غابرييلا ميستْرال:
ذاكرة الشعر
عبد القادر الشاوي
سيمثل صدور معظم ما نشرته الشاعرة التشيلية غابرييلا ميسترال من كتابات في "الريبرتوار الأميركي" في جزأين في أواخرعام 2011 خلاصة اهتمام ثقافي وأدبي وتوثيقي، تواصل لأزيد من عقدين، لإعادة الاعتبار لشاعرة فذة أتتها جائزة نوبل مبكرًا (1945) لتزيد من غربتها المطلقة فيما كان قد تبقى من حياتها. وكان موتها في الولايات المتحدة الأميركية (1957) هو الشعور الوحيد "بالترك" ذي الدلالات الرمزية، الذي ربّما أرادت غابرييلا، ولو من دون قصد ولا شعور على الأرجح، أن توحي به لغيرها، وهو نفسه الشعور الآخر الذي بقي لقرّاء الشعر من التشيليين عن وفاتها، التي كادت أن تكون، بعد القدرية الحتمية، لعنةً في وجه البلد الذي لم يكرّم مقامها ولا قدَّر وجودها حضوريًا.
لكثير من التشيليين شعورٌ واضحٌ بأن البروز اللاحق لشاعر كبابلو نيرودا، يعود في جانب كبير منه - وَهُم صِدْقًا لا يبخسون موهبته ولا يحطّون من قيمة شعره- إلى انتسابه إلى الحزب الشيوعي في فترة مبكّرة من حياته، بعد موت الشاعر الإسباني الجريح ميغيل إرنانديث في السجن، وإلى المكانة النضالية البارزة، ولو في تبعية مطلقة ذيلية ومهينة لما كان يسمّى بالاتحاد السوفييتي أيام الوهم الستاليني وبعده، ثمّ إلى العلاقات الثقافية والإنسانية التي نسجها الشاعر المبرّز خلال مقامه الدبلوماسي في كثير من البلدان، وأساسًا في إسبانيا (شعراء جيل 27) والمكسيك وفرنسا. ومنهم من يقول إنه "سَوَّقَ" نفسه، وكان له أسلوبٌ خاصٌ وذكي وانتفاعي، بطريقة جلبت له الشهرة حتّى أصبح من المحتّم أن منحه جائزة نوبل، صار واجبَ لياقةٍ واعتبارٍ قبل كلّ شيء. وهذا ما يفسّر أيضًا لماذا تَكرَّس الاهتمام "الرسمي" به بعد موته، بطريقة تدعو إلى الاستغراب بسبب المغالاة في الاحتفاء والتمجيد الممقوت في الاعتبار. وفي مطلق الأحيان على حساب طاقات إبداعية ورموز ثقافية أخرى لم يغمطها حقّها من الذيوع والانتشار إلا طغيانه بالصفات المشار إليها.
ومن تلك الطاقات، غابرييلا ميسترال؛ المرأة الشاعرة. وأريد القول إن "الذهنية الذكورية" بالذات فيها شيء كثير من البخس الذي لاقته غابرييلا في حياتها بسبب جنسها لا بسبب شعرها. أما الإهمال بعد مماتها، فأمرٌ ملحوظ لم يرتفع إلا في السنوات الأخيرة. وكان لوصول امرأة أخرى إلى سدّة الرئاسة (ميشيل باشليه، 2006)، الأثر الواضح. أمّا العلامة البارزة لوجود صورة هذه الشاعرة على ورقة مالية، من فئة خمسة آلاف بيسو، فمسألة دالّة وذات إيحاء خاص. وهذا الإيحاء هو من بنات عهد جديد تحوّلت فيه المقاربة النوعية إلى شرط وجوب "نسواني" للقضاء على التمييز الجنسي. من دون أن يغرب عن البال أن في رمزية تخليد الشاعرة في الورقة النقدية ما يشبه التحنيط التاريخي، فهو يعفي من مسؤولية التذكّر ويوهم بالخلود. وهذا مع الاعتبار أيضًا، بأن بابلو نيرودا نفسه، وكما عثرت على ذلك في بعض المراسلات القليلة التي تبادلها مع غابرييلا، كثيرًا ما تودّد إليها، لأنه كان يعرف قدرها، وفي أكثر من مناسبة توسّل إليها باستعطافٍ مذل، بحكم انتسابهما إلى السلك الدبلوماسي، في سبيل الحصول على ترقية إدارية ترضي طموحه. وكم كان الشاعر في بعض سلوكه الاجتماعي والثقافي على "انتهازية" مقيتة ربّما، ما زال التشيليون يعتبرونها، للأسف، إلى اليوم مَزِيَّة.
اقرأ أيضاً: يون كالمان ستيفنسن على الكاتب أن يكون متشكّكًا
سيُذكر اسم غابرييلا ميسترال في هذا الاهتمام المتجدد، مع صدور كتاب "الفتاة الطريدة" المتضمن لرسائلها إلى "دوريس دانا" صديقتها وعشيرتها الأميركية، مقرونًا بما لم يكن مذكورًا ولا معروفًا ولا مفكّرًا فيه ولا مقبولًا في مرحلة ولا مؤكدًا كذلك: نزوعها السحاقي في سنّ متقدّمة الذي التبس، في رسائلها إلى "دانا"، بالرفقة والعاطفة والحبّ والحماية والتعلّم والتمرّد والفنّ والشعر والأسفار والثقافة، "فوحّد كلّ ذلك بين كائنين في علاقة معقدة وغير مفهومة في كثير من الأحيان من قبل "الميستراليين" الذين يخلطون بين الأخلاق والهشاشة".
كانت غابرييلا امرأة في عقدها السادس عندما تعرفت إلى دوريس في مايو / أيار عام 1946 في "برنار كوليج" النيويوركي بصورة عابرة. ولم تقم المعرفة الحقيقية بينهما إلا بعد ذلك بسنتين اعتمادًا على الرسائل المتبادلة بينهما، التي كانت، في بداية الوقت، مضربًا للمودة، ثم أصبحت مربطًا للتقارب وللحبّ. أمّا دوريس، فلم تكن قد تجاوزت عقدها الثالث، ذات محتد أرستقراطي نيويوركي لا يُعْلى عليه، سليلة أسرة ثرية مذكورة، فكان تعلّقها بالأستاذة، مع فارق السنّ من ناحية، والتجاوب العاطفي المؤكّد من ناحية ثانية، رمزًا قويًا ومألوفًا للتعلق اللَّدُني بالأمومة أو بالأبوة لا فرق على الأرجح. ولا أذكر هذا إلا للقول إن غبرييلا مسترال وجدت في هذه العلاقة سندًا قويًا وملاذًا للسنوات الأخيرة من أيامها في المهجر، إلى درجة أنها كانت ترى حياتها بدونها "بُخَار سحابة" و"بناتُ بَخْرٍ: سحائبٌ بيضٌ رِقاقٌ" كما قالت قرب وفاتها بقليل عام 1957.
أربط بين رمزية "الترك" المذكور في البداية كربيب للفقد، وبين السند القائم على التعلّق في مرحلة ذابلة من العمر، لكي أخلص إلى نتيجة مؤكّدة ذكرها غيري أقول فيها: إن "إحياء" هذه الشاعرة، جزءًا أو كُلاّ، يمكن أن يُرى أيضًا كشكل من أشكال عودة الوعي الشعري، ولو من الخارج، إلى مجاله الثقافي ذي السياق المتعدّد والمختلف من دون حيف ولا نكران. فقد صار الآن من الطبيعي، مع الإقرار بجميع الاختلافات الممكنة أدبية وشعرية، أن تُذكر غابرييلا إلى جانب نيرودا إلى جانب الغائب الآخر الطليعي "وِيدُوبرو"، و"عمر لارا"، و"غونزالو روخاس"، و"دليا دومنغيس"، و"خوسيه أنخل كويباس"، والعدمي "نيكانون بارا"، و"راوول سوريتا" من دون حرج ثقافي محتمل.
(كاتب مغربي)