مع بداية سبعينيات القرن الماضي، وفي غمار حركات تحرّر المرأة، شرعت لوس إريغاراي في الكتابة الفلسفية حول الذّات النسوية. ويمكن تصنيف محاولتها في خانة إيجاد مكان لخطاب المرأة، مفكّكة بذلك الخطاب الذكوري بدءاً من فرويد، وماركس و نيتشه وهيدغر لتحديد ما يتعلّق بسؤال المرأة.
تُـعدّ المحللة النفسانية وعالمة اللسانيات الفرنسية ذات الأصول البلجيكية لوس إيريـغاراي (Luce Irigaray) واحدة من أهمّ وأصعب رائدات الحركة النسوية الفرنسية، نظرا لأسلوبها المعقّد في الكتابة. وغالبا ما يقترن اسمها بإلين سكسو (Hèléne Cixous)، وسيمون دي بوفوار (Simone de Beauvoir) وجوليا كريستيفا (Julia Kristeva) لتبنيها نظريات التحليل النفسي من أجل مناقشة المسائل النسوية وإثارة قضايا الاختلاف. لهذا يُعدّ البعد الأكثر شهرة في فكر إريغاراي، استثمار التناقضات والافتراضات الجندرية في عمل كل من فرويد وزميله جاك لاكان، موظّفة المقاربة التفكيكية؛ حيث نادت بضرورة تفكيك اللغة لإنشاء نظير نسوي لـمقولات التحليل النفسي التقليدية. إن النساء باعتبارهن ذوات، يقبعن تحت وضع مقلق، ومتناقض “بسبب الاضطهاد: ذلك لأن المرأة كي تتكلم يجب أن تتكلم كالرجل، ولكي تعرف جنسانيتها إطلاقا يجب أن تقارنها بالنسخة الذكورية: أي أنها يجب أن تكون نقض القضيب”.
تقوم إريغاراي باستكشاف العلاقة بين اللغة والجنسانية مشيرة إلى أن النساء يستخدمن تراكيب نحوية فريدة من نوعها مستقلة عن التعارضات والثنائيات المركزية في عملية إنتاج المعنى. وقد درست العراقيل التي تواجه السياسات النسوية في المجتمع الذكوري. وليس غرض إيريغاراي في مشروعها التغلب على عجز المرأة التي لا يرمز إليها كامرأة. إن الهدف هو إدخال المرأة إلى النظام الرمزي بشروطها الخاصة. تحتاج النساء إلى أن يكون باستطاعتهن تمثيل أنفسهن لأنفسهن (ولكن بطريقة تختلف تماما عن الرجال) حتى يكون بالإمكان تكوين أنفسهن ككائنات اجتماعية بحق تستطيع أن تشكّل علاقات إيجابية فيما بينها.
تحقيقا لهذه الغاية، قدّمت في كتابها نظرة تأملية للمرأة الأخرى (Speculum. De l’autre femme) نقدا لنظريات فرويد ولاكان حول تشكيل هوية الذات الأنثوية. والتي تعتمد على المعايير الذكورية للتطور والتكوين. على الرغم من أن النص يفسد التمثيلات الأبوية البطريركية النموذجية للنساء؛ “إن نقد إريغاراي لمؤسسات التحليل النفسي واللغة والثقافة هو نقد جذري؛ لأنها ترى حتى ما يبدو ظاهريا إيماءات للمساواة بين الرجل والمرأة، إنما هو تسوية (مذهلة ومشبوهة) منذ البداية، لأنها ستفترض مسبقا، وبصورة حتمية، أن النساء هنّ في جانب العجز من سجل الموازنة وبأنه ينقصهن شيء ما (سواء بالمعنى الاجتماعي أو الجنسي) وهو ما يمتلكه الرجال وتستحق النساء، بكل إنصاف، أن تحصل عليه (المكانة الاجتماعية، والحياة العامة، والحكم الذاتي والاستقلال، والهوية المنفصلة)”.
لذلك نجد أن النساء قد تمّ إسكاتهنّ ببعض التنازلات السياسية، جزئية أو محلية، ولم تنشأ قيم جديدة عن تلك التي طالبن بها أو نافحن عنها، وتآكلت كثير من المكاسب التي فازت بها حركة حقوق المرأة، وذلك بسبب الفشل في تغيير الأسس الجوهرية للمجتمع.
وفي ظلّ اشتغال يخضع للسلطة الذكورية، بقيت حقوق النساء مجرد احتمالات تائهة بين هذه الأساسيات الذكورية، فالتقاليد الغربية ثقافيا ودينيا رأت في الرجل ذاتا مفردة لا لبس فيها، لذلك تم حشر المرأة - تاريخيا- في أعمال ثانوية: مثل الفنون والطبخ والحياكة ومثيلاتها.
قد بلغت هذه المواضيع ذروتها لاحقا في أعمال إريغاراي بالـمطالبة بتحرير الذات الأنثوية من السيطرة الذكورية من خلال: إتيقا الاختلاف الجنسي (Éthique de la différence sexuelle) سنة 1983، كما حقَّقت في التحيزات الذكورية في البلاغة الخطابية. وفي عملها التكلم ليس دائما موضوعيا (Parler n’est jamais neutre ) سنة 1985، تقول أن مسألة التنوع في السياق الاجتماعي قد تؤثر في الأشكال اللسانية والاستعمالات الخطابية للذوات (رجالا ونساء). وتُكرّر في كتابها الأجناس والقرابة (Sexes et parentés) سنة 1987 نموذجا للذات الأنثوية لذلك الذي اقترحته في نظرة تأملية للمرأة الأخرى، كمسألة نقل وليس رغبة، لاسيما آثاره على العلاقات بين النساء، والنتائج التي تؤول لها في تعصبها مع غيرها من النساء أو دخولها في الصّمت الـمدقع.
و بدءاً بكتبها التالية زمن الاختلاف: من أجل ثورة هادئة (Le Temps de la différence: pour une revolution pacifique ) سنة 1989 و أنا، أنت، نحن: نحو ثقافة للاختلاف (Je, tu, nous: pour une culture de la différence ) سنة 1990 عملت بشكل متزايد على تحليل بين الأنظمة التمثيلية ومصالح الهرمية والطبقية للنظام الاجتماعي الذي بناها وأقامها. وتشمل هذه الأعمال: زفرات النساء (Le souffle des femmes ) سنة 1996، و بين الشرق والغرب: من الفردانية إلى المجتمعاتية (Entre Orient et Occident: De la singularité à la communauté ) (1999).
لقد أثّرت لوس إيريغاراي في تيار النسوية في القرن العشرين، وركزت على الحاجة إلى ثورة شاملة للفكر والأخلاقيات في عملها المعنون بالاختلاف الجنسي. حيث تعتبر هذا واحدًا من أبرز وأهمّ القضايا الفلسفية في عصرنا . و يُعدّ الاختلاف الجنسي قضية كامنة ومتجذرة في العديد من المشاكل التي تواجه المجتمع المعاصر. ومع ذلك تدّعي، أنّ الوضع الراهن يقاوم التقدم على هذه الجبهة نظريا أو تطبيقيا على حد سواء.
شجَّعت إيريغاراي كلا من النساء والرجال لإعادة تكوين أفكارهم حول علاقتهم مع المجتمع ودور الأجناس مع ما ورد في السلوكات الثقافية والطبيعية. وقد كتبت إريغاري عن أهمية تعريف الهوية الجنسية والوزن الفلسفي الذي يرتبط بها. حيث تراها واحدة من أهم المناقشات في أيامنا. في حين يعرف التفريق أو الاختلاف الجنسي عادة من طرف التعريف التشريحي للأجناس. وآراؤها في ذلك تأتي جنبا إلى جنب مع آراء جاك لاكان؛ حيث تؤمن بأن الاختلاف الجنسي هو نتاج للغة وللسانيات، وأنّ تشكيل هوية الطفل يأتي من تأويل وتفسير وجود جسم وهمي متخيل، ويتم تعيين دور الجنسين من خلال اللغة واللسانيات، لا من خلال علم التشريح.
و مع أن التحليل النفسي قد قال الكثير في الحديث عن دخول الإنسان إلى عالم اللغة، وانفصال الطفل عن أمه، لكن قلما جرى الحديث عن حقيقة أن هذا الطفل قد تمّ فهمه على أنه الابن، فالابن عليه أن يفصل نفسه عن أمه من خلال تدخّل اللغة أو اسم الأب، فالابن هو أب محتمل – أب من حيث الإمكانية – ليس هذا فحسب، ولكنه أيضا “ذات”: إنه رجل. أما الابنة، فهي على العكس من ذلك، مجرد “أم” محتملة، أم بالإمكانية. ونسويتها يجب أن تُجمَع من تجربة الأمومة.
وكما تنتقد إريغاراي لاكان، تنتقد تأويلات سيغموند فرويد أيضا، ونظريته حول تكوين الذات. حيث قامت “بإعادة تفحّص فكرة الأنوثة – بما في ذلك العلاقة بين الأم وابنتها- عند فرويد والتحليل النفسي، سعى إلى تطوير – طريقة أنثوية محددة في الكتابة- وهي كتابة من شأنها أن تقوّض زعامة خيال ذكوري (male imaginary) يحكم على المرأة بالصمت لكونها امرأة” .
كما قدَّمت إريغاراي تفسيرات حول الرغبة - مختلفة عن سابقاتها التقليدية التي تعدها لحظة توتر فاصلة-، لذلك ينبغي تغيير تلك الديناميكية، وإصلاح النظام الحالي للرغبة، معلنة أن المساواة الحقيقية لا يمكن الحصول عليها: “إذا لم تكن هناك رغبة مزدوجة، حيث سيقوم القطبان الإيجابي والسلبي بتقسيم نفسيهما إلى جنسين اثنين، بدلا من تأسيس حلقة مزدوجة يذهب فيها كل واحد نحو الآخر، ويعود إلى نفسه”(9).
لعبت إريغاراي دورا مهما في حركة تحرير النساء (MLF)(10) في باريس منذ سبعينيات القرن الماضي. لكنها رفضت أن تنضوي تحت مجموعة واحدة محددة، في نقطة واحدة، وكانت مدافعا قويا عن مختلف حقوق المرأة. وتحدثت في مؤتمرات وندوات في أصقاع أوروبا عن النضال النسوي لتأكيد الذات الأنثوية، وأغلبها قد تم نشره. في سنة 1982، أصبحت إريغاراي رئيس قسم الفلسفة في جامعة إيراسـموس في روتردام. خلال ذلك الزّمن، ألّفت كتابها أخلاقيات الاختلاف الجنسي، ما جعلها تعرف كواحدة من أبرز الفلاسفة القاريين الأكثر تأثيرا في الدراسات النسوية الـمعاصرة.
لهذا تدعو إيريغاراي النساء إلى أن تجدن أنفسهن في تاريخ الجنس اللطيف وليس في الجينالوجيات والأعمال التي شكّلها الرجل، لا ينبغي للنساء السماح لأنفسهم بتعريفهن كفضاء، كظرف للرجل، لأنه يحددها كشيء: أي تكون جزءا لا يتجزأ من الرجل وإبداعاته. فيصبح الرجل يعرف المرأة كنقطة انطلاق منه. بهذه الطريقة وهذا الأسلوب يحافظ ويكرس الرجل لجدلية العبد السيد. أي أن الفضاء النسوي يعرف ويحدد من قبل الرجل. وكنتيجة لهذا، فعلى النساء أن تبحثن عن طرق أكثر جدية لإثبات هويتهن وكرامتهن المتساوية مع الرجل، وليس الإقدام - أمام التحيز الذكوري - على سلوكات غير مقبولة من قبيل العناد والعري والتي لا مكان لها عند الرجال (11).
إريغاراي، ومنذ كانت طالبة متعاطفة مع الفلسفة والتحليل النفسي، اتّجهت بكثير من دراساتها إلى تطوير نظريتها القائلة أن الهوية الأنثوية لم يتم ذكرها، بل نسيانها وتهميشها، ونادت بدل ذلك بهوية مستقلة عن أفكار المركزية الذكورية. وهي بذلك تشجع النساء لإعلان وتحديد هذه الهوية الجديدة التي يرونها صحيحة ومناسبة. ومع أن إريغاري تحترم الكثير من أفكار التحليل النفسي ونظرياته، إلاّ أنها تؤمن أكثر بأن المرأة يجب أن يكون لها دور آخر، وليس فقط دورها الوحيد كأم.
الهوامش:1- جون ليشته، “خمسون مفكرا أساسيا معاصرا: من البنيوية إلى ما بعد الحداثة”، ترجمة: فاتن البستاني، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، لبنان، ط1، 2008، ص: 331.
2 - م. نفسه، ص: 333.
3 - Éditions de Minuit, 1974
4 - جون ليشته، المرجع نفسه، ص: 330.
5 - Luce Irigaray, Sexual Difference in Continental Philosophy: An Anthology, edited by William McNeil & Karen S Feldman (Malden, MA and Oxford, UK: Blackwell, 1998), p: 422.
6 - ibid, p: 421.
7 - جون ليشته، “خمسون مفكرا أساسيا معاصرا: من البنيوية إلى ما بعد الحداثة”، ص ص: 332 و333.
8 - المرجع نفسه، ص: 329.
9 - Luce Irigaray, Sexual Difference in Continental Philosophy: An Anthology, p: 423.
10- le Mouvement de libération des femmes
11 -