كانت الأنسية، كما هو معروف، أبرز الأبعاد الفكرية
التي ميزت عصر الأنوار في أوروبا القرن الثامن عشر. والأنسية، بتعريف
أحد القواميس العربية المعاصرة، إنما هي مذهب فلسفي يضع الإنسان والقيم
الإنسانية فوق كل اعتبار . وهو تعريف صحيح، إذ كانت غاية الأنسية تخطي
عقائد الانتماء التي كانت سائدة في العصور الإقطاعية، والتحرر منها.
فبعد أن تقاتل الأوروبيون طيلة قرون عديدة بدفع من الولاء لملك أو سيِد
إقطاعي أو ديانة أو شيعة أو طائفة أو إقليم أو بلد، دعا مفكرو الأنوار
إلي وضع الإنسان فوق جميع تلك الانتماءات، والاهتداء بعقيدة تصبو إلي
تحقيق خير الإنسانية جمعاء. وعلي العموم، لم تنبذ فلسفة الأنوار الدين
برمته، بل نبذت استعمال الدين أداة لقمع حرية الفكر والإبداع والبحث
العلمي وكذلك اختزال الإيمان الديني إلي تعصب حاقد للعقائد الأخري؛ كما
لم تنبذ الوطنية بحد ذاتها بل نبذت التعصب الإقليمي والوطني، ونبذت
معهما كل عقيدة من شأنها أن تشكل وقودا لنصرة مصالح ضيقة في حروب تسلط.
وقد رأي بعض مفكري الأنوار أن انتصار قيم الأنسية والحداثة السياسية ـ
وعلي رأسها الحرية والنظام الجمهوري . الذي يتميز أولا بمبدأ الفصل بين
السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية ـ سوف يؤدي إلي حلول
سلام أزلي.
ولعل أفصح تعبير عن أنسية عصر الأنوار الإعلان الشهير
الذي صدر عن المفكر الفرنسي مونتسكيو (1689ـ 1755) الذي كتب: لو عرفت
شيئا يفيدني ولكنه يسيء إلي عائلتي، لأبعدُته عن ذهني. ولو عرفت شيئا
يفيد عائلتي ولا يفيد وطني، لحاولت أن أنساه. ولو عرفت شيئا يفيد وطني
ويسيء إلي أوروبا، أو يفيد أوروبا ويسيء إلي الجنس البشري، لاعتبرته
إجراما .
وإذ شهد القرن التالي، التاسع عشر، صعود الإيديولوجيات
القومية، فلم يأت ذلك الصعود نقضا لفلسفة الأنوار، بل مواصلة لها علي
العموم، حيث أن قوميات ربيع الشعوب غلبت عليها الصفة التقدمية ، سواء
كانت قوميات تحررية أو قوميات توحيدية. وكان دعاتها إجمالا من
المتحمسين لقيم الأنوار بما فيها الكوسموبوليتية وحتي الأممية، بمعني
دعوتهم إلي تحرر أو توحيد جميع الأمم ـ علي غرار الإيطالي مزيني الذي
لم يقتصر نضاله علي توحيد أمته وحسب، بل حرص علي دفع الألمان
والبولنديين علي الطريق ذاتها المؤدية إلي تحقيق أوروبا الفتاة ، أو
أيضا الألمان الأمميين ماركس وإنجلس اللذين شاركا متحمسين في الدعوة
لتوحيد الأمة الألمانية في أواسط القرن، وهما يعولان علي تضامن عمال
جميع البلدان للإطاحة بسادتهم الطبقيين وصولا إلي صهر جميع الدول في
عالم اشتراكي بلا حدود تفصل بين أممه.
صحيح أن مرحلة ما بين الحربين
العالميتين، في النصف الأول من القرن العشرين، قد شهدت انحطاط القومية
و الأممية البروليتارية إلي نقيضين للأنوار، أحدهما معلن والثاني
متظاهر بالوفاء لقيمها. بيد أن القيم هذه لم تنفك تتصارع مع نقيضيها
المنحطين، وقد أفضي هذا الصراع ـ حتي الآن علي الأقل، والصراع لا يزال
دائرا علي المستوي التاريخي ـ إلي تفوقها الأكيد، لا سيما علي ساحة
ولادة الأنوار بالذات. ذلك أن أوروبا التي انطلقت في النصف الثاني من
القرن العشرين علي طريق نبذ التعصب القومي وتوحدها بعد قرون من الحروب
الفتاكة بين أطرافها، قطعت أشواطا مذهلة علي دربها الجديد. أما النزعة
الأممية فقد ولدت ولادة ثانية في السنين الأخيرة بشكل حركة عالمية
تنادي بعولمة بديلة مبنية علي قراءة يسارية لقيم الأنوار، تضع العدالة
الاجتماعية في الصدارة لكن دون أن تقلل من شأن القيم الأخري بخلاف ما
فعل يسار الحقبة السابقة المتأثر بالتجربة الروسية.
وأما إذا نظرنا
إلي حال منطقتنا العربية علي ضوء الأنوار، لأصبنا بإحباط عميق. وكأن
المذهب السائد نقيض مباشر وكامل لإعلان مونتسكيو، يقول ما فحواه: لو
عرفت شيئا يسيء إلي الجنس البشري ولكنه يفيد أمتي، لاعتنقته بدون تردد.
ولو عرفت شيئا يضر بأمتي لكنه يفيد ديانتي، لسعيت إلي ترسيخه في ذهني.
ولو عرفت شيئا يسيء إلي ديانتي ويفيد طائفتي، أو يسيء إلي طائفتي ويفيد
قبيلتي أو بالأحري عشيرتي، لاعتبرته إحسانا .
ولعل أفصح تعبير عن
رجوع بلاد العرب القهقري وغرقها في انحطاط حضاري ما بعده انحطاط، هذا
الذي نجده في أصدق مقاييس التقدم الاجتماعي، ألا وهو وضع النساء. فكل
من سار في شوارع كبريات مدننا اليوم وتذكر حالها قبل نصف قرن من حيث ما
تكشفه للعين عن مكانة النساء وحريتهن، أدرك فطريا ماذا يعني ارتداد
المجتمعات إلي الوراء. كما أن هذا الارتداد يتضح بمجرد إلقاء نظرة علي
عناوين معركة التحرر من السيطرة الغربية، التي غدت معركة المصير
الرئيسية في الأقطار العربية منذ العقود الأولي من القرن العشرين
بالتزامن مع معركة نزع الاستعمار علي النطاق العالمي. فلما كانت
المعركة ضد الاستعمار القديم والجديد علي أشدها، بين الخمسينات
والسبعينات من القرن المنصرم، كانت العناوين السائدة في المنطقة
العربية تحيل جميعها إلي قيم وفلسفات مستمدة من عصر الأنوار: حزب البعث
العربي الاشتراكي؛ الاتحاد الوطني للقوات الشعبية؛ الاتحاد الاشتراكي
العربي؛ جبهة التحرير الوطني؛ حركة التحرير الوطني؛ الجبهة القومية
لتحرير...؛ الجبهة الشعبية لتحرير...؛ الجبهة الديموقراطية
لتحرير...
غير أن بعض تلك الحركات أصابه الإخفاق والنكوص وبعضها
الآخر شهد انحطاطا بلغ من العمق، في حالة حزب البعث الحاكم سابقا في
العراق، ما يناهز أدراك الانحطاط التي شهدتها أوروبا في ثلاثينات القرن
الماضي. وخلت الساحة تباعا لصالح تيارات وحركات تصدرت الاحتجاج الشعبي،
تشير أسماؤها بالذات إلي سلوك العرب طريق القهقري وإحرازهم معجزة الدفع
بعجلة التاريخ إلي الوراء ـ ولو بصورة خيالية مستمدة من هوس محض. فيكفي
النظر إلي عناوين القوي التي تقاتل بالسلاح أهم وأحدث احتلال يرزح تحته
بلد عربي، قصدت العراق بالطبع. إن معظمها مستمد من محاولة استنساخ
تاريخ يعود بنا قرونا عديدة إلي الوراء: تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد
النهرين؛ جيش محمد؛ جيش أنصار السنة؛ وهلم جرا... وربما كانت أقرب
تسمية إلي عصرنا تلك التي تحاول تقليد حدث لم يمض عليه سوي... ثمانين
سنة ونيف: كتائب ثورة العشرين التي لا تخلو هي أيضا من النسب الديني،
إذ أنها عنوان فرعي لحركة أطلقت علي نفسها اسم القوة التي تتصدر الآن
النضال الفلسطيني، أي حركة المقاومة الإسلامية .
فما سبب هذا
التقهقر الذي ما بعده تقهقر في زمننا الراهن؟ إنها بالطبع أسباب عديدة
ومركبة، لكنني سأكتفي هنا بتناول مظهرين رئيسيين للتقهقر، بعد دحض
تفسير آخر. المظهران هما، بحكم المنطق البسيط، إخفاق الحركات التي
استمدت فلسفتها من تراث الأنوار والانتصار الراهن لحركات تحمل برنامجا
اجتماعيا غارقا في الرجعية بكل معاني تلك الصفة؛ أما التفسير المردود،
فذلك الذي يحيل حال العرب الراهن، أسوة بسائر الشعوب ذات الغالبية
الإسلامية، إلي جوهر مزعوم للديانة الإسلامية. فبحسب هذا التفسير
الأخير، الذي يستوحي من الإستشراق القديم والجديد ومن نظرة لا تخلو من
الازدراء العنصري، تكمن العلة في الدين الإسلامي ذاته الذي يحول دون
انتشار إيديولوجيات الحداثة حيث يسود، وكأن الديانة المسيحية وعاء
طبيعي للتنوير. وما تغيبه هذه النظرية هو أن فلسفة الأنوار لم تظفر في
الغرب إلا بعد صراع طويل وشاق ضد الكنائس المسيحية، هذا وقد لعب يهود
أوروبا دورا بارزا في صياغة وإشاعة أفكار الأنوار والحداثة بالرغم من
أن الديانة اليهودية بحد ذاتها ليست علي الإطلاق بأقرب إلي الحداثة من
الديانات الأخري، إن لم تكن أبعد بحكم قدمها.
ويتناسي دعاة إحالتنا
إلي جوهر مزعوم للدين الإسلامي أن موجة حركات التحرر والتقدم التي
عرفها العالم الثالث في الربع الثالث من القرن العشرين بلغت بعض ذراها
في العالمين العربي والإسلامي. فلو اكتفينا بأبعد مخلفات عصر الأنوار
عن الدين، ألا وهو الفكر الشيوعي الملحد ، لوجدنا أن أكبر الأحزاب
الشيوعية غير الحاكمة في العالم كان في أكبر البلدان الإسلامية من حيث
عدد السكان، ألا وهو الحزب الشيوعي الاندونيسي قبل أن تقضي عليه مجزرة
هائلة نفذها انقلاب عسكري مدعوم أمريكيا في عام 1965 وأودت بحياة ما
يزيد عن نصف مليون إنسان. أما في منطقتنا العربية، فإن أكبر قاعدة
شعبية منظمة في عراق ما بعد ثورة 1958، كانت للحزب الشيوعي، وكذلك في
سودان الستينات قبل الانقلاب الدموي علي الشيوعيين ـ علما بأن البلدين
المذكورين لم يتميزا علي الإطلاق بمستوي متقدم من الحداثة أو من التحرر
من قبضة الدين علي المجتمع.
وإذا أخفقت التيارات والحركات التقدمية
في منطقتنا، فسبب ذلك يعود بالدرجة الأولي إلي قصورها الذاتي عن بعض
سمات الأنوار الرئيسية، لا بل خيانتها أحيانا لبعض بنود برامجها الخاصة
بها. فإن التيار القومي، حتي في الحالات التي انحط فيها إلي تقليد
إيديولوجيات التعصب القومي العنصري، قد مارس قطرية فعلية لا تقل ضيقا
عما مارسه الذين اعتنقوا علنا مبدأ وطني (قطري) أولا . لا بل سريعا ما
تحول التيار القومي في السلطة إلي الحكم بطرق لا تقل اعتمادا علي
الطائفية والقبلية والعشائرية عن طرق الأنظمة التقليدية التي نعتها
التيار ذاته بالرجعية. وجاء ذلك كله بالطبع في إطار طعن كامل بمبدأ
النظام الجمهوري . وقد اعتمدت الحركات القومية أسلوب الحكم الدكتاتوري،
وهي منبثقة مباشرة من الجهاز العسكري في غالب الأحيان وقد أرست حكما
مستندا إلي أجهزة المخابرات في جميع الأحوال.
أما الحركة الشيوعية
فلم تكن قط قادرة علي تمثيل قيم الأنوار المهجورة في منطقتنا، إذ أن
أمميتها انحطت إلي مستوي تبعية عمياء وتبريرية للاتحاد السوفييتي الذي
رأت فيه وطن الاشتراكية بخلاف حقيقة زادت فداحة مع الزمن. والحال أن
التيارات القومية ذاتها استوحت سمات رئيسية لنموذج الحكم الذي اتبعته
من تقليدها النموذج السوفييتي . فكيف بالشيوعيين يحتفظون بمصداقيتهم
وهم يرفعون رايات تحيل إلي قيم تم وأدها في البلد الذي رأوا فيه تحقيقا
لجنَة الخلد علي الأرض. وقد ادي بهم الأمر، بصورة منطقية، إلي إعلان
الولاء للأنظمة التي قلدت نموذجهم الأعلي، لا سيما أن هذا الأخير منح
تلك الأنظمة مباركته الكاملة.
هل يكفي ما سبق لتفسير السيادة
الحالية في حركة الجماهير العربية لتيارات تستوحي من القرون الوسطي
أكثر مما تستوحي من عصر الأنوار؟ قطعا لا، إذ أن إخفاق أمثال التيارين
المذكورين أعلاه فسح المجال في مناطق أخري من العالم أمام انتعاش بعض
قيم الأنوار التحررية ولو بصيغتها البرجوازية ـ أي بصيغة ليبرالية
سياسية يجري تصويرها خداعا علي أنها ملازمة لليبرالية الاقتصادية
القصوي، أي النيوليبرالية (والحال أن رائد الأخيرة العالمي كان
الدكتاتور التشيلي بينوشيه بينما كان أبرز ممثلي الليبرالية السياسية
المتنورة، في القرن العشرين، الرئيس الأمريكي فرانكلن روزفلت، وهو في
الوقت ذاته رائد تدخل الدولة الحديثة النشط في المجالين الاقتصادي
والاجتماعي). كما أن أمريكا اللاتينية تشهد الآن صعودا لموجة تجذر
يساري جديدة تواصل مسيرة التغيير الاجتماعي لصالح الشرائح الفقيرة في
إطار الديمقراطية السياسية الليبرالية، علي غرار تجربة سلفادور اللندي
في تشيلي التي سحقها الجنرال بينوشيه دمويا بدعم من واشنطن.
لماذا
إذن لا نري مثيل الظاهرات المذكورة في منطقتنا العربية، لا بل في معظم
البلدان الإسلامية؟ إن هذا التساؤل المشروع هو الذي عزز السفسطة
الإستشراقية المجددة التي تعزو وضع بلاد المسلمين المذري إلي الإسلام
ذاته. لكن الحقيقة التي يفضل طمسها دعاة النيوليبرالية التي دمجت
واشنطن رايتها بعلم الولايات المتحدة الأمريكية، إنما هي أن البلدان
العربية والإسلامية تشكل المنطقة الوحيدة من العالم التي لم تخض واشنطن
فيها حربها ضد الشيوعية وضد التيارات القومية التقدمية تحت راية
الليبرالية، أيا كانت صيغتها، بل خاضتها تحت راية السلفية الإسلامية
وذلك بالتعاون مع المملكة السعودية، أشد الأنظمة ظلامية في المنطقة.
وقد انقلب السحر علي الساحر، مثلما ارتد أسامة بن لادن علي أمريكا بعد
أن كان حليفا لها بامتياز في الحرب ضد الاحتلال السوفييتي لأفغانستان.
ولا بد للمرء من أن يكون في غاية السذاجة كي يعتقد صدقا أن واشنطن
تحولت اليوم إلي قوة تعمل علي إشاعة الديمقراطية في الشرق الأوسط
الكبير . حيث تثبت الوقائع كل يوم أن النفط هو في رأس سلم القيم التي
تهتدي بها الإدارة الأمريكية الحالية، شأنها في ذلك شأن سابقاتها، وأن
تلك الأولوية تجد تعبيرا عنها في استمرار التعاون المتميز بين واشنطن
من جهة، ومعظم الدكتاتوريات وأبرز القوي الظلامية من الجهة
الأخري.
أما اليسار، فإن احتفاظه بالقدرة علي تجديد زخمه في أمريكا
اللاتينية يتعلق بلا شك بكون النموذج الكوبي ، علي علاته وبحدوده
الأكيدة، لا زال نموذجا إيجابيا في نظر الغالبية العظمي من سكان جنوب
القارة الأمريكية، ليس لأدائه الاجتماعي وحسب بل أيضا وخاصة لصموده في
وجه الطغيان البغيض الآتي من شمال القارة ذاتها. والفرق شاسع بين صورة
اليسار هذه وصورة اليسار في المنطقة العربية حيث امتزج اسم الاشتراكية
في ذهن عامة الناس بالنموذج السوفييتي الأقرب والمفلس مرتين ـ مرة
كنموذج اشتراكي ومرة كنموذج أممي ـ وبمسوخه العربية التي، إذا طال
عمرها قبل سقوطها، تحولت إلي ما هو أقرب إلي الفاشية منه إلي
الاشتراكية، حتي بحلتها السوفييتية.
وبعد، فماذا نستخلص من هذا
التشخيص للداء في سعينا وراء تحديد الدواء؟ الأمر الأكيد الأوحد هو أن
ليس هناك من حل سحري لمشكلتنا: إن إعادة بناء حركة شعبية تحررية تقدمية
متنورة في منطقتنا العربية سوف تتطلب جهودا ضخمة، شاقة ومثابرة، علي
امتداد سنوات طويلة، كما سوف ترتهن إلي حد بعيد ببلوغ التيارات السائدة
اليوم حالة الإفلاس بدورها، وكذلك بتطور الحركة التقدمية الجديدة علي
المستوي العالمي بما يسمح بتجديد مصداقية الفكر اليساري عندنا. بيد أن
بعض المطلوب علي الأقل هو في غاية الوضوح: أول الشروط يقوم علي
الالتزام الصارم بالقيم التقدمية المستمدة من أنسية عصر الأنوار، جملة
وتفصيلا، بخلاف ما فعلته تيارات المرحلة التاريخية السابقة. ينبغي
العمل علي إفراز ثقافة وحركة ميدانية تطمحان إلي تحقيق سيادة الوطن
والنظام الجمهوري بتلازم لا ينفصم، مع السعي وراء توحيد البلدان
العربية في إطار لا يقل التحاما عما حققه الاتحاد الأوروبي، إن لم
يتعده بما تسمح به موضوعيا وحدة اللغة ويسمح به ذاتيا استنهاض الوعي
القومي الشامل بأفق أنسي يحترم حقوق جميع القوميات والأقليات. وإذا كان
للحركة العمالية أن تنهض في هذا السياق، فلن يكون ذلك إلا بوقوف
منظميها في طليعة المناضلين من أجل تحقيق مستلزمات التنوير في بلداننا،
أي إشاعة الحريات وفصل الدين عن الدولة وتحرر النساء، جنبا إلي جنب مع
دفاعهم المخلص عن مصالح الكادحين وشروط معيشتهم، كما فعل اليسار
الأوروبي في القرن التاسع عشر متحولا بفضل ذلك إلي قوة عملاقة.
إن
حجم هذه المهمة التاريخية كفيل بإحباط الكثير من الهمم، غير أن البديل
الوحيد هو استمرار غرق مجتمعاتنا في ردتها المرعبة نحو همجية تحفزها
همجية التسلط الغربي، وقد بات العراق مسرحا مميزا لتصادم الهمجيتين.
فإن تشاؤم العقل من شأنه أن يصبح بحد ذاته حافزا للإرادة، سواء كانت
متفائلة أم لا، عندما يقتنع الإنسان بضرورة العمل علي وقف الانحدار نحو
الكارثة.
ہ أستاذ العلوم السياسية في جامعة باريس الثامنة. صدر
له باللغة العربية صدام الهمجيات (دار الطليعة، 2002) و الشرق الملتهب
(دار الساقي، 2004).
ويستند هذا النص إلي مداخلة ألقيت في ندوة
اتجاهات حركة الفكر المعاصر في العالم العربي التي أقامها التجمع
الوطني الديمقراطي اللبناني في برلين، يوم الرابع من كانون
الأول/ديسمبر 2005، وذلك تكريما لذكري الفقيد جورج حاوي. وقد اندرجت
المحاضرة في قسم من الندوة كان عنوانه أسباب فشل وانتكاسة مشروع النهضة
والتنوير في العالم العربي وشروط استنهاضه من جديد
.
الثلاثاء ديسمبر 15, 2009 6:25 am من طرف ريحانة الحرية