صدر مؤخرا كتاب علي الشدوي “الداعشي انطلاقا من لحظته الخاصة” وقد أمدّنا الكاتب مشكورا بمدخل الكتاب ننشره في ما يلي:
وددتُ لو أنني أبدأ هذا الكتاب كما بدأت شهرزاد حكاياتها في كتاب ألف ليلة وليلة بـ ( كان ما كان في قديم الزمان ). وأن أنهيه بما تنهي به الحكايات ذاتها بـ ( عاش الجميع في هناء وسعادة حتى جاءهم هادم اللذات ومفرق الجماعات ) لكنني سأبدؤه بحبال التحْويت التي قال ميلفل في رواية موبي ديك إنها تلتف حول رقابنا. نحن الذين ولدنا وحبال المشانق معقودة حول أعناقنا، لكننا لا نتبيّن مخاطر الحياة الماكرة التي لا تغفل ولا تغيب إلا حين يُجذب حبل الأنشوطة.
وكما في هذه الرواية العظيمة يوجد في الحياة فريقان؛ يمثل الفريق الأول القبطان آهاب ( آخاب ) المجنون الراغب في الانتقام من حوت أبيض قضم رجله حتى أهلك نفسه وطاقم سفينه. أما الفريق الثاني فيمثله الناجي الوحيد من الطاقم الذي طلب منا أن ندعوه إسماعيل ليروي ما حدث قائلا: “وإن كنت فيلسوفا وجلست في قارب تحويت لم تحس في قلبك قدر قلامة ظفر من الرعب أكثر مما تحس به وأنت جالس في المساء أمام الموقد وإلى جانبك سفود تقلب به النيران”.
ليعذرني القارئ فأنا أكتب بلغة الخسارة، وذاكرتي لا تعمل فيما يتعلق بدافع هذا الكتاب من دون فعل الحِداد. لا بد من أن هذا يؤثر في الجهد الذي أبذله. لكن تقريبا ما من عائلة عربية بشكل عام أو سعودية بشكل خاص إلا وعانت فقد عزيز أو حبيب أو على الأقل سمعت عن ذلك في الأحداث الدائرة في العراق والشام، وهو ما يفرض علي أن آخذ فكرة الخسارة والحداد بعين الاعتبار.
لقد كتب دستوفيسكي “لكي يكون المرء قادرا على أن يكتب جيّدا، عليه أن يعاني” . يضيف ي . كارياكين الذي نقلت عنه هذه العبارة: وكان باستطاعته أن يضيف “وأن يتغلب على معاناته ” وأضيف أنا إليهما: لا تكون المعاناة وتجاوزها في الكتابة الإبداعية إنما في أي كتابة جيّدة.
أعرف أن بداية كهذه قد تستفزّ القارئ بدلا من أن تنوره، وأنها تشبه حيلة أحتال بها حتى أستدرجه ليقرأ الكتاب، وبالرغم من أن ما بدأت به هو حقيقة ملموسة، إلا أن عليّ كما قال أحد الباحثين أن أدفع الضريبة التي يدفعها الروائي فإعود إلى ما قبل التفكير في الكتابة .
قبل سنة تقريبا اتصل عليّ ابن أختي قائلا: خالي. أنا في سوريا. في الرقّة . أطلب من جدتي وأمي أن تسامحاني. لا أعرف ما إذا كنت سأعود أو لا. إن متّ فسأكون شفيعا لكم. سأتزوج إن شاء الله من حور العين. سامحني. ربما لا أتزوج الفتاة التي خطبتها لي. صمتّ ولم أسأل؛ لأن سؤال ما الذي حدث؟ وكيف؟ هو الآن سؤال بائس وعقيم؛ لأنه يؤجل لحظة يتوجب عليّ فيها أن أفهم.
ثم حدث ما كان في الحسبان حيث قتله الطيران الأمريكي في الموصل. وكأي فرد من أفراد المجتمع؛ بعيدا عن الأحداث لم أصدّق أن حربا قامت فعلا حتى بعد أن سمعت دويّها. تلقّيتُ خبر قيامها كما لو أنها تخص مجتمعات أخرى، لكن فجأة يصل خبر موت أحد الذين أحببْتهم .
صمتّ ثم تساءلت كيف حدث هذا؟! أعرف أنها لحظة مروّعة لكنني تحايلت عليها بالسؤال كيف حدث هذا؟ أعرف لِمَ قامت الحرب، لكنني الآن لا أريد أن أعرف. أريد تبديل الحرب سلما. أبدل ما حدث فأجعله لا يحدث. الفرق أنه ليس بعيدا من مات إنما هو ابن أختي الذي أحببْته.
لا يفي القلم ما حدث حقه من الوصف. وسأفترض أن القارئ يقرأ بانتباه، لكنه لا يستطيع أن يرى الآن وجهي الشاحب الذي يبدو عليه آثار تخيّل المشهد التالي: الألم . ليست الابتسامة التي تعلو وجه ابن أختي الشهيد المفترض. يحدق مفتوح الفم. كما لو أنه يريد أن يسألني: كيف حدث هذا لي يا خال؟ لماذا لم تقل لي إنهم سيفعلون بي هذا؟ إنه لا يعرف أنني خسرت، ولن يعرف أبدا. ولأن القارئ لم يشهد حالتنا؛ نحن أهله وأقرباؤه فلن يستطيع أن يتخيل أن العزاء لم يُقم خوفا من مباحث الدولة. وهنا أن أؤكد أن ما هو أقسى من ألا تقيم فرحا لمن تحب هو ألا تقيم مأتما عليه.
لكن إلى مَن أو إلى ماذا يتوجه الحداد ؟ يكون الحداد على من أحببناهم وفقدانهم. إن الواقع أننا نشعر من أعماقنا بهذا النوع بالفقدان. إلا أن أولئك الذين أحببناهم وفقدناهم هم ذاتهم أولئك الذين نحن مخولون من دون منازع أن نحبهم، ومن الطبيعي جدا أن نفكر بأننا جديرون بأن نحبهم بفضل مكانتنا وما نحن عليه. ومع ذلك فلا نزال بحاجة لأن نعرف من نكون، أو بالأحرى، أن نعرف هذه الكينونة الغائبة عن معرفتنا، في ما يتجاوز الرجوع إلى صورتنا “.
لم يعد عند أمي ( جدّته ) التي ربّته كلمات تستوعب ما حدث سوى ( يا قطْع روحي عنه ) لتوصّف حالة غيابه الأخير. أما أنا وأمه فلم نكن نملك الكلمات المناسبة .” فليس صحيحا أن اللغة تملك لكل حالة ما يوصّفها من كلمات، ومن غير الصحيح أن المرء يفكر مستخدما الكلمات“. وبقينا لأيام عديدة نفكر في أشياء كثيرة من دون كلمات؛ ربما لأننا لم نجد أي كلمة تفي بالغرض، لا في لهجتنا المحلية كمل فعلت أمي، ولا في الفصحى ولا في معاجم اللغة .
والآن وأنا أكتب لست أرى موضعا خير من هذا الموضع لأذكر بأن العمى الحقيقي الذي لا علاج له يتمثل في أن الآباء والأمهات والأقرباء لا يرون أبناءهم وأقرباءهم كما يرون أبناء الآخرين؛ أعني إمكانية أن يكونوا في نهاية المطاف دواعش مثلما صار غيرهم. غير أن الشيّق في ما يتعلق بي على الأقل؛ أن يتحول هذه العمى الحقيقي إلى أداة عمل، وما كنت لأكتب هذا الكتاب لولاه.
إذن راحت السّكرة وجتْ الفكرة على ما يقال في المثل الشعبي العربي؛ ذلك أن ما حدث لم يكن ليتطلّب في رأيي تفسيرا في ضوء الأيديولوجيا من حيث هي مجموعة من الأوهام والتعليلات والحيل والتبرير العقلاني. ولقد ظننتُ أن بودريار محق حين ذهب في تحليل ما حدث في مانهاتن بعدم وجود إيديولوجية وراء ما حدث؛ ذلك أن الطاقة التي عبأها هذا الحدث لا يمكن لأي قضية أن تفسرها، وأن فعلا هائلا كهذا لا يستهدف تغيير العالم إنما يهدف إلى تجذيره بالتضحية.
يتطلب ما حدث وما هو مستمر الحدوث ما هو أكثر من الأيديولوجيا؛ لاسيما حين يتضمن الحدث عددا من المعاني؛ فالداعشي مثقل بلا ضرورة وجوده، ولأن هذا يقلقه، فقد وجد في القتل ما يطمئنه أن هناك حاجة إليه؛ لذلك فهو يدافع عن القتل ويعتبره جريمة نقيّة. ربما لا ترد هذه العبارة ( جريمة نقية ) على لسانه بهذا الشكل الفاضح والعاري الذي عبرتُ عنه، لكنه التعبير الذي أعبر به عنه، بعد أن استخرجته منه آخذا في الاعتبار معتقده الديني . لا يمكن أن يكون الداعشي إلا قاتلا بالفطرة إذا ما أفردت فيلم أليفر ستون ( قتلة بالفطرة ) الذائع الصيت.
لا يوجد عند الداعشي سوى إرادة ذاتية مشوشة تعصف بها الرغبة. هل ثمة حاجة لأن أضيف إن ما حدث من الداعشي يحدث دائما؛ كذلك الرجل الغريب الذي يعيش في قبو ليكتب مذكراته منفصلا عن المجتمع، ومثل راسكينلوف حيث العنف العاري ووحشية القتل الواقعية، ومثل آخاب حيث يعني العقل التزييف المطلق واللعب الماهر من أجل تكريس خداع الآخرين أنفسهم.
كل حقبة تحلم بتلك التي تليها ؛ ولقد تضخم تمجيد المجاهد في الربع الأخير من القرن الماضي؛ لكي يصبح تجسيدا عمليا للثقافة العنيفة بما يتلاءم مع مرحلة الداعشي التاريخية، الذي تجذب مقاطعة الوحشية المصورة الكثير من المتابعين لوسائل التواصل الاجتماعي الحديثة.
لقد تضاءل إعجاب هؤلاء بالأسلاف المجاهدين الكلاسيكيين ( المجاهد في أفغنستان ) وزاد إعجابهم بمعاصريهم ( المجاهد الداعشي ) ويتوقعون من أحفادهم ما هو أكثر من هذين .
بسبب هذا كله فضلت أن ألجأ إلى بديل مفضّل للأيديولوجيا؛ أعني لجأت إلى دوافع الفرد النفسية والشعورية، وارتباطها بالبنى العابرة للأفراد، وهو ما سميته بلحظة الداعشي الخاصة. لقد فكرت في أنه من الضروري إعادة خلق مناخ الجنون المرعب والمريع في الثقافة، لنعرف إلى أي حد هو العالم عنيف ونحن مُبْتلعون فيه. العالم غابة، والقرود التي عاشت فيها وتطورت إلى الإنسان أعيد اختراعها في شكل إنساني يخرج نفايات العصور في ارتكابه الجريمة تلو أخرى.
ومع أن مهمة كهذه تحتاج متخصّصا، إلا أنني أوافق دولوز في أنه ليس ضروريا أن يكون المرء عالما؛ أي أن يعرف مجالا معينا، إنما ينبغي أن يتعلّم المرء هذا وذاك داخل مجالات مختلفة. وهذا يعني عدم الانشغال بما إذا كانت الأفكار صائبة أو غير صائبة؛ إنما الانشغال بالبحث عن أفكار أخرى مغايرة، في أمكنة أخرى، وفي مجالات أخرى؛ شيئا ما يحدث وهو غير موجود لا في هذا ولا ذاك.
من هذا المنظور ليس المطلوب هو صورة الداعشي الصائبة إنما صورته فقط. إنني أتصرف هنا في عبارة المخرج الفرنسي غودار” ليس المطلوب هو الصورة الصائبة إنما الصورة فقط. وأحاول أن أترجمها على صعيد التحليل في البحث عن أفكار. مجرد أفكار وليس الأفكار الصائبة؛ أعني لاشيء في التحليل أكثر من مضاعفة زوايا النظر، وكسر الدوائر. وأود أن أقول هنا لكل معترض على ما يتلو من تحليل: أتفق معك. فقط دعنا نمر إلى شيء آخر؛ فالاعتراضات لا تثمر أبدا .
تبنّيت في التحليل الذي يتلو أن حل لحظة الداعشي هو في المقام الأول حلٌّ عملي أكثر مما هو حل صوري، وحين أتبنى هذا الحل العملي فلأن لحظة الداعشي تستلزم هذا الحل. أقصد أن لحظة كلحظة الداعشي الخاصة لا تقال، وربما أذهب إلى أكثر من هذا فأقول: لا يمكن أن تقال، إنما يمكن أن تحضر في التحليل بطريقة استعارية؛ بتحليل تجارب توجد فيها لحظة انفعال مريعة وفريدة من أجل أن أجد فيها ما أنا في حاجة إليه؛ لكي أبني سلسلة متصلة وجدانية تمكنني من أن أخمّن بنية الداعشي الوجدانية التي تبدأ بنوع من الانفعال المحتوي على قدر من خصائص لحظة الداعشي الخاصة التي سأحددها. وسوف تصبح هذه التجارب لبنات لبناء لحظة قصوى ينتج عنها سلوك الداعشي، وهو بطبيعة الحال سلوك معقد، ويحتوي على مقدار من الانفعال.
لقد احتجت إلى أن أنوّع التجارب التي تستطيع أن تعطيني حالات مشابهة تسمح لي بأن أقترب أكثر من لحظة الداعشي الخاصة. وبالرغم من قصور التجارب التي حلّلتها إلا أنها تبقى -من وجهة نظري - أكثر التجارب أثرا، وأفضلها وعدا لتحليل لحظة الداعشي القصوى المريعة.
إننا لن نفهم غير المألوف كتجربة الداعشي إلا بعد أن “نطعّمها” ببعض التجارب المألوفة، وما سنفهمه من هذا يعتمد على ما نتوقع أننا سنكتشفه. قد تكون بعض التجارب التي أحللها تجارب متطرفة، لكن ما أراه هو أن التجارب المتطرفة قد تساعدنا على توضيح طبيعة ما نحن بصدده.
اقترحت العامل غير المعقول في التجربة الدينية لمسار هذه الأفكار. ومن حسن الحظ إننا نعرف اليوم، وبفضل تحليلات اللاهوتي الألماني رودولف أوتو أن هناك ما يمكن أن يُدعى باللاعقلاني أو ما فوق العقل في أعماق الطبيعة الإلهية. وحين أتنبى هذه الفكرة المهمة مع التغيير اللازم لكي توافق موضوعي فإنني أحاول جادا في أن أتفهم تهوّر وإبهار وانبهار وروْع وترويع الداعشي . لقد فضلت أن أضيّق تعريف الداعشي لكي أقصي أفرادا ينتمون إلى بعض التيارات والتنظيمات، وفي الوقت نفسه أردت أن يكون التعريف قابلا لأن يُسْحب على كل ما يُصنّف على أنه داعشي.
على أنه من المهم هنا أن أنبّه إلى فكرة مهمة تزيل سوء الفهم الذي يمكن أن ينشأ. هذه الفكرة هي أن الغالب من الناس ينْفرون مما هو مضْنٍ للعقل، ولا يهمهم أن يعرفوا من الكلمة إلا دلالتها العامة؛ فإذا قرؤوا كلمة ( الداعشي) في عنوان هذا الكتاب أراحهم أن يخطر على بالهم الداعشي السنّي فقط. لكن الداعشي كما أفهمه وأحلله هنا انطلاقا من لحظته القصوى الخاصة ليس السني فقط إنما أيضا يمكن أن يكون الداعشي الشيعي . بل إنني أذهب أكثر من هذا؛ فما تابعته من مقاطع صوتية مسجّلة أو مصورة لعامة الشيعة تؤكد أن الشيعي إذا تدعْشن يتحوّل إلى فرد مروّع، وإذا ما كانت الصورة المثلى للروح هي الجسد كما ذهب فجنشتين فإن ما يفعله الشيعي العامي بجسده في عاشوراء هي الصورة المجازية الأولى للتضحية فيما بعد.
إن الداعشي يعبر عن نفسه بطرق شتى سواء أكان داعشيا مسلما كالسني أو الشيعي أو داعشيا غير مسلم كالبورمي أو الإفريقي، لكنها طرق تعبير تتمّم بعضها بعضا، وتتناقض مع بعضها بعضا؛ لأن الواقع ينطوي على الشيء، كما ينطوي على نقيضه. وإن كنت هنا سأتوقف عند لحظة الداعشي السني الخاصة فيجب ألا يغيب الدواعش الآخرين.