يشكّل «القدر» واحدًا من أكثر المواضيع الدينية ضبابيةً وإثارةً للجدل، فعلى الرغم من اعتباره ركنًا من أركان الإيمان الستّة (بعد الإيمان بالله والملائكة والرسل والكتب المقدسة والأنبياء واليوم الآخر)؛ إلا أن تأويله يُعدّ موضع تنازع كبير قسمت على أساسه تيارات إسلامية عدّة (كالجبرية، والقدرية والجهمية… الخ)، فبينما أحجمت بعضها عن الحديث عنه استنادا إلى مرويات تنهي عن ذلك، اجتهدت تيارات أخرى في محاولة تقديم إضافة في فهمه وفهم جدليته مع الإرادة الإنسانية، وما يتفرع عنهما من قضايا هامة كالحرية الفردية والمسؤولية.
ولنبدأ بإلقاء الضوء على التعريفات الأكثر شهرة لدى المؤسسة الدينية التقليدية وما يتفرع عنها، حول معنى القدر:
- هو تقدير الله للكائنات حسب ما سبق به علمه واقتضته حكمته. (1)
- هو علم الله وكتابته للأشياء ومشيئته وخلقه لها، فالإيمان بالقدر يقوم على أربعة أركان تسمى مراتب القدر؛ وهي العلم والكتابة والمشيئة والخلق، وأفعال العباد داخلة في عموم خلقه عز وجل ولا يُخرجها عن ذلك العموم شيء. (2)
- القضاء تعلق علم الله وإرادته بإيجاد الأشياء على وجه مخصوص والقدر إيجادها فعلاً على هذا النحو، فالقضاء متعلق بالعلم، والإرادة متعلقة بالقدرة والفعل (3).
- الإيمان بالقضاء والقدر معناه: الإيمان بعلم الله الأزلي، والإيمان بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة سبحانه. (4)
وفي المحصلة نجد أن معنى القضاء والقدر لا يخرج على:
- علم الله بكل ما سيكون.
- كتابته للأشياء كيف ستكون.
- تعلق إرادته بإيجاد الأشياء.
- خلقه الأشياء كما أراد.
ولنناقش بهدوء المفردات السابقة وذلك بالعودة بدايةً إلى السياق الذي ورد فيه ذكر القدر، وهو النصّ الوارد على لسان النبي “الإيمان؛ أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره” (5).
تؤكد مختلف التيارات الدينية بأن «علم الله المطلق» أول وأهم مراتب فهم القدر؛ يقولون “الإيمان بأن الله عالم بكل شئ جملة وتفصيلاً، أزلا وأبداً، سواء كان ذلك مما يتعلق بأفعاله، أو بأفعال عباده، فعلمه محيط بما كان، وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون” (6)، ويطيلون في ذلك شرح المطولات، واقتباس الشواهد، لكن ما فات الفقهاء هنا؛ أن التأكيد على صفة «العلم» لله، لا يقتضي بالضرورة جعلها تفسيرًا – جزئيًا أو كليًا – لمعنى القدر.
وما يصحّ عن «العلم» يصح كذلك عن «الإرادة» و«القدرة»، فعلم الله وإرادته وقدرته شيء داخل في «الإيمان بالله»، لكن ما فعله المفسرون أنهم حينما وصلوا إلى ركن الإيمان بالقدر؛ أحالوا معناه إلى الركن الأول مجددًا وبما يتعلق به من صفات وأسماء!
وأما ما قد يقوله البعض بأن القدر يشمل إلى جانب ذلك مرتبة أخرى مهمة وهي (الكتابة)، فإن ذلك لا يضيف إلى جوهر المعنى بُعدًا جديدًا، فالكتابة طالما أنها مطابقة للعلم فالتأكيد عليها حشو لا لزوم له وتكرار لمعاني الإيمان بالله، واهتمام المؤسسة الدينية بفعل (الكتابة) ونسبه إلى الله، آتٍ من فهمهم الخاص لبعض النصوص الدينية التي يرون أنها تفيد وجود لوح محفوظ في السماء، كتبت عليه أقدار البشرية، وأن الله يكشف للملائكة على رأس كل عام أحداث ذلك العام، إلى آخر ما تجود به أدبيات الميثولوجيا الدينية.
بعبارة أخرى؛ فإن من يقرأ ما كتب حول مسألة القدر إسلاميًا، سيجد نفسه يقرأ عن «الله» وصفاته، مع إشارات أخرى إلى أن الإنسان حرّ مسؤول عن حياته، لكنه لن يجد كلامًا واضحًا يتناول العلاقة بين الإثنين، بين الله؛ واسع العلم مطلق الإرادة والقدرة، وبين الإنسان حريته ومسؤوليته، وهذا ما نراه تجاهلًا لجوهر المسألة؛ فسؤال الإنسان مسيّر أم مخيّر، يعبّر عن الحيرة تجاه العلاقة بين إرادة الله المطلقة وإرادة الإنسان، وهو ما يجب بحثه عند الحديث عن القدر، لا سيما أمام موروث ديني وسائد شعبي زاخر بالجبر وأشباهه، فيما تناور بعض الأصوات الإصلاحية بهامش تطمينات دون تقديم إجابات شافية.
ومما يزيد الموضوع تعقيدًا لا توضيحًا محاولة بعض الفقهاء والمفسرين؛ حصر كل النصوص الدينية التي جاء فيها أحد لفظي (قضاء أو قدر) في عملية فهم المسألة، رغم ورودها أحيانًا بسياقات ومعاني مختلفة تمامًا عن موضوع الدراسة؛ الأمر الذي يعتبر خطأ منهجيًا.
كالآيات: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه، ومنهم من قضى نحبه، وما قدروا الله حق قدره الخ، فرغم تشابه الألفاظ فإن معانيها تختلف تبعًا لسياقات ورودها، ولذا فهي لا تخدم غرضنا هنا، بل تضيف إلى التشويش الإجمالي للموضوع طبقاتٍ أخرى من التعقيد والإرباك.
هذا الانكفاء إلى معاجم اللغة بعد استفراغ الجهد في المجلدات العقائدية، علاوةً على سخريته الأخيرة، إلا أنه يحرم الفهم الديني أيضًا من الانفتاح على آفاق جديدة للمسألة، تنبثق من نصوص لم ترد فيها لفظة القدر بشكل صريح، إلا أنها لصيقة في معناه، وأكثر خدمة لمقصود الفهم، من ذلك ما رواه مسلم وغيره في حديث قدسي عن الله «أنا عند ظن عبدي بي»، وفي رواية أخرى في صحيح ابن حبان « أنا عندَ ظنِّ عبدي بي إنْ ظنَّ خيرًا فله وإنْ ظنَّ شرًّا فله».
إذ يشير النص بوضوح صادم إلى أن الإنسان (وتحديدا إيمانه) هو مَن يحدد سلوك الله تجاهه (خيرًا أو شرًا)، لا العكس، فليس الله مَن يقسم الشر غصبًا على الناس أو يكتب لهم الخير جزافًا، وهذا ما يعني مسؤولية الإنسان المطلقة عن حياته، ليس فقط بما فيها من جوانب مشرقة، بل وبما فيها من مصائب أو مصاعب، الأمر الذي سيصعب تصديقه للوهلة الأولى، ما يدفع النص للتأكيد: القدر؛ خيره وشره.
كيفما ترى الله، يكن معك.. هذا ما اختاره الله قدرًا للإنسانية.
المصادر:
1- ويكيبيديا، مادة ’قضاء وقدر’، نقلا عن ابن القيم الجوزية.
2- المصدر السابق.
3- مجلة نهج الإسلام، العدد 32، مادة ’قضاء وقدر’للدكتور راتب النابلسي.
4، 6- موقع صيد الفوائد، كما يمكن مراجعة الفتوى رقم 20434على موقع اسلام ويب.
5- رواه مسلم وغيره.