لم يبتلى الإنسان منذ أن وجد على هذه الأرض بشيءٍ أسوأ من تمكّن فئة قليلة من بني جنسه، من امتلاك أدوات القوة الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية، وفرض سلطة استعبادية على باقي الأفراد، تجعلهم عبيدًا عند هذه السلطة، بكل ما لكلمة العبيد من معنى. ولم يكن هذا التسلّط الاستعبادي هو الأسوأ في تاريخ البشرية إلا لأنّ أثره طويل الأمد، فقد يمتد لعقود، بل وربما لقرون!
هذا الأثر الذي يتركه المستبد وباطنته في الشعوب التي تخضع لسلطانه، هو أثر فكريّ من جهة ونفسيّ من جهة أخرى، فالجانب الفكري له يتمثّل بإعادة تعريف ما هو صحيح وما هو خاطئ وإعادة رسم معاني المفاهيم المكونة للعقل الجمعي. وأما الأثر النفسيّ فيتجلّى في ترسيخ الرضا بمعادلة الأمان مقابل الحرية مما يجعل من الشعوب المستقلة عبدة عند أسيادٍ مزيفين.
وسنتحدث في هذا المقال عن واحدٍ من أخطر المفاهيم، التي ساهم تزويرها في توطيد الحكم للمستبد وباطنته، إنه الوهم الذي يبيعه المستبدون للشعوب، بأن الإنسان ليس سيد قدر نفسه، وبأن محدّدات مسبقة هي من قررت وكتبت كل ما جرى وسيجري، وبأن مخالفة المكتوب، أمر محال، مُسلّم له بالفشل والخسران.
وسرعان ما يتمكن الاستبداد من تحويل هذا «المركب» إلى منتجٍ عقليّ، يتخذ شكل الثقافة، فيغدو مذهبًا فكريًا، له حججه وبراهينه وشواهده من مدارس الفكر، وأقطاب الثقافة، فيكتسب بذلك قوة العقل ورطانته التي يعجز معظم الناس على مجاراتها، فيسلمون عقولهم لها، وينساقون ورائها، مخدوعين بما تستخدمه من ألفاظ فخمة، واستنتاجات متداخلة، ليغدوا هذا «المركّب» الدخيل، ثقافةً أصيلة لا نزاع فيها.
كما يتم تحويل هذا «المركب» إلى عقيدة دينية، فتُلبّس لبوس الدين والإيمان، لتستخدم لغته نفسها، ومصطلحاته بعينها ورجلها، وتزيّن متنها وحاشيتها بنصوصه المقدّسة، واقتباساته المعصومة، ليكتسب بذلك عصمة الدين وقداسته، التي يؤمن الناس بصوابها على المطلق، وبضرورة التسليم لصحتها، فتتغلغل فيهم، باسم الدين، وهكذا يُحوّل «مركّب الاستبداد» هذا إلى ركن من أركان الإيمان بالله واليوم الآخر!
وما إن تطورت النزعة العلمية على وجه البسيطة، حتى سارع المستبدون إلى تشكيل مشتق جديد من هذا «المركّب» يتخذ من العلم ولغته الصارمة مطيّة له هذه المرّة، ليتحدث بلغة التجارب، والإحصاءات، والدراسات، والأبحاث، ويبرهن نفسه بحجج “آخر ما توصل إليه العلماء” وأثبته “المختصون”، لنصل مرة أخرى إلى النتيجة عينها، من التسليم والخضوع للفكرة / المركب، لكن هذه المرة بثوبها العلميّ، ولغتها الحداثية.
ففي لغة المنطق الفكر، ادّعوا بأن ظروف المرء هي من تتحكم بكلّ شيء يخص حياته ويرسم معالمها، فالسنوات الأولى من تربيته، وظروف بيئته قد حددت ملامح حياته، مرةً واحدة وإلى الأبد، ليكون الإنسان ريشة في مهبّ الريح، إن هبّت شرقًا، أخذته شرقًا، وإن هبّت غربًا، أخذته غربًا، وهو ليس له في هذا ولا ذاك شيئًا من أمر نفسه، أو أمر مجتمعه، إنما هي التربية والبيئة!
وفي لغة الدين، يزعمون بأن الله قد كتب القدر، أوله وآخره، خيره وشرّه، فلا رادّ لقضائه، ولا منازع في حكمه، فأقام العباد حيث أراد، قدّر وما شاء فعل، ولا حول ولا قوة للإنسان بما يجري من شيء، إن هو إلا التسليم والصبر والاحتساب، والتعزية بأجر موعده الجنة.
وأما في لغة العلم، فقد برز مذهب الجبرية البيولوجية، التي تقول بأن جينات المرء الموروثة من والديه، هي من تحدد له طريقه، وترسم له سلوكه، وتبني له طبيعته النفسية والفكرية، وليس في مقدوره هو أن يغيّر فيها شيئًا، ولا أن يسعى لتحسينها، وليس إلا أن يتكيّف معها، و يتلائم وفق ما تقتضيه، إن المستبد ليزرع في المرء الضعف والخنوع، ثم يدعي بأن ذلك قدرًا بيولوجيًا لا مردّ له.
هكذا تجتمع شباك بيوت العنكبوت، على الشعوب، لتقيدها قيودًا واهية، يُهيء لها المستبد أنها قضبان من حديد، فتجلس عن التحرر، وترضى بالخنوع.
كذا، سرعان ما يتوطد الأمر للفئة المستبدة، بسيطرتها على قطاعات الشعوب المختلفة، كلّ حسب أسلوبه، فمن وافق هواه الفكر والفلسفة، جاؤوه منها، ومن نزع إلى الدين، أتوه منه، ومن هرب من هذا وذاك لاجئًا إلى العلم، طالبًا خلاصه منه، أتوه من مأمنه.
إلا أن المجتمعات الإنسانيّة لم تعدم من عظماء حاولوا تحرريها على الدوام من نير الاستبداد، أنبياء كانوا أم حكماء أم علماء.
فالأنبياء أخبروا الناس بأن الله يعلم المقدور، ولا يحدّده جبرًا، وإلا فكيف يستقيم الحساب والجزاء، وكلّ مجبور على ما هو عليه؟ وبأن الله خلق الإنسان حرًا، قادرًا على تسخير كل مارفي الوجود لصالح نماء الكون بأسره.
والحكماء أخبروا الناس بأن التحديات والمصاعب التي يلاقونها إنما هي خير هبات من الوجود تصقل الطاقات وتفعّل الإمكانيات، وبأن الظروف لا تصنع شكل الحياة، بل الأسلوب الذي يتفاعل وفقه المرء مع هذه الظروف، ويقرؤوها من خلاله، وبذا يكون له حرية الإرادة المطلقة بأن يصنع من الليمون شرابًا حلوًا أو مالحًا.
وأنار العلماء درب الحريّة من زاويتهم، بكشفهم أن جينات الإنسان لا تسهم في رسم سلوكه وتحديد طبائعه إلا في حدود 10%، بل إن هذه الجينات سرعان ما تتكيف مع البيئة والإدراك والثقافة والمعتقدات التي يحملها كلّ في وجدانه، لتعود كفّة القيادة للإنسان من جديد.
أسوأ وهم كبّلت به البشرية، أن حياة الفرد أو الجماعة، ضحيّةٌ لقدرٍ مرسوم، أو تربية مقدرة، أو ظروف اعتباطية، وأخطر حقيقة يعمل المستبدون على طمسها؛ حقيقة الحرية الكاملة والإرادة المطلقة التي يتمتع بها كلّ واحدٍ منّا، ليتخذ متى شاء قرارًا يغيّر به حياته وما فيها.