محمد شوقي الزين في الأربعاء أغسطس 12, 2009 11:04 pm
كنت فيما مضى قد نذرت على نفسي صناعة منتدى حول الفيلسوف الراحل جاك دريدا، و المشاغل العديدة حالت دون ذلك. لكن الوعد هو الوعد مهما كان الثمن. لهذا أقدّم إلى أصدقائي هذا المنتدى للتفكيكيين العرب و الذي هو منتداهم، لهم الحرية في التعبير عن آرائهم و أفكارهم و مساهماتهم.
محمد شوقي الزين
في ما يلي نص كتبه الأستاذ و الصديق محمد أحمد البنكي حيث أشار إلى ما وعدت بالقيام به :
كنت معه في الغرفة منذ لحظة وها هو الآن ميت
محمد أحمد البنكي، الحياة، 2004/10/12"كل كتاباتي عن الموت. فإذا لم أصل إلى المكان الذي أستطيع فيه أن اتصالح مع الموت، سأكون قد فشلت، وإذا كان لي هدف واحد، فهو أن أتقبل الموت والاحتضار".
ما الغياب؟ ما الموت؟ ما الظل؟ ما السيرة؟ وما الحضور تحت الشطب؟ هذه الأسئلة تكتنفني الآن لا بإملاء من دريدا أو فرادة انصبابه على النصوص والقضايا الماثلة للتفكير، وإنما للمفارقة المرعبة أتلقنها من التنضيد البارد لحروف جريدة الصباح: "رحيل الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا واضع منهج التفكيكية". كنت أعرف ذلك مسبقاً على سبيل التخمين المكظوم، لكنني لم أكن لأدع التفكير في الأمر يستحوذ عليّ. شيءٌ ما: لعله الشفقة أو العجز أو الآمال التي تتصعد من خلال الصلاة من أجله كان يدفعني وعدد من الأصدقاء إلى افتراض نهاية مرجأة مغايرة. تأجيل هذه النهاية من دون انقطاع على الأقل. فطوال الأشهر الأخيرة كنا نتبادل رسائل البريد الإلكتروني حول دريدا وفحوصاته وحاله النفسية المتراوحة، وكنا ندرك أن الحرب بدأت، وإن السرطان باغت العافية، وهو يترك الآن أختامه الباهظة على أحشاء الجسد. لكننا أبداً لم نجرؤ على تسمية الغول باسمه، فقد بدا لنا المرض متعذراً على التلفظ به تقريباً. تماماً مثل أسلاف بدائيين يتجاوزون الخطر بالتعازيم وتفادي حضور التسمية. وانبرينا مجروحين إلى صفاء فتحي، احدى القلائل الذين يسمح لهم، مع زوجته مارغريت، بالاقتراب من الغرفة في تلك الفترة. ومن رأس سرير المستشفى كانت صفاء توافينا بالمستجدات، تتسرب إلى ايميلاتنا مخفورة بالقلق.
مرات قليلة فقط منحتنا حيوية دريدا جرعات من الأمل الناصع، كما لو إن حرباً لم تقع. وفي أفاويق من هذه الإنبجاسات التي تشحذ التفاؤل، فَرِحَ جاك كثيراً يوم أن عرف أن ثلة من المهتمين العرب بصدد تأسيس رابطة للدراسات التفكيكية في الأوساط العربية. قال إن هذا أحد أحلامه التي ستدخل إلى قلبه عزاء كبيراً حتى أنه شارك معنا في ترشيح بعض الأسماء. وانهمكنا في تقاسم المهمات.رسائل الكترونية
للتو استعيد حبور محمد شوقي الزين الإستثنائي وإعرابه عن استعداده لتطويع موقعه الإلكتروني من أجل خدمة الفكرة حين أبلغته بإلحاح دريدا على التنويه باسمه من أجل الانخراط في جهود التأسيس. من جهتها تكفلت صفاء بمفاتحة هاشم فودة ومحمد بنيس وفاطمة قنديل وبشير السباعي وهبة مشهور وصبحي حديدي وآخرين. عَمِلْنَا تحت هاجس اسداء بعض الإنعاش لكيان دريدا المتعب, وألححنا في التحضير للفكرة، لدرجةٍ بادرني معها صبحي حديدي، حين التقينا في أصيلة الصيف الماضي, بالمعاتبة الودودة المشاكسة لأن التواصلات الشخصية بيني وبينه تكاد تختزل في جهود "وكيلة الأعمال الدريدية" صفاء فتحي كما قال! هكذا كنا نسابق الزمن ونتسقط الأخبار. نبتسم ونعبس وننتظر مزيداً من نتائج سلسلة التحاليل الطبية، بينما كان وحش السرطان يتسلل ويندس ليقيم في البنيات العميقة من البدن أكثر فأكثر قوةُ تمزيقٍ باطنية مريبة تتموضع كإضافةٍ في الأحشاء ثم سرعان ما تنتشر وتفيض لتجعل الجسد في حرب مع نفسه، فيتفكك ويتقوض كما لو أن ما يحدث هو مساءلة صارمة للحصانة الذاتية من مفعول التفكيك المزدوج الذي استحال على دريدا كبحه في تلك المواجهة على رغم المقاومة البطولية التي كان يبديها.
لم تكن فكرة الموت تخيف الرجل. كان شب على الوعي المبكر بالموت, فقبل ولادته في أبيار علي الجزائرية بعشرة أشهر توفي شقيقه الأكبر وهو لا يزال رضيعاً، وبعد 10 سنوات من عمره مرض شقيقه الأصغر وتوفي, وهكذا اَلَمَّ بأمه خوف قاضم عليه كلما مَرِض. هذا المتخيل الحافّ به أعطاه درساً ظل كالناقوس يدق في جوانحه عن هشاشة الحياة. ومن هنا كتب دريدا مجموعة من أجمل وأعمق النصوص عن الموت حول "ميتات رولان بارت" و"قراءة لغياب ألتوسير" و"النص المبتور"، والأثر الأخير أنجزه بالترافق مع موت أمه عقب احتضار دام ثلاث سنوات على الأقل كانت الأم فقدت خلالها كل قدرة على النطق أو التعرف بالمحيطين. وذات مرة حكى دريدا مفارقة "اجتياز أمه للموت" قائلاً: "كنت في باريس, دعوني إلى الحضور وهم يقولون لي "لقد انتهى كل شيء"، ومن ثم - يواصل - فقد ركبت الطائرة، مستعداً لدفن أمي، ثم عندما وصلت إلى المستشفى، كانت قد استردت وعيها، وكان هذا أشبه ما يكون بالبعث. لقد اجتازت الموت"!
هل كان الموت محوراً لتفكير دريدا؟ يمكن قول ذلك، إنما مع التحفظ اليقظ للخطورة التي يشكلها الإرتكان النهائي لفكرة المحور أو المركز, ذلك أن كل اسهامات جاك دريدا مرتبطة بالتمركز والانزياح عنه في آن واحد، التموضع في الموت وخارجه, وفي ذلك يكمن السر. يحضرني هنا السؤال الذي وجههه أحد طلبة حلقة الدراسات العليا في جامعة نيويورك لدريدا حول هدف مناقشته للأسرار في "سيمناراته" المنصبة لأكثر من عام دراسي على فكرة "السر". فأجاب دريدا، وهو يحدِّق في صفوف التلاميذ الذين تحلقوا حول مائدة الدرس، "إن القضية المطروحة للنقاش حقيقة في هذه الحلقة هي موت الآخر أو موتي أنا".
وبموت دريدا نفتقد لوهلة جزءاً بكامله من سر الألق الرفيع الذي فرض نفسه في جنبات درسٍ معرفيٍ عشنا زمنه. ليس هنالك وقت لنتحدث لدريدا بعد الآن, لكن ليس أقل من أن نتحدث للآخرين عنه، وسيكون هناك الكثير مما ينبغي قوله، وما ينبغي إهدائه إلى روحه الغائبة جداً، وفي الوقت نفسه القريبة جداً من صميميتنا المنصتة والمدهوشة. وسأكون عاجزاً، عند هذا المنعطف، عن تفادي الذكرى التي رفرفت بطيفه وأنا أعيد قراءته، أمس ليلاً، فقد كنت أتذكر رسالة رشيد بوطيب الذي يخبرني، قبل أيام، بأنه عائد للتو من مقابلة مع الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس وأن الأخير كان يبدي الكثير من القلق بخصوص الأنباء التي وصلته عن تطورات مرض دريدا. وليس بإمكاني, أيضاً، الحيلولة دون استعادة الشجن الذي اعتراني قبل شهرين أو ثلاثة حين أبلغتني صفاء فتحي بأن دريدا أرجأ حجوزات السفر الذي كان مقرراً إلى أميركا خلال تشرين الأول (أكتوبر)، ريثما تستقر حاله الصحية, وعلمت بضمن ذلك أن مشروع استضافته في البحرين، والذي كنا تبلغنا بموافقته عليه، في وقت سابق من مطالع العام، تأجل في شكل مفتوح في ظل الأوضاع الجديدة، وإن علينا أن نوقف الإعداد والتحضيرات، وهذا ما وقع.
الآن يموت دريدا، والآن، إذاً تتحقق نبوءته التي لم يستطع فهمها. نبؤة الموت كذهاب في الحقيقة كما كان دائماً يحب أن يعبِّر. وستلزم العودة هنا إلى تصريحاته التي أدلى بها ذات محاورة صحافية حين قال: "إني أعي في كل لحظة احتمال أن أسقط ميتاً في الساعة المقبلة، وأن الشخص الذي يجلس إلى جانبي سيقول: لقد كنت معه في الغرفة منذ لحظة، وهو الآن ميت. هذا الفيلم يتراءى لي بصورة دائمة وفي كل مرة أقود فيها سيارتي عائداً إلى البيت، وهي مرة كل يوم, أشاهد سيارتي تتعرض لحادث, كما لو كنت في سينما, وأسمعهم يقولون: لقد عبر مفترق الطرق الآن فقط، ثم...، لا أملك أن أتجنب مشاهدته، إنه شيء في داخلي أحاول أن أفهمه ولكنني لا أفهمه".
عاش دريدا حياة مترعة: سُجِنَ، وعرف الإنهيار العصبي، وأثار صخباً خارقاً للعادة في معاقل التقليد الأكاديمي، ونافح ضد القمع، وظهر اسمه كمؤلف على أكثر من سبعين كتاباً, وقدرت المؤلفات التي تتخصص لتناوله بمتوسط قدره ستون كتاباً كل عام. ومات دريدا على نحو موت العظماء: إنه موجود الآن في كل مكان، في كل جامعة وكل محفل ثقافي. ولم يترك للسرطان إلا ما لا بد للروح أن تتركه على الأرض حين تود أن تحوّم وتخيم في الأفق. والأرجح إننا سنتذكر وصيته طويلاً حين لفتنا إلى درس التحليل النفسي: فالأب الميت يستطيع أن يكون حياً بالنسبة الينا وقوياً وعاتياً أكثر من الأحياء. أنها ببساطة قوة الأطياف.