميّة ليست لهما. اللاأخلاقية، كالأخلاقية، حقيقة بشرية، فالفلسفة التقليدية، في معظمها، كانت تزدري المرأة، على سبيل المثال، وقد جاء وقت كان الفلاسفة فيه يناقشون مسألة «هل للمرأة روح؟»، ومن قالوا إنّ لها روحاً شبّهوها بروح الحيوان، أو النبات.
"العقل أعدل الأشياء توزّعاً بين الناس؛ إذ كل فرد يعتقد بأنّه قد أوتي منه الكفاية، والذين يصعب إرضاؤهم بأيّ شيء آخر، ليس من عادتهم أن يرغبوا في أكثر ممّا أصابوا منه"
[3]، فادّعاء اللادينيين، أو الملحدين، أنّ العقل مصدر أخلاقهم؛ ينطوي ضمنياً على إنكار أنّ المؤمنين والمتدينين يشاركونهم هذه الصفة النوعية للكائن الإنساني. وحين يطعن المتعصّبون دينياً، أو مذهبياً، في أخلاق اللادينيين والملحدين، إنّما يطعنون في إنسانيتهم أيضاً. هذا الإنكار المتبادل يطرح مسألة العقل والأخلاق؛ بل مسألة الأخلاق، بما هي «عقل عملي»، بتعبير كانط. فلعلّ طرح المسألة، على هذا النحو، يخرجنا من أسر الإشكالية الزائفة، التي تفترض تناقضاً بين العقل والدين، ومن ثمّ بين العلمانية والدين.
مرَّ حين من الدهر كانت فيه الحياة الجمعية نوعاً من تجربة دينية خالصة، كما يعلمنا التاريخ العام، وتاريخ العقائد والأفكار الدينية
[4]، فمن أين جاءت الأخلاق المدنية، أو كيف تشكّل «العقل العملي» في الحواضر والمدن القديمة والحديثة، وهل مجرّد نشوء الحواضر والمدن يولِّد أخلاقاً مدنية؟ ثمّة حواضر ومدن كثيرة جداً، في عالم اليوم، تغلِب عليها الأخلاق الدينية، (لم نجد تعبيراً أفضل)، ما يعني أنّ الأخلاق المدنية لا تنتج من نشوء الحواضر والمدن بالضرورة. فلعلّ المسألة، إذاً، في عوامل نشوء الحواضر والمدن، لا في نشوئها ذاته. لذلك لا يستقيم وضع المسألة، الذي يعين طريقة حلها، من دون التفرقة بين المدنية، أو الحضارة، أو الثقافة، أو «العقل المؤسَّس»، وبين سيرورة التمدّن، وهي سيرورة تاريخية، تحكمها الروح الإنسانية، بما هو كون مفتوح على جميع الجهات، وعصيّ على التحديد؛ إذ كلّ تحديدٍ تقليصٌ وحصر. الذين يرفعون راية «العقل»، و«العقل الكلي»، يقلّصون الروح الإنسانية، ويقلّصون العقل ذاته، أحياناً، إلى عقل أداتيّ، ويجرّدونه من الأخلاق.
إذا كان الأمر كذلك، فإنّ "الروح الإنسانية هي التي تسري في الدين"، حسب كارل ماركس
[5]. ومن ثمّ فإنّ الأخلاق المدنية ليست شيئاً آخر سوى الروح الإنسانية، التي تسري في الدين، وتتحقّق، أو يمكن أن تتحقّق، في الواقع المعيش، في أيّ زمان ومكان. فليس من الصواب أن نحذف الدين من تاريخ البشرية، ونتجاهل آثاره العميقة في حياة الأفراد والجماعات، والمجتمعات، المتقدّمة منها والمتأخرة على السواء. وليس من الصواب، أيضاً، أن ننفي تاريخية الدين، وتحولاته على مرّ العصور، تبعاً لتاريخية المعرفة، أو «تاريخية العقل»، بتعبير صادق جلال العظم
[6].
عملية تحقّق الروح الإنسانية، أو تعيُّنِها في الواقع المعيش، هي عملية التموضع، أو التعيُّن، التي تصير بها الروح الإنسانية موضوعيةً، وتصير بها الأخلاق الذاتية أخلاقاً موضوعيّة، حسب هيغل، ولم يكن ماركس بعيداً عن ذلك، حين عالج مسألة الاغتراب في المخطوطات الاقتصادية والفلسفية للعام (1844م)، ومسألة التشيّؤ في رأس المال. وإنّ تموضع الروح الإنسانية، في الحياة الاجتماعية، في المجتمع والدولة، هو، بالأحرى، سيرورة تاريخية متّصلة، لا تفتر، ولا تني، ولا تنقطع، ولا تنتهي، إلا بافتراض زوال البشر من على هذا الكوكب. والروح الإنسانية لا تتموضع في الأخلاق فحسب؛ بل في الفكر، والأدب، والفنون، والعلوم، وفي كلّ ما ينتجه الإنسان؛ لذلك وصف ماركس المجتمع المدني والدولة معاً بأنّهما الإنسان مُموضعاً.
يحيلنا ما تقدّم على مسألة الاغتراب، التي قلّما تحظى بالاهتمام الذي تستحقه من المفكرين العرب، ولا سيّما اليساريين منهم، مع أنّ الاغتراب أساسُ ظهور الملكية الخاصّة، كما يصرّح ماركس، وأنّ الغاية الأخلاقية من إلغاء الملكية الخاصّة لوسائل الإنتاج هي حذف اغتراب الإنسان عن عالمه، وعن ذاته؛ ولذلك يُعدّ ماركس من كبار الإنسانويين، كما يشهد بذلك خصومه، علاوة على أصدقاء فكره، والمتأثرين به.
يقول ماركس: "الاغتراب في الدين هو أوّل أشكال الاغتراب، وهو أساس جميع أشكال الاغتراب". هذه العبارة تدلّ، دلالة واضحة، على قوله الآنف ذكره: إنّ الروح الإنسانية هي التي تسري في الدين؛ أي إنّ الدين هو تموضع الروح الإنسانية في العالم، وفي الحياة الاجتماعية، والثقافية، والسياسية، للجماعات المختلفة، والمجتمعات المختلفة. وعلى هذا الأساس، كان ماركس يعتبر الديمقراطية تحقُّقاً مدنياً للأخلاق الإنسانية، والقيم الإنسانية، التي ينطوي عليها الدين.
من البداية، ربطنا الدين بالوجدان الفردي، أو الضمير الفردي، الذي ليس سوى معطى اجتماعي تاريخي، يتشكّل بالتربية، والثقافة، والتعليم، والتلقين...، في زمان ومكان محدّدين، ولكنه وجدان فردي، أوّلاً، وأساساً. صفة الفردية، هنا، بما تنطوي عليه من حريّة نسبيّة، واستقلال نسبي، علامة أخرى على الأخلاق المدنية، لأنّ الفردية، بهذا المعنى، نتاج تطوّر تاريخي، أو نتاج عملية أو سيرورة تمدّن مطردة، على الرغم ممّا يتخللها من انتكاسات، على نحو ما نرى اليوم؛ بل يمكن القول: إنّ الفردية، بما هي حرية نسبية، واستقلال نسبي، مُنجَز مدني حديث، على اعتبار أنّ الفرد الإنساني، أنثى كان أم ذكراً، هو الأنموذج الكامل للإنسان، بصرف النظر عن أصله، وفصله، وجنسه، ولون بشرته، أو أيّ اعتبار آخر.
سيرورة التمدُّن هي سيرورة نشوء «الصداقة المدنية»، التي تتجلّى في المواطنة، كما تتجلى في العدالة، بما هي؛ أي الصداقة المدنية، اعتراف متبادل بين الأفراد والجماعات بالمساواة في الكرامة الإنسانية، والكرامة الوطنية، والحقوق المدنية والسياسية، ونزوع أصيل إلى التضامن، والتعاطف، والتعاون، والتشارك الحرّ، ولا قيمة أخلاقية للوطنية والمساواة السياسية، من دون المساواة في الكرامة الإنسانية، ولا قيمة أخلاقية للمواطنة، من دون العدالة. وهنا تتموضع، على وجه التحديد، مساواة المرأة بالرجل.
فالتمدُّن، إذاً، هو الشرط اللازم أو الضروري لنشوء الأخلاق المدنية ونموّها، وهو معيار المدنية المتحقّقة بالفعل، لا العقل، ولا العلم، ولا الفلسفة، ولا مجرّد نشوء الحواضر والمدن، ولا مجرد نشوء «المجتمع المدني» أيضاً، فالعقل والعلم يمكن أن يتّجها إلى ما يناقض الأخلاق الدينية منها والمدنية على السواء. والمجتمع المدني لا يطابق مفهوم التمدّن؛ إذ التمدن، في مقاربتنا، هو معيار تأنسن المجتمع المدني، والنأي المطّرد عن «الحالة الطبيعية»، أو الغريزية. لذلك كان اقتران العقل والعلم بالأخلاق ضمانة لعدم جنوحهما إلى الشر والرذيلة، وكان المجتمع المدني محرزاً إنسانياً يجب الدفاع عنه، وكسبه كلّ يوم. ولعلّه من غير الصواب أن نضفي على العقل والعلم، أو أيّ مفهوم آخر، قيمة إيجابية مطلقة.