شاع أخيرا استخدام مفهوم "الأمن غير التقليدي " "Non-Traditional Security (NTS)، في
مجال الدراسات الأمنية والسياسية، وأعدت في شأنه العديد من التقارير
والدراسات، وعقد العديد من المؤتمرات، بل وصار مجالا بحثيا عني به العديد
من المراكز البحثية، سواء التي تأسست خصيصا لدراسته، أو التي ضمنته في
برامجها البحثية والقضايا التي تعني بها.
إلا أنه بالرغم من كل تلك الجهود البحثية، فلا يزال
هذا المفهوم ملتبسا وغير منضبط بشكل تام، مما يصبغه بدرجة مرتفعة من عدم
الوضوح، سواء داخل الدوائر الأكاديمية أو خارجها. وعادة ما تتم الإشارة إلي
التهديدات والتحديات للأمن غير التقليدي في إطار الأمن الإنساني للتركيز
علي أمن الأفراد والمجتمعات والجماعات في مواجهة تهديدات تشمل الجريمة
المنظمة، والتدهور البيئي، وأزمات النقص في الموارد والكوارث الطبيعية،
والانتشار الوبائي، وما إلي ذلك من أنماط تهديدات لا ترتبط مباشرة بأنماط
التهديد العسكري أو الدبلوماسي التقليدية للدول.
ولعل السبب الرئيسي وراء هذا الالتباس، وهذه الحالة من
عدم الوضوح، لا يتعلق بغموض الظاهرة نفسها، بقدر ما يتعلق، حسبما يتضح من
هذا التعريف الأولي، بتداخل العناصر المكونة لها بين مجالات حياتية مختلفة،
مما يجعل تعريفها معقدا نسبيا، وفقا لتباين تأثير العناصر المرتبطة بكل من
هذه المجالات من حالة إلي أخري. وكذا، فإنه نظرا لكونها ظاهرة غير مستقلة
بطبيعتها، فإن تحديد نطاقها أو عناصرها يخضع لقدر كبير من التحكمية من جانب
الأطراف المعنية والمتأثرة بها، وهو ما يتباين بدوره من حالة إلي أخري.
أحد الطروحات الأولية في مجال تعريف التهديدات
والتحديات للأمن غير التقليدي هو محاولة تحديدها بالمقابلة مع التعريف
التقليدي للأمن، والذي تتوافر بشأنه أطر تعريفية واضحة تحظي بقدر كبير من
التوافق والاستقرار، بالنظر لما يدعمها من خبرات تاريخية وجهود تنظيرية
أكثر قدما ورسوخا. ويتعلق الأمن التقليدي أساسا بحماية وجود الدولة القومية
وضمانه في مواجهة تهديدات مقصودة، تشمل أي هجمات ومحاولات إخضاع خارجية،
أو في مواجهة أي محاولات تخريب أو تقويض لوجود الدولة من داخلها.
وعادة ما يكون مصدر التهديد في هذه الحال كيانا منظما
ذا طبيعية سياسية، أو يستهدف تحقيق غايات سياسية علي الأقل. وتشمل مصادر
التهديد في هذا السياق دولة أو دولا أخري، أو تنظيما إرهابيا، أو حتي
جماعات مسلحة تستهدف تقويض وجود دولة، سواء أكانت تلك الجماعات تنتمي إلي
الدولة المعرضة للتهديد ذاتها، أم أنها جماعات قادمة من الخارج. وكانت
تعبئة الدولة لقوة عسكرية أو قدرات استخباراتية، بما يكفي لردع مصدر هذا
التهديد التقليدي، هي السبيل الرئيسي الذي من خلاله يتم السعي لتحقيق أمن
الدولة وضمانه.
من جهة أخري، فإنه يمكن تعريف التهديد غير التقليدي
للأمن بأنه ببساطة مجموعة مصادر التهديد أو قنوات إحداث الضرر التي تختلف
عما يتضمنه التعريف التهديد التقليدي للأمن، والتي قد يواجهها نطاق أوسع من
الكيانات، يمتد من الإنسان الفرد إلي الوجود الإنساني في مجمله، بما
يشمل الدولة، ولكن لا يقتصر عليها بأي حال من الأحوال. ويتسع بالتالي نطاق
التهديدات الأمنية ليشمل طيفا من المشكلات الاقتصادية، أو البيئية، أو
الصحية، أو الاجتماعية، أو السياسية، والتي قد تنشأ ليس بشكل مقصود من قبل
كيان محدد لأهداف ذات طبيعية سياسية، ولكن قد تنشأ من مصادر شديدة التنوع
ترتبط بمختلف مناحي الوجود الإنساني، حال تسبب أي من هذه المصادر - بأي شكل
من الأشكال - في تهديد هذا الوجود أو جودته. ويتحقق الأمن في هذه الحال
ليس بالضرورة وفقط من خلال حماية وجود الدولة، ولكن من خلال حماية الحق
المتساوي في الوجود والحياة الكريمة لمختلف الأفراد والمجموعات البشرية
والكيانات التي تنتظمها في النطاق المكاني للتهديد الذي يواجهه هذا الوجود
أو تلك الحياة الكريمة.
التوسع نحو "الأمن غير التقليدي" :
تلك التهديدات التي تعرف حاليا بأنها تهديدات "جديدة"
أو "غير تقليدية" للأمن، ليست جديدة بالضرورة، إذ إن بعضها يعكس ظواهر
صاحبت وجود البشر منذ القدم. ولكن "الجديد" أنها صارت تعرف وتدرك ك-
"تهديد" أمني، دون أن ينفي ذلك وجود تهديدات غير تقليدية حديثة تماما وغير
مسبوقة. لكن المقصود هنا أن التحول المفاهيمي بين "التقليدي" و"غير
التقليدي" يعكس تحولا قيميا وإدراكيا بقدر ما يعكس في بعض الحالات تحولا
يعبر عن واقع مستحدث بشكل كامل.
يتمثل التحول القيمي في إعلاء مكانة الإنسان الفرد
وقيمته في السياسة الواقعية مقابل المكانة التقليدية المهيمنة التي احتلتها
كل من الدولة والأدوات العسكرية في تحقيق الغايات السياسية وضمان الأمن.
وقد مثل هذا التحول القيمي استجابة لسلسلة تحولات كبري شهدها الفضاء
السياسي تدريجيا عبر مدي زمني يمتد من منتصف القرن العشرين، ولا يزال جاريا
حتي اللحظة الراهنة. فبالرغم من كل الإسهامات الفلسفية، منذ القرن السابع
عشر الميلادي في تأكيد أسبقية حقوق الإنسان علي أي كيان سياسي، فقد ظلت
الدولة، عمليا وتقليديا، صاحبة المكانة الأعلي في الممارسة السياسية بحكم
امتلاكها -بل واحتكارها- لأدوات تأثير مختلفة، لم تكن تتوافر لأي من
الفاعلين السياسيين الذين يندرجون في إطارها.
بعبارة أخري، كانت الدولة بالمفهوم "الهيجيلي"، أي
الدولة الغاية في حد ذاتها والتي لا تتحقق فضيلة بدونها، هي الحاضرة في
عالم السياسة بشكل فعلي حتي نهاية الحرب العالمية الثانية في منتصف القرن
العشرين. فكان السبيل الرئيسي لتحقيق رفاهية الأفراد وضمان أمنهم وحماية
وجودهم لا يتحقق إلا من خلال الدولة التي تمتلك أدوات الفعل الرئيسية
والمتفوقة علي ما عداها من أدوات تأثير يمتلكها أي من الكيانات التي تنطوي
في ظلها. بدأ هذا الواقع يتغير مع إدراك البشرية لجسامة الخسائر التي أصبحت
تتولد عن الحروب، والتي وصلت إلي إمكانية إفناء الوجود الإنساني علي كوكب
الأرض.
انطلاقا من هذا الإدراك، بدأ البحث بشكل جدي وحثيث عن
أطر تعاونية وتكاملية لمعالجة المشكلات والاختلافات التي يمكن أن تقود إلي
الحروب أو تثير تهديدات تقليدية للأمن. ومع اختلاف مدي النجاح في هذا
المسعي من منطقة إلي أخري، ومن قضية إلي أخري علي صعيد النظام الدولي، فقد
وفرت المؤسسات والآليات والسياسات، التي أمكن تطويرها في هذا السياق، أساسا
للتعاون في مجالات تتجاوز بكثير قضايا الأمن التقليدي، في محاولة لتسوية
قضايا الخلاف التي يمكن أن تتطور إلي تهديدات تقليدية. كما أصبح لمنطق
التكامل القائم علي نظرية المباريات الإيجابية التي تحقق منافع متبادلة
للجميع، في مجالات تعاون مختلفة وأوسع نطاقا من متطلبات الأمن التقليدي،
حضوره القوي، مقلصا من هيمنة منطق الغلبة القائم علي نظرية المباراة
الصفرية التي تتيح لطرف واحد الاستحواذ علي المنافع كافة دون بقية الأطراف.
هذا المنطق الذي ثبت خطؤه وخطره في ظل التقنيات والقدرات العسكرية الحديثة
التي بات يمكن أن تجلب الدمار للجميع.
تسارعت العوامل الدافعة باتجاه تعزيز هذا التحول
القيمي المشار إليه آنفا وتكريسه مع الزخم الذي اكتسبته ظاهرة العولمة،
نتيجة التطورات التكنولوجية الكبري التي تسارعت وتيرتها، وبرزت تجلياتها في
حياة البشر منذ عقد الثمانينيات من القرن العشرين. جراء تلك التطورات التكنولوجية،
أصبحت قدرة كيانات دون الدولة تتجاوز قدرة الدولة التي نشأت هذه الكيانات
في ظلها أصلا. فشهدنا بروز فاعلين جدد من قبيل الشركات العابرة للقومية،
والتنظيمات غير الحكومية ذات القدرة علي التواصل بشكل يتجاوز أحيانا قدرة
الدولة نفسها، سواء مع مجتمعها الداخلي، أو حتي العالم الخارجي. وأمنيا،
تصاعدت قدرة الإرهاب الدولي علي تخطي الحدود، والانتقال عبر العالم بقدرات
تدميرية غير مسبوقة.
ووصل تأثير هذه التحولات التكنولوجية إلي تعزيز دور
الإنسان الفرد وقدرته علي التأثير في مجالات مختلفة ونطاقات أوسع تتجاوز
حدود حضوره المكاني، عبر أدوات اتصال باتت أسرع، وأحيانا أعمق تأثيرا، من
قدرة الدولة علي التأثير والتواصل. بعبارة أخري، لم تعد الدولة هي الفاعل
الرئيسي الذي يتحقق من خلاله وجود بقية الفاعلين الآخرين. وهنا، أصبح إيلاء
اهتمام مباشر، وربما مستقل بمصالح هؤلاء الفاعلين الجدد، بما في ذلك
أمنهم، واقعا جديدا يفرض نفسه علي الفضاء السياسي، ويعلي من قيمة الإنسان
الفرد بشكل أكثر استقلالا عن الدولة التي ينطوي في ظلها.
ترتب علي هذا التحول القيمي في مكانة الفاعلين في
الفضاء السياسي تحول آخر إدراكي يتعلق بتحديد ماهية التهديد الأمني. فقد
صارت التهديدات التي تمس هؤلاء الفاعلين الجدد، والتي قد لا تتعلق بأمن
الدولة أو تتهدد وجودها بشكل مباشر، تعد تهديدات أمنية، حتي وإن اختلفت -أي تلك التهديدات الجديدة- في طبيعتها ومصدرها عما استقر علي تحديده والتعامل معه المفهوم التقليدي للأمن، حسبما سبق بيانه.
وترافق مع هذا التحول الإدراكي حقيقة بروز تهديدات
جديدة، نتيجة تلك التطورات التكنولوجية المتسارعة كالتهديد لأمن المعلومات،
أو التهديدات الناجمة
عن التغير المناخي وما إلي ذلك، فضلا عما أفضت إليه تلك التطورات
التكنولوجية من مفاقمة التهديد الأمني الذي باتت تمثله ظواهر تقليدية،
كثيرا ما صاحبت الوجود الإنساني، كتهديد الانتشار الوبائي للأمراض المعدية،
أو تهديد بعض أشكال الهجرة والتحركات السكانية واسعة النطاق، أو اتساع
نطاق الجريمة المنظمة وانتشارها عالميا. كل تلك التهديدات أصبحت أكثر جسامة
وانتشارا، جراء الثورة في ميداني النقل والاتصالات. وتتجاوز تلك التهديدات
الجديدة قدرة أي دولة منفردة علي مواجهتها، الأمر الذي حد بشكل متزايد من
مكانة الدولة كالفاعل السياسي الأكثر تأثيرا، وبالتالي حضورا، وعزز كذلك من
أهمية التكامل الدولي ودور التنظيمات الدولية - حكومية كانت أو غير حكومية
- كأدوات رئيسية في المعادلة الأمنية غير التقليدية.
نحو إطار مفاهيمي أكثر انضباطا:
تمثلت إحدي المحاولات الأولية والمهمة للتعبير عن تلك
الحاجة إلي توسيع مفهوم الأمن، بحيث لا يقتصر علي التهديدات التقليدية،
فيما أورده ريتشار أولمان Richard H. Ulman، في مقاله المهم "إعادة تعريف الأمن"
(Redefining Security)، الذي نشر في عدد صيف 1983 من مجلة "International Securityس
. فبحسب أولمان، فإن المنظور "الضيق" للأمن القومي، باعتباره يتلخص في
حماية الدولة من هجمات عسكرية عبر الحدود، خاطئ وخطر في آن واحد. ويوضح
أولمان أن هذا المنظور الضيق يحول الاهتمام بعيدا عن التهديدات غير
العسكرية التي توقع أن تقوض استقرار العديد من الدول خلال السنوات القادمة.
كما حذر أولمان من افتراض هذا المنظور، ضمنا، أن
التهديدات التي تنبع من خارج حدود الدولة هي، بشكل ما، أكثر خطورة علي
أمنها من التهديدات التي قد تنشأ من داخلها. وقدم أولمان ما يمكن اعتباره
التعريف الأكثر شمولا للتهديدات غير التقليدية للأمن، قائلا إن التهديد
للأمن القومي هو "نشاط أو سلسلة أحداث تهدد، بشكل كارثي، وخلال مدي زمني
محدود نسبيا، بتدهور مستوي معيشة سكان دولة ما، أو تهدد، بشكل جوهري،
بتقليص مدي الخيارات السياسية المتاحة أمام حكومة تلك الدولة، أو وحدات
خاصة غير حكومية داخلها، سواء أكانت هذه الوحدات أفرادا أم جماعات أم
مؤسسات".
ولاحقا، طور "البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة" ما
يمكن اعتباره تعريفا إجرائيا لما عده البرنامج تهديدات غير تقليدية للأمن،
في إطار مفهوم "الأمن الإنساني" الذي صكه البرنامج للمرة الأولي في "تقرير
التنمية البشرية لعام 1994"، في محاولة لتفسير ظواهر جديدة من التهديد
الأمني، حدد أبرز خصائصها في أنها: ذات صبغة عالمية لا تقتصر علي دولة ما
ومتداخلة، بحيث يمكن أن يفضي أحد التهديدات إلي تهديد آخر، أو يفاقم من
تداعياته السلبية، ولا يمكن التعامل معها بشكل جذري، وفقا لمقولات مفهوم
الأمن في صياغته التقليدية. وحدد التقرير سبعة أنماط من تلك التهديدات، هي:
الأمن الاقتصادي، والأمن الغذائي، والأمن الصحي، والأمن البيئي، والأمن
الشخصي، والأمن المجتمعي، والأمن السياسي.
ومنذ ذلك الحين، يتسع مفهوم الأمن غير التقليدي أو
يضيق، بحسب كل حالة وما يتوافر فيها من عناصر تهديد، وكذلك بحسب طبيعة
الوحدة التي تتعرض للتهديد، والتي قد تمتد من مستوي الإنسان الفرد إلي كوكب
الأرض ذاته كموئل للحياة. ولكن في هذا السياق، يمكن أن نلمح عدة سمات باتت
تميز مفهوم الأمن غير التقليدي، لعل أهمها:
1- بروز اتجاه يدعو إلي درجة
أعلي الضبط المفاهيمي لتمييز مفهوم الأمن غير التقليدي عن مفاهيم أوسع
نطاقا، مثل "الأمن الإنساني". واستند ذلك الاتجاه بشكل رئيسي علي واقع
ازدياد جسامة التهديدات غير التقليدية لأمن البشر وحياتهم، مثل الأوبئة، أو
الكوارث الطبيعية، أو المجاعات، أو الإرهاب، أو تداعيات تغير المناخ التي
تمس الوجود الإنساني ذاته، وغير ذلك. أدي ازدياد تلك الجسامة إلي أن أصبح
الأمن غير التقليدي يعني بشكل رئيسي بالتهديدات المباشرة لوجود الإنسان أو
الجماعة أو لمقومات الحياة علي كوكب الأرض عامة، بأكثر من اهتمامه بمستوي
معيشة البشر وكرامتهم، والتي أصبحت تندرج أكثر تحت مفهوم "الأمن الإنساني".
إلا أنه ينبغي تأكيد عدم وجود فصل تام بين المستويين. فإهمال الأمن
الإنساني في مراحل تهديده الأولي، كتعزيز الرعاية الصحية أو ضمان كرامة
وحقوق الجماعات المختلفة، وغير ذلك، قد يفضي إلي تهديدات غير تقليدية أخري
تهدد وجود البشر ذاته في مراحل لاحقة، كانتشار الأوبئة، أو الصراعات
المجتمعية في حالتي المثلين المشار إليهما. هذا التمييز التحكمي في الواقع
يمكن أن يفيد فقط في ترتيب الأولويات في حالات الإلحاح أو الأزمة. فالأمن
غير التقليدي يقتضي مواجهة أزمة حالة تنتج عن مصدر تهديد غير تقليدي يعرض
وجود البشر للخطر، أو الاستعداد لمواجهتها، بينما يستهدف الأمن الإنساني
المقومات الأساسية لحياة البشر، بما يضمن تعزيزها، وتقليل فرص نشأة تهديدات
غير تقليدية لوجودهم.
2- بدأ يتأكد أن هذا الاتساع
في مفهوم الأمن لا يعكس تحولا بين نقيضين، وإنما يمكن أن يوجد كلا النمطين
من التهديدات الأمنية، التقليدية وغير التقليدية، بشكل متزامن، بل إن
أحدهما قد يغذي الآخر ويفاقمه، فضلا عن أن التصدي لأحدهما، تقليديا كان أو
غير تقليدي، وتحقيق الأمن في مواجهته، قد يكون مرتبطا، في أحيان كثيرة،
بتحقيق الأمن في مواجهة التهديد الآخر. فالحرب أو الفوضي التي تهدد كيان
الدولة ووجودها عادة ما تفضي إلي تدمير مختلف مؤسسات الدولة والمجتمع،
والتي عنيت بضمان الأمن غير التقليدي. وفي المقابل، قد يؤدي العجز عن
مواجهة تهديد غير تقليدي إلي صراعات تقليدية بين الأطراف المختلفة في
محاولة من كل منها لدرء خطر التهديد غير التقليدي، أو بعض خطره، علي حساب
أطراف أخري. وبناء علي هذا، بات من المستقر في الدوائر الأكاديمية
والسياسية أن الأمن، تقليديا كان أو غير تقليدي، هو متكامل بطبيعته.
3- جراء العامل السابق، استقر
في مختلف الأدبيات الخاصة بالأمن غير التقليدي أنه لا يمثل قطيعة مع
الدولة، ولا يعني علاقة تضاد أو مواجهة بين الدولة والمجتمع. فالدولة التي
تعبر عن احتياجات جميع مواطنيها، وتوفر مجالا لحضور متساو لمصالح مختلف
الفئات المنضوية في ظلها، تعد شرطا ضروريا لتفعيل آليات مواجهة الأمن غير
التقليدي. بعبارة أخري، فالأمن غير التقليدي لم يعد يعني بأي حال تهميش دور
الدولة، ولكن تعزيزه في مجالات تتجاوز منظور الأمن التقليدي، وتكامله مع
بقية أدوار الأطراف المجتمعية الأخري في هذا الإطار.
شروط تحقق الأمن غير التقليدي: هذا التوسع نحو مفهوم الأمن غير التقليدي، بالرغم من
شيوع الاهتمام به في الأوساط السياسية والأكاديمية عبر مختلف مناطق العالم
والعديد من المنظمات الدولية، تتباين ترجمته إلي سياسات عملية وبروز
تجلياته من منطقة إلي أخري، ومن قضية أمنية إلي أخري. ومع الإقرار بداية
بضرورة توافر الأسس الثقافية التي تضمن إعلاء قيمة الإنسان، باعتباره
الغاية الرئيسية التي يستهدفها الأمن غير التقليدي، فإن هذا التفاوت عادة
ما يرتبط بعاملين رئيسيين:
1- عامل فني-مؤسسي: يتعلق
بتوافر، أو إمكانية توافر، المؤسسات والكوارد الفنية الضرورية للقيام
بالعمليات والإجراءات الكفيلة بإدراك التهديد، وتحديد طبيعته ومدي جسامته،
وسبل مواجهته، والقادرة كذلك علي تنفيذ سياسات تلك المواجهة، والإجراءات
التي تتضمنها. وهذا العامل شرط ضروري لضمان تحقيق الأمن في مواجهة تهديدات
غير تقليدية، سواء أكان ذلك علي المستوي الداخلي أم الإقليمي أم العالمي
علي السواء. وهذا العامل محدد رئيسي لإمكانية نشوء تعاون إقليمي أو عالمي
في هذا الصدد، بما يعزز احتمال أن يكون هذا التعاون مدخلا للتكامل بين
أطرافه، وأساسا لحالة من السلم بينها. ويمكن أن نلاحظ ذلك في خبرة السلام
التي صبغت الفضاء الأورو-أطلسي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والتي
نشأت في البدء بين دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة، وأخذت تتوسع
تدريجيا. وإن كانت باتت تواجه حاليا، نتيجة هذا التوسع وعدم التكافؤ في
القدرات المؤسسية، تحديات تهدد بتقويض التجربة بأسرها. وقد عبر وزير
المالية البولندي، جاك روستوويسكي، الذي ترأس بلاده الدورة الحالية للاتحاد
الأوروبي، عن جسامة هذا التحدي، حين أعلن - في خطاب أمام البرلمان
الأوروبي في ستراسبورج بفرنسا، في 14 سبتمبر 2011- أن الاتحاد الأوروبي
مهدد بالانهيار، ولن يمكنه البقاء، في حال تفككت منطقة اليورو، جراء أزمة
الديون السيادية التي تعانيها بعض دولها السبع عشرة. وتابع محذرا من أن
الخطر الذي يتهدد أوروبا يمكن أن يقودها مجددا إلي زمن الحرب في المستقبل،
في حال تحقق هذا الاحتمال، وانهار الاتحاد الأوروبي.
في المقابل، قد يكون هذا العامل الفني-المؤسسي محددا
لعدم إمكانية نشوء هذا التعاون، وبالتالي تحول التهديد غير التقليدي، إلي
موضوع للصراع بين الأطراف المختلفة. حيث إن عجز هذه الأطراف عن مواجهة
التهديد غير التقيلدي، من خلال تعاون جماعي بسبب الافتقار للمعرفة أو
البنية المؤسسية، قد يدفع كلا منها إلي محاولة حماية نفسه فقط، ولو كان ذلك
علي حساب الآخرين، وبشكل مؤقت وغير جذري، مما يعزز من احتمال نشوء حالة
صراع بينها، ويخلق تهديدا تقليديا إضافيا. ويمكن أن نلاحظ ذلك في حالات
الصراع التي يعرفها كثير من الدول أو الأقاليم النامية والأكثر تخلفا في
أبنيتها المعرفية والمؤسسية. حيث غالبا ما يكون الصراع في مواجهة تهديد غير
تقليدي، كندرة المياه أو الغذاء أو حتي التوترات المجتمعية، سببا للحروب
والصراعات العنيفة، بدلا من التعاون الذي لا تتوافر ركيزته المؤسسية أو
المعرفية.
أخيرا، تتعين الإشارة هنا إلي أهمية توافر الموارد
اللازمة لإيجاد هذا البناء المعرفي-المؤسسي، وضمان استمرار دوره الفاعل.
وتكشف خبرات السنوات القليلة الماضية عن أن توافر هذه الموارد ربما لا يكون
مضمونا حتي لأغني دول العالم وأكثرها تقدما. فالولايات المتحدة واجهت عجزا
خطيرا في التصدي لإعصار "كاترينا" عام 2005، فيما عجزت اليابان عن التصدي
للآثار الكارثية للتسونامي الذي تعرضت له أراضيها في مارس 2011، جراء زلزال
قوي ضرب اليابان بقوة 8.9 ريختر. إن الطبيعة المفاجئة لبعض التهديدات غير
التقليدية تجعل من الصعب بداية توقع حدوثها، والاستعداد المسبق لها. وغاية
ما يمكن - في هذه الحال - هو محاولة اتقائها لاحقا بعد وقوعها. لكن تظل
هناك احتمالات لتهديدات أخري غير متوقعة. وكذا، فإن بعض التهديدات غير
التقليدية واسعة النطاق للغاية بما يتجاوز حتي قدرات أي دولة منفردة.
2- عامل سياسي-نخبوي: يتعلق
بمدي توافر الإرادة السياسية لتحويل ما يمكن أن ينتجه العامل الأول من
معرفة وتوصيات إلي سياسات فعلية، تخصص لها موارد تضمن تنفيذها. فمجرد توافر
العامل الفني-المؤسسي لا يضمن مواجهة أي تهديد أمني غير تقليدي تلقائيا،
إذا لم تتوافر تلك الإرادة
السياسية. وينطبق لزوم هذا العامل، لترجمة مواجهة أي تهديد غير تقليدي إلي
سياسات عملية، علي المستوي الداخلي للدولة، وكذلك علي مستوي أي تعاون
إقليمي أو عالمي. وغالبا ما يرتبط توافر تلك الإرادة السياسية لدي متخذ
القرار بأنظمة حكم لا تميز بين مواطنيها، وتضمن
حقوقا وفرصا متساوية لكل منهم، أيا كان انتماؤه السياسي أو الاجتماعي أو
الإثني. في هذه الحال، تكون حماية هذه الحقوق وهذا المواطن ومستوي معيشته
أولوية رئيسية من أولويات الدولة ونظام الحكم فيها. هذا النمط من الحكم
يزداد احتمال وجوده في ظل الأنظمة الديمقراطية، ويتراجع في ظل الأنظمة
الاستبدادية. ومع احتمال وجود استثناءات علي تلك القاعدة بشقيها، فإن
الأنظمة الديمقراطية التي تضمن حقوقا متساوية أصيلة لجميع مواطنيها، ولا
تعتمد فقط علي الغلبة في صناديق الاقتراع، هي فقط التي تضمن للبشر تمثيلا
فعليا في تحديد ما يهددهم، ودورا حقيقيا في تغيير النظام، حال عجز عن تحقيق
أمنهم غير التقليدي أو تغافل عنه.
هذه الإرادة السياسية تعد شرطا ضروريا كذلك لتحقيق تعاون دولي تكاملي في مواجهة أي تهديد غير تقليدي. فبحسب اقتراب "المؤسسية الجديدة"(Neofunctionalism) الذي طوره إرنست هاس Ernst Hass، فإن
مثل هذا التعاون يجب أن تري النخب السياسية أنه يصب في مصلحتها ومصلحة
دولها. والتباين في حسابات النخب السياسية للمصلحة والتكلفة، المترتبتين
علي التعاون في أي قضية من قضايا التهديد غير التقليدي، يفسر بدرجة كبيرة
التباين في إمكانية تحقيق هذا التعاون من قضية لأخري، أو من إقليم لآخر.
فعلي سبيل المثال، لا تزال مواجهة مخاطر التغير المناخي تواجه معضلات
كثيرة، بسبب عدم وجود توافق بين مختلف الحكومات حول العالم علي كيفية
اقتسام تكاليف تلك المواجهة، فضلا عن رؤية بعضها (مثل الصين) لتلك التكاليف
باعتبارها غير محتملة من الأساس بالنسبة لها في المرحلة الراهنة.
لقد عاني العالم العربي، تاريخيا، نقصا كبيرا في درجة
توافر الشرطين السابقين للاهتمام بقضايا الأمن غير التقليدي، وتفعيل
مواجهتها، سواء داخليا أو علي المستوي الإقليمي. إلا أن الثورات العربية ضد
الظلم والفساد المستشري والاستبداد، والتي عبرت في المقام الأول عن هموم
الإنسان العربي، يفترض أن يكون هذا الإنسان وتحريره من أي تهديدات لوجوده
وكرامته ومستوي معيشته هو رهانها الأول، والتحدي الرئيسي لها في مرحلة
تاريخية، تتعاظم فيها التهديدات غير التقليدية التي تتهدد الشعوب العربية،
والتي يحاول هذا الملحق التنبيه لها. والمدخل الرئيسي لأي جهد، في هذا
السياق، إنما ينبغي أن يكون تعديل مفهوم الأمن القومي، بحيث لا يكون أمن
نظام الحكم في الدولة، بل أمن مواطنيها كافة. ولعل في تأسيس أنظمة
ديمقراطية حقة السبيل لحل هذا التناقض الذي برز بين أنظمة الحكم
والمواطنين، وأعجز الدولة عن تحقيق هذا التكامل بين شقي الأمن، التقليدي
وغير التقليدي، مما أسهم بدرجة كبيرة في الانفجار الثوري الراهن.