إن الإنسان كائن مفكر يراقب ذاته ويجعل من ذاته ومن العالم موضوعاً لتأمله، وهو الموجود الوحيد القادر على طرح الأسئلة المرتبطة بوجوده في العالم، ليضفي بذلك المعنى على هذا الوجود، من هنا كانت حاجة التفكير الإنساني إلى المطلق واللامتناهي وحاجته إلى الدين، إذ تشكل الظاهرة الدينية جانباً ضرورياً في الحياة الإنسانية وهي ظاهرة لا يمكن استبعادها وبخاصة في عصرنا الراهن . من هنا أنصب اهتمام فلسفة الدين كعلم متميز على طرح الأسئلة حول الدين، وعلاقة الله بالنفس والعالم ، ومعرفة الله، والخلاص، وطبيعة الله واللغة الرمزية الدينية ومشكلات الأخلاق والعلم وأنساق القيم الثقافية. وبالتالي محاولة الوعي بالخبرة الروحية على اختلاف معانيها، واتخاذ موقف فلسفي نقدي تجاه شتى الخبرات الإنسانية وأهم المشكلات الدينية والفلسفية والثقافية والحضارية، ومن ثم فإن فلسفة الدين تتناول تركيب العلاقات ما بين (الثقافة والدين، الدنيوي والمقدس المطلق، الذات والعالم، الوجود والعدم.. الخ)، والأشكال والوظائف؛ أي المقولات العامة لفلسفة الدين (ماهية الدين وطبيعته) والمقولات الخاصة (النظرية والعملية).
ومع ظهور العديد من الدراسات الفلسفية والدينية والأنثروبولوجية والتاريخية التي حاولت تناول الدين بوصفه ظاهرة ثقافية، للكشف عن طبيعته وماهيته الحقيقية، وبالتالي تبيان خصوصية هذه الطبيعة التي تميزه عن غيره من الظواهر الإنسانية، أخذ هذا العلم “فلسفة الدين” ينوس بين بعدين، العقل والوحي، الفلسفة والدين، الدنيوي والمقدس، العالم والله، فأحياناً ينحاز إلى هذا الحد، وأحياناً إلى الحد الثاني، وإن كان يظهر –وبخاصة في عصرنا الراهن- بإفراط ليحدث في إهاب إيماني يختفي وراء صور من البراعة الجدلية والمنطقية. ليضحى بالفلسفي/الثقافي لحساب الديني فيختزل بذلك الفلسفة إلى نوع من النزعة السكولائية المعاصرة توفق بين الديني والثقافي بأكثر مما تحتفظ بحقلين منفصلين أحدهما للفلسفة وآخر للديني، بحسب تقاليد الفلسفة الحديثة.
لقد حاول البعض بناء مركب يجمع عبره في وحدة واحدة كلاً من الفلسفة والدين، وبالتالي، يضفي على فلسفة الدين مضموناً ومحتوى، ليحقق علماً نسقياً، يشمل كل الأنساق المعرفية الدينية والثقافية والاجتماعية والنفسية. ومن ثم، تأكيد الوحدة بوصفها العلاقة الأصلية للاثنين “الدين والثقافة”.
بيد إنه يبقى التساؤل مطروحاً: في ظل أي فروض مسبقة يوجد تآزر الثقافة والدين؟ وما هي النتائج المترتبة من هذين الجانبين كليهما؟ وهل على فلسفة الدين أن تبدأ في الحقيقة بالفعل من مثل هذا التآزر؟ ومن ثم تنهض بمهمة الكشف عن تجليات الخبرة الدينية والمعرفية وتحليلها، ومن ثم تجديدها. هل يمكن لعقل واحد يحاول الجمع بين الفلسفي/ الثقافي والديني أن ينتهي إلى تغليب الفلسفة، باعتبارها نشاطاً عقلياً حراً، أن ينتهي إلى منح الأولوية للفلسفة وإقصاء الديني من حسابه تماماً؟ ولو كان من الممكن لفيلسوف أن يفعل ذلك، فما الذي يكون قد ألجأه إلى الديني أصلاً ما دام العقل، في نظره، يغني عن كل ما عداه؟ وبالعكس لو أن فيلسوفاً حاول الجمع في فلسفته بين العقل والوحي، وانتهى إلى منح السيطرة والأولوية بالديني مكتفياً بجعل الفلسفة والعقل خادماً للديني، فما حاجة فيلسوف من هذا النمط إلى الفلسفة طالما أنه يعرف من البداية أن الحقيقة إيمانية وأن السبيل الوحيد للوصول إلى الحقيقة هو الانخراط في التجربة القلبية؛ أي تجربة الإيمان التي تغني بطبيعتها عند أصحابها عن كل منهج مغاير للتسليم الإيماني، وما ينتهي إليه ذلك من حقيقة إيمانية قلبية؟
يتجه البعض في تناوله للظاهرة الدينية عبر محاولة كشف اختلافها عن الأشكال الإبداعية الثقافية في تناولها لموضوعات الإيمان، مبيناً أن فلسفة الدين لا تغفل البعد الديني في الظاهرة الثقافية في تجلياتها المتعددة، وإنما تكشف عن طبيعة الدين والخبرة الدينية، فتجعل من الحقيقة الإيمانية مفهوماً معيارياً للتحقق العيني لمفهوم الدين، بينما تجعل من البعد الثقافي توجهاً ضرورياً لتتحقق وحدة الشكل والمحتوى في فلسفة الدين. وهو موقف قريب من موقف مرسيا في إعادة القدسية للحياة عبر المعنى والحقيقة والكينونة، ليغدو الدين بالتالي متغلغلاً في كل الظواهر الثقافية والتاريخية والاجتماعية. يقول مرسيا: «إذا ما عدنا إلى أقدم مستويات الثقافة، نجد أن العيش ككائن بشري هو بحد ذاته فعل ديني إذ أن الغذاء والحياة الجنسية والعمل لها قيمة قدسية بتعبير آخر لأن نكون أو بالأحرى لأن نصير بشراً يعني أننا كائن ديني.»
وعلى الرغم من هذا الموقف التخمي من الثقافي والديني المتعين في فلسفة الدين، إلا أننا نزعم إنه لم يخرج عن الإطار الديني. فالتفكير هنا يبقى في الإطار الديني من الناحية التكوينية والبنيوية. ويبقى الهدف النهائي ليس إلا ربط المعنى الأنطولوجي بالأخلاقي للتأسيس لفلسفة الدين. وبالتالي تبقى بنية فلسفة الدين هي الأنطولوجيا وقمته هي الثيولوجيا.
ولعل السؤال: هل الحقيقة الفلسفية هي ذات الحقيقة الإيمانية؟ هو السؤال المفضي إلى تعقيد العلاقة ما بين الفلسفي والديني ليتخذ بذلك الصراع أشكالاً متعددة، ومن ثم يفترض الاختلاف في طرق البحث عن الحقيقة في كل شكل منها . وهو ما تجلى في المجادلات العقلية والفلسفية والدينية التي ثارت في العصور الوسطى، من أوغسطين الذي تناول موضوع الله اللامتناهي بوصفه آناً أبدياً يتحقق في علاقة النفس بالزمان، إلى توما الأكويني الذي بحث في اللامتناهي من خلال علاقته بالموجودات المتناهية بوصفه علة كل موجود مفترضاً بان الإيمان والعقل يتجهان نحو اللامتناهي وبالتالي فهما من مصدر واحد للحقيقة، وهما وجهان للحقيقة الإلهية ، إذ إن الإيمان يتحقق بنعمة إلهية، في حين يتجه العقل إلى اللامتناهي عبر وضوحه الذاتي ونوره الطبيعي.
وإعادة النظر في طبيعة العلاقة التي يمكن لها أن توجد أساساً للوحدة ما بين الفلسفة والدين. جعلت من مسألة العلاقة ما بين الإيمان والعقل، أو اللاهوت والفلسفة، أحدى أهم المشكلات، وبخاصة في العصر الحديث والتي اتخذت شكل توجه خالص نحو الفلسفي/الثقافي متعياً في أشكال إبداعية ثقافية، وهو ما يظهر فيما أحدثه ديكارت من تأسيس للعقلانية مبرهناً على وجود الله، ومؤكداً أولوية الذات المفكرة “أنا أفكر إذن أنا موجود” ، على سواها، مستنبطاً يقين الله اللامتناهي استناداً إلى هذا اليقين الذاتي. وما كشف عنه كتاب “نقد العقل الخالص”، و(الدين في حدود العقل وحده)، لكانط والذي جعل الدين جزء من العلم، إذ ميز كانط بين دين الوحي (Religion revelee)، والدين الطبيعي (Religion naturelle) وهو دين العقل، وحصَرَ دور الديني في تحديد العبادات والشعائر والطقوس. وبذلك يغدو للأخلاق -المؤسسة بدورها على مفهوم الإنسان- كما يؤكد كانط- المكانة الأهم، لأنها مكتفية بذاتها، ومن ثم فهي تقود على نحو لا بد منه إلى الديني. ومن هنا ليست الفلسفة بالضرورة نقداً للدين، وإنما يتوجب على اللاهوتي الديني أن لا يهمل الجانب الفلسفي. يقول كانط: «إنه لو كان الرأي عند العالم بلاهوت الكتاب المقدس ألا يكون له، حيثما يكون ذلك ممكناً، أيُّ شأن مع العقل في أشياء الدين، فإن المرء يستطيع أن يتوقع بأيسر الجهد من أي جانب سوف تكون الخسارة، وذلك أن ديناً، يعلن الحرب على العقل من دون تفكر في العواقب، سوف لن يتمكن، مع طول المدة، من الصمود أمامه.».
ومع هيغل، كان لتأكيد العلاقة الوثيقة التي تجمع الدين والفلسفة، سمة الفكرة المطلقة ، مبيناً أن الروح في حركة الوعي بذاتها، تتعين في الفكرة المطلقة عبر ثلاثة أشكال هي الفن والدين والفلسفة. ورغم اختلاف تعين الفكرة المطلقة في هذه الأشكال، إلا أنها كلها تنشغل بالروح الكلية والحقيقة المطلقة. ووفقاً لهيغل، فإن الفلسفة والدين، على الرغم من كونهما مستقلين، فإنَّ كلاً منهما يسير في طريق مختلف، إلا أن غايتهما واحدة، وهي اكتشاف ما هو حق. يقول: «إن للفلسفة والدين موضوعاً مشتركاً، وأعني به الحق على نحو مطلق؛ أي الله من حيث هو مطلق في ذاته ولذاته.» وبالتالي كان الدين والفلسفة، من جهة المضمون والغاية، متحدين، في حين أنهما مختلفان من حيث الشكل. ذلك إنه بحسب هيغل فإن «موضوعات الفلسفة هي نفسها- بصفة عامة- موضوعات الدين. فالموضوع في كليهما هو الحقيقة بذلك المعنى السامي الذي يكون فيه الله، والله وحده، هو الحقيقة. وهما ينتقلان بطريقة متشابهة إلى معالجة العالمين المتناهيين: عالم الطبيعة والروح المتناهي، من حيث علاقة الواحد منهما بالآخر، ومن حيث علاقتهما بالله بوصفه حقيقتهما.».
وإن توقفنا في مناقشتنا للدين، وعلاقته بالأشكال الإبداعية الثقافية، بغرض تبيان مسألة مصدر الإيمان في علاقته بالعقل، فإننا نجد عدد من وجهات النظر حول طبيعة الإيمان. منها تفسير شلايرماخر “Friedrich Schleiermacher” لهذه الطبيعة بوصفها شعوراً انفعالياً ذاتياً تبعياً يهدف إلى الطاعة اللامتناهية، مستنداً إلى صعوبة فهم الإيمان كمسألة متعلقة بالعقل أو الإرادة. على أن هذا الاعتقاد بالمصدر الإنفعالي الوجداني للإيمان الديني كرس نوعاً من المصالحة الهشة ما بين الدين والثقافة، لأنه جعل من الدين شأناً إيمانياً خاصاً بكل فرد، مما دفع البعض لافتراض انتهاء الصراع ما بين الدين والثقافة. وبالتالي اكتسب الدين تعيناً في شكل أخلاقي مبتعداً عن عمق الإيمان الأقصى، فغرق في الذاتية الخاصة بمجرد الشعور، منطوياً بذلك على محدوديات الفعل الإيماني.
وهو ما حاول رودلف أوتو الإشارة إليه، حين تناول مفهوم “الحس التبعي” الذي عرضه شلايرماخر. فالعاطفة الدينية تغدو ضرباً من الوعي الذاتي والتبعية الذاتية، وإدراك الحضور الإلهي قائم على الاستدلال والتفكير، ومن دون أن يفرق في حس التبعية ما بين الحس بالإلوهية والحالات الذهنية الأخرى أو ما بين تبعية مطلقة وتبعية نسبية. يقول أوتو: «إن شلايرماخر نفسه يقر بذلك، على نحو ما، مميزاً الحس الديني بالتبعية، أو الورع، عن سائر الأحاسيس كلها بالتبعية. أما خطأه فيكمن في أنه يجعل الفرق قائماً فقط في التمييز بين تبعية “مطلقة” وتبعية “نسبية”؛ ومن ثم في اختلاف في الدرجة، لا في السمة الداخلية. ما يتغافل عنه هو أننا بإطلاقنا على الحس اسم“حس بالتبعية” بشكل مطلق؛ إنما نستخدم في الواقع ما ليس سوى تشبيه شديد القربى به.»
بيد أن ما ذهب إليه أوتو، في تجربة المقدس الديني في فلسفته جعل من هذا التجربة ملتبسة وغامضة متضمنة لإمكان حمل الدلالات المتعددة، وهو ما يفضي إلى تشويه معنى الإيمان والخلط ما بين الإيمان الصنمي أو الوثني والإيمان الحق. فأوتو، في كتابه“المقدس”، يبين أن المقولة الرئيسية للدين هي أن المتعالي الإلهي يتجلى في كل فهم إنساني. لذا فالخبرة الدينية تنطوي على عنصرين أو وجهين، وجه لاعقلاني للاعتقاد بالذات الإلهية، ووجه عقلاني.
وفي موقف هو أقرب إلى الموقف الكيركيغاردي، نجد كارل بارت karl Barth يحيل مصدر الإيمان إلى الشجاعة في المخاطرة والخلاص بفضل التبرر الإلهي. حيث الإيمان نعمة وهبة من الله مبتعداً عن افتراض البرهان العقلي أو الشعور العاطفي الذاتي كمصدر للإيمان، فيفصل فصلاً حاداً ما بين الدنيوي والديني مفترضاً أن الأشكال الثقافية هي أشكال متناهية. وهو ما أسس عليه بارت ما يسمى لاهوت الأزمة.
إن فلسفة الدين لا يمكن لها أن تتجنب الخوض في النقاشات العميقة حول العلاقة ما بين الفلسفة والدين، ومسألة الحقيقة في هذين الحقلين الفلسفي والديني، بل أن أحد أهم مهمات هذا العلم المتميز أن يعيد طرح المشكلات والأسئلة الفلسفية الدينية لكن في إطار حضاري تاريخي واجتماعي وثقافي وديني. لتغدو مفاهيم الحرية والعقل والروح والوجود والتفرد والمشاركة والعمق اللامتناهي والتأكيد على الذات وتفردها وعلاقتها مع الآخر..الخ، مفاهيم عميقة، دون الغرق في الماضي لإنتاج منظومة قيم حضارية عصرية تتجاوز الأزمة العميقة الروحية والأخلاقية التي تعصف بالحضارة. أن كل المحاولات التي تناولت سؤال العلاقة ما بين الفلسفة والدين، تبين أن فلسفة الدين بوصفها فلسفة مؤسسة على إمكان التفاعل والتأثير المتبادل بين الفلسفة والدين، تنطوي على الإجابة على تساؤلات الإنسان المعاصر الروحية والثقافية الاجتماعية والدينية والحضارية.
ويبقى إن نشير إلى أن فلسفة الدين في طرحها لإعادة قراءة العلاقة ما بين الفلسفة الثقافي والديني، تكشف عن الأهمية والحاجة المتزايدة للدراسات الفلسفية الدينية والتي تتناول مسألة العودة إلى الدين بالاستناد إلى التفكير الفلسفي وخاصة في حقل الفلسفة المعاصرة. والبحث في الظاهرة الدينية بوصفها ظاهرة انسانية ثقافية وبالتالي خبرة روحية معاشة تخضع للنقد والتفكير العقلي متجاوزة مسألة التسليم والإتباع.