** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
الرئيسيةالرئيسية  الأحداثالأحداث  المنشوراتالمنشورات  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

 

 في ذكرى عبد الوهّاب البياتي.. الشاعر الذي راقب الموت طويلاً

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
فدوى
فريق العمـــــل *****
فدوى


التوقيع : في ذكرى عبد الوهّاب البياتي..  الشاعر الذي راقب الموت طويلاً  I_icon_gender_male

عدد الرسائل : 1539

الموقع : رئيسة ومنسقة القسم الانكليزي
تاريخ التسجيل : 07/12/2010
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 7

في ذكرى عبد الوهّاب البياتي..  الشاعر الذي راقب الموت طويلاً  Empty
23092014
مُساهمةفي ذكرى عبد الوهّاب البياتي.. الشاعر الذي راقب الموت طويلاً

في ذكرى عبد الوهّاب البياتي..
الشاعر الذي راقب الموت طويلاً 
 
في ذكرى عبد الوهّاب البياتي..  الشاعر الذي راقب الموت طويلاً  Aaaaalaaaaabayatee
 
د. علي حداد 
 
 
 
 
* في البدء:
في كل عام ، وحين يحل الثالث من شهر آب ، ومنذ خمسة عشر عاماً تستعيد ذاكرة الثقافة العربية ، والعراقية على نحو خاص ـ وكما ينبغي منها ، ويقتضيه واجب العرفان والوفاء النبيل للإبداع وأهله ـ ذكرى رحيل الشاعر العراقي الكبير (عبد الوهاب البياتي 1926ـ 1999م ) الذي رسخ اسمه ، لا بوصفه واحداً من أضلاع مربع الريادة والتبني لتجربة (الشعر الحر) حسب ، بل ـ وتماهياً مع ذلك ـ لأنه من الأسماء الشعرية المهمة التي اشتغلت على تشخيص آفاق جديدة للشعرية العربية في عصرها الحديث ـ ذاكرة وتاريخاً ومساحة من التلقي الجمالي ـ زحزحت من خلالها الوعي والذائقة نحو فضاء الحداثة والتجاوز ، ومد أفق التطلع باتجاه هوية شعرية عالمية الانتماء أياً كانت مآلات ما تحقق لها.
 
 
وكما هي المقادير المدونة في الغيب لخيرة المبدعين العراقيين ـ في خيرة ما تهيأ للثقافة العراقية أن تصنعه وتجاهر بالصداح به من منجز إبداعي خصيب ـ أولئك الذين تماهوا في الرحيل عن وطنهم حاملين أعمارهم وخيباتهم وصداح إبداعهم الناحب ، حتى ترجلهم أخيراً عن صهوات أعمارهم في مساءات من شتات المدن البعيدة ، فقد قدر للبياتي أن يغادر العراق ـ في ممارسة احتجاجية دالة على رفض ما أغرق به وطنه وشعبه من ابتلاءات متدافعة بيد نظام كان يراكم حماقاته بإصرار مأساوي ـ وأن يزور بلداناً عدة ويقيم في أخرى ، حتى تلك النقلة المكانية الأخيرة الى حيث مدينة (دمشق) التي تخيرها مستقراً ، يتنفس فيها الذي تبقى له من(وشلة) عمر كانت ما تزال في كأس كينونته الأرضية ، ويريح ـ لاحقاً ـ كل وجوده جسداً وصوتاً وذكريات ـ إلى ملاذ أمن في قبر تستوعبه مساحة صغيرة من أرض تلك المدينة . 
مات البياتي ودفن حيث تخير ، ليشارك عدداً ـ ينكمش القلب أسى حين تستعاد أسماؤهم ـ من المثقفين والمبدعين العراقيين أولئك الذين اندلقت سنوات أعمارهم في المنافي ، حتى غيبهم الموت على غير وسادة وطنهم ، لتحتويهم قبور في دمشق لإيكاد يزورها إلا من تتهيأ له فرصة الذهاب إلى هناك ، وتلح في نفسه صحوة من مشاعر الامتنان والاستعادة لذلك الوجود الفذ الذي جسده أولئك المبدعين .
 
ومع البياتي فقد زاد على الأمر أن يدفن في مقبرة أقصى ما تكون عن المبدعين الآخرين كـ ـ الجواهري ومصطفى جمال الدين والعلامة الموسوعي (هادي العلوي) وسواهم من المثقفين الذين أطمأنوا الى حيث الوجود القبوري المتراص للعراقيين في (مقبرة الغرباء) خلف مقام السيدة زينب . لقد تناهى مسعى روح البياتي اللاهث للاغتسال بطمأنينة أخيرة حتى وصل أقصى غرب دمشق ، حيث (جبل قاسيون ) ، ليدفن ، ولكن ليس عند قبر (محيي الدين بن عربي) كما أراد وأشاع قبل وفاته ، وصرها في ذاكرته بعض من أصدقائه والمتحدثين عنه بعد وفاته ، أولئك الذين تحدثوا عن قبر البياتي المدفون في مقبرة ابن عربي من دون أن يتيقنوا الأمر ، لأنهم لم يزوروا البياتي في مستقره الأخير .الذي لم يكن فيه بجوار (ابن عربي) ، وذلك ما سنتداوله في حديث الصفحات اللاحقة .
 
(1)
 
لا أتذكر في أي من مهرجانات المربد ـ عقد الثمانينات ـ كانت قد تهيأت لي فرصة لقاء عابر مع الشاعر العراقي الرائد (عبد الوهاب البياتي) أيام وجوده في بغداد ـ فأهديته نسخة من كتابي (أثر التراث في الشعر العراقي الحديث) الصادر عن دار الشؤون الثقافية في العام 1985م ، ولم يتح لي لقاؤه ثانية حتى العام 1997م حين جئت عمان ـ قادماً من صنعاء ـ في الإجازة الصيفية ، حيث ذهبت مع أحد الأصدقاء الى(الفينيق) الذي كان البياتي قد اتخذه مجلساً يلتقي فيه بأصدقائه من المثقفين العراقيين والعرب الذين يزورون الأردن . 
 
أطلت الجلوس يومها معه ، وفاجأني بتذكره واقعة إهدائي الكتاب له ، بعد تلك المدة الطويلة من السنوات !
 
طلبت الإذن منه لأجراء لقاء مطول معه ، فوافق بعد شيء من الصمت الذي لم يكن يحمل جانب الممانعة أكثر من كونه تأنياً هو واحدة من السجايا السلوكية التي حملتها شخصية البياتي وعرفت بها .
 
في عصر اليوم التالي تقمصت دور الصحافي الجاد ، فحملت ألة تسجيل وكاميرا ، وجلست مع البياتي منفردين ، لننجز حواراً أمتد لأكثر من ساعتين، أفرغته لاحقاً على الورق ، ونشرت أجزاء منه في أكثر من صحيفة عربية ، وما زلت أحتفظ بالتسجيل الصوتي لذلك اللقاء كاملاً .
 
جلب انتباهي في ذلك اللقاء ـ واللقاءات التي تلته ـ تكرار البياتي لرغبته أن يغادر عمان الى دمشق ، ليقضي فيها بقية عمره . وكان الأمر يثير كثيراً من الاستغراب فقد توفرت له في الأردن حياة هادئة ومطمئنة ، وصار مجلسه في (الفينيق) من علامات عمان الثقافية المشهودة .كما أن أوضاعه المادية كانت قد تحسنت كثيراً ـ ولاسيما بعد حصوله على (جائزة العويس) الأدبية .
 
غير أن ما لمسته من بعض الإشارات العابرة عنده أنه لم يتلق من البث الشعوري للمكان الذي تمثله مدينة عمان ـ كما هي الحال مع كثير من المثقفين والأدباء العراقيين الذين جعلوا منها مستقراَ إلى حين ـ ما عهده في المدن التي أحب ، فيلقي فيها أرحلة عمره الأخيرة . ربما لأنه لم يجد في هذه المدينة ما تتطمأن إليه ذاته من أصالة المكان ونكهة التراث وعبقه، والكشوفات الروحية المنبعثة من تاريخية المدينة، والوقائع والأسماء والتواريخ التي تدثرت بسمتها ومسماها، فعمان ـ وتلك قناعة تملكتني بعد زيارة أو زيارتين لها ـ مدينة مصنوعة الوجود، حالها حال أية مدينة حديثة التشكل العمراني الذي يهيمن على إدلاله المكاني الإسفلت والكونكريت المسلح وبهرجة الإعلانات . أقول لعل البياتي واجه ذلك الشعور، بحساسيته المعهودة عنه في تلقي المكان والانشداد إليه، واستلهام مسماه ووقائعه وتأويل ذلك في اشتغالات نصية لم نجد أي شيء منها عنده في مرحلة إقامته بعمان، فهو لم يكتب عنها شعراً، ولم يشر ـ في أي من اللقاءات التي أجريت معه هناك ـ إلى تلق ذهني أو شعوري أياً كانت مقاديرهما ـ استوحاه منها مدة إقامته فيها . ونحن نؤشر هنا المكان بأفقه المادي ، وليس بما فيه من وجود إنساني احتفى ـ وعلى مختلف أصعدته الرسمية والثقافية ـ بالبياتي وأحاطه بالرعاية والتبجيل الذي بدا البياتي كثير الإشادة والامتنان له . 
 
لقد كانت تلك الرؤى وسواه ـ كما يعن لنا الآن ـ هي الدافع وراء رغبة البياتي لمغادرة عمان التي تحققت في أواخر العام 1998م ، حيث غادرها إلى دمشق التي ما أن أستقر به المقام فيها لأشهر حتى كتب لها قصيدته (مدينة الورد) المنشورة في ديوانه (نصوص شرقية ـ 1999م) ملحقاً بعنوانها عبارة (قصيدة حب إلى دمشق) ، وخاتماً أبياتها بقوله :
 
دمشق صارت وطناً للذي
 
أحبها في القرب والبعد
 
حبي لها قصيدة في دمي
 
كتبتها وجداً على وجد 
 
لكن المقام في دمشق لم يكن طويلاً فقد دعته مدن العالم السفلي إليها ، ليتوفى البياتي بعد أكثر من عام بقليل عن عمر بلغ الثالثة والسبعين . 
 
(2)
 
كان البياتي إذن كثير التصريح برغبته التي بدت أقرب إلى النبوءة أن يقيم في (دمشق) أواخر سني عمره . وكان يردفها برغبة أخرى : أن يدفن حين موته الى جوار المتصوف (محي الدين بن عربي) المشهور قبره ومقبرته هناك .
 
وإذ حققت له أقداره الجزء الأول من رغبته فأقام في دمشق ومات فيها ، فقد كان لها رأي آخر في الجزء الباقي منها ، فلم يتهيأ له أن يلقي بجسده أخيراً بجوار محيي الدين بن عربي المكان الذي آثره بأمنيته تلك ، مردداً إياها ـ قولاً وكتابة ـ لمرات عدة.
 
يقع ضريح (محيي الدين بن عربي) ومقبرته عند أدنى سفح من جبل (قاسيون) المطل على دمشق من جهتها الغربية، وفي حي يحمل اسم هذا المتصوف الكبير . وقد أتيح لي وعائلتي ـ وبعد سنة من رحيل البياتي ـ أن نذهب إليه كي نزور قبر البياتي ونترحم عليه ، وكانت المفاجأة أن يرد علي أحد القائمين على المقبرة ـ بعد أن قلب صفحات سجل كبير أمامه ـ وبلهجته الشامية العالية النبرات (ما عنا هلإسم !) . ألحفت عليه بطلب التدقيق في سجله أكثر ، فكان يكرر عبارته وهو يقلب الصفحات ، لينهي الأمر بالجزم المؤكد .غادرناه شاكرين ، لندلف نحو قبر ابن عربي نزوره وإحساس من الخيبة والحزن يراكم أعباءه على أصواتنا بعد أن لم نجد قبر البياتي هناك. وعند الباب الخارجي للضريح أوقفني أحد الشباب ليتأكد أني كنت أسأل عن قبر الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي ، وحين أجبته مؤكداً الأمر ، أخبرني بأنه مدفون في مقبرة غير هذه ، اسمها (مقبرة زين العابدين) ، وهي تقع على مبعدة من هذا المكان ، يستوجب الوصول إليها الصعود الى سفح أعلى من المكان الذي نحن فيه ، وهو ما قمنا به فعلاً.
 
 تقع مقبرة (الإمام زين العابدين) عند السفح الغربي لـ (جبل قاسيون)، مطلة على دمشق (من علٍ) يكفي لأن تشارك الطيور التي تحلق خفيضة فوق القبور ضوء الشمس الملقى على جسد الجبل الإطلالة الصباحية الأولى على المدينة. وفي آخر تلك المقبرة ، وعلى مقربة من سياجها الغربي ، حيث تظلل المكان شجرة وارفة ، يستقر البياتي في قبره ،وبما يهيئ له ـ إن أراد ـ فرصة أن يلقي من هناك قصائده ، ليس على القبور التي تدرج تحت قبره ، رافعة أعناقها نحوه بل على المدينة التي يسمح له مرتقى قبره أن يسرح بصره حتى أبعد حي فيها. 
 
 
 
بدا البياتي ـ في الانزواء المباعد لقبره ـ بمنأى عن القبور الأخرى ، وكأنه مايزال متمسكاً بطبعه الدنيوي في ترك مسافة يراها كافية بينه وبين البشر الآخرين ، واحتدامهم الضاج الذي لم يكن يطيقه . أو لعله ـ وهو في ذلك المكان قريباً من من طرف السياح ـ بانتظار هطول المساء كي يرتقي ذلك السياج ، ليغادر المقبرة نحو دمشق، يسلك خطاه متأنياً في أحيائها القديمة، ويمر على ماكان قد تعرفه من منتدياتها ومكتباتها ومقاهيها ، قبل أن يكمل وجهته الى حيث قبر (محيي الدين بن عربي) ليستريح عنده ، ويحدثه عن بعض شؤون تجمعهما ، ويقرأ كل منهما للآخر بعض ماعن له . وقد يتبادلان مابين أيديهما من الكتب ، فيتلو البياتي بعض ما أستوقفه من (ترجمان الأشواق) ، ويسترجع ابن عربي ما شغله من شعر البياتي . وربما طلب ابن عربي من البياتي ان يسمعه قصيدته عنه تلك التي جعل البياتي عنوانها (عين الشمس ، أو تحولات محيي الدين بن عربي في ترجمان الأشواق) ، تلك التي يقول مقطعها الأول : 
 
أحمل قاسيون
 
غزالة تعدو وراء القمر الأخضر في الديجور
 
ووردةً أرشق فيها فرس المحبوب
 
وحملاً يثغو وأبجدية
 
أنظمة قصيدة فترتمي دمشق في ذراعه قلادة من نور
 
أحمل قاسيون
 
تفاحة أقضمها
 
وصورة أضمها
 
تحت قميص الصوف
 
أكلم العصفور
 
وبردى المسحور
 
فكل اسم شارد ووارد أذكره ، عنها أكني واسمها أعني
 
وكل دار في الضحى أندبه، فدارها أعني
 
توحد الواحد في الكل
 
والظل في الظل
 
وولد العالم من بعدي ومن قبلي
 
وإذ يطيلان حميمية اللقاء بينهما ، فربما استبدت بابن عربي لحظة مستعادة من العتاب معه : كيف لم يستقر الى جواره ، فيرد البياتي بصوته الخفيض وابتسامته الوقور أن ذلك أدعى للمودة والتزاور المشوق بينهما . ثم ـ وقبل قبل آذان الفجر ـ يغادر البياتي آيباً إلى حيث قبره ، لتعانق روحه جسده ، وينهمكان بحوار وجودي صامت .
 
(3)
 
بين فكرة الموت وكشوفاتها في الرؤية والتمثل الشعري لدى البياتي وطبيعة الصلة الروحية بالشيخ المتصوف (محيي الدين بن عربي) التي لهج بها ـ حد الرغبة في المجاورة المكانية ما بعد الموت ـ مرامي تأمل ممكنة لمقاربة تجربة البياتي الحياتية والروحية ـ والابداعية قبل ذلك وبعده ـ لأن الفكرتين تلتقيان في تأثيث أفق من المراجعة التي تؤطر جانباً من تفصيلات الوجود الانساني لهذا الشاعر ، ومنذ مراحل مبكرة ، تتماهى معها ، وتتكيف بها مسارات من الرؤية والمنجز وما هيمن عليها من تطلعات تواترت الإشارات إليها حتى أمست يقين تلق يكاشف بقيمه أية مراجعة تستهدف تجربة البياتي .
 
لقد استوقف البياتي تأملاته الذهنية والشعرية طويلاً لمجادلة فكرة الموت وتشكيل مرجعية حضورها في آفاق الوجود الانساني عبر تداخلها معه حيث التداول المتفقه عنده لثنائية (الموت والحياة) أو (الحياة والموت) سيان ، وحيث يتحقق من تنافذهما الجدلي تعاضدات فكرية متسعة ، تراجع تجليات كل منهما في الأخرى : (الموت في الحياة) ، (الحياة مابعد الموت) ، (الموت رغبة في تشكيل حياة خاصة) ، (الميتات المكرورة والولادات المتناظرة معها) . وهكذا راح البياتي يستدرج رؤاه في معالجات ذهنية وجمالية لا يكاد أي من دواوينه ـ ولانبالغ إن قلنا قصائده ـ ليتخلى عن بثها الرؤيوي المستعاد .
 
يستدرج البياتي جملة من الثنائيات الضدية التي تتلون بدلالات الحياة ونقيضها ليضعها في تأكيد يفلسف صحوه الوجودي وتماهيه في الآن نفسه مع غيابه: " أنا منفي داخل نفسي وخارجها ، مبصر وأعمى ، ميت وحي في حوار أبدي صامت مع موتي ، في رحلة الليل والنهار"(تجربتي الشعرية ،ص70)
 
وموته هذا ليس استدعاء لمغادرة عجلة عن الوجود الأرضي بل هو تشبث به ، ولكن عبر معان بعيدة المدرك : " فموت الأشياء في العالم أو موت العالم في الأشياء بعث للشاعر وتفجير لطاقات الخلق والغضب والثورة في أعماقه. (المصدر نفسه ،ص84) . 
 
وإذا كان للموت ديدنه الذي لايغادره فلابد من اجتراح بشري لوسائل مغالبته، وقد وجد البياتي الذي يتدرأ به ـ هو وصنوه من المبدعين ، والشعراء خاصة ـ في الإبداع ذاته ، فالشاعر " كمشروع ومحاولة وطفل وثوري ـ نقيض للموت ، وبديل له ، وانتصار عليه " (المصدر نفسه) . 
 
ولايستقيم أمر مقاربة البياتي لفكرة الموت والحياة وتلون الوجود بمهيمناتهما من دون أن يمد بصره بعيداً لتأمل مخاضات الوجود الإنساني الذي شغل بهما منذ حضاراته البعيدة ، ليصل إلى يقينه أننا : " لو محضنا الحقيقة من الرمز، والواقع من الأسطورة ، والممكن من المستحيل لوجدنا أن الثورة وعملية الخلق الفني والإخصاب الأسطوري والبيولوجي عودة إلى الظهور عن طريق الانتقال عبر لحظات التجدد إلى ذات أكثر اكتمالاً "(المصدر نفسه ، ص65) . 
 
يناقل البياتي رؤاه عن تلك الثنائية الشاغلة الي حيث فضائه الشعري فيداولها موضوعة يتماهى نصه فيها منذ عنونته. فإذا ما وضعنا جانباً ديوانيه السابع (كلمات لاتموت ـ 1960) والثاني عشر (الموت في الحياة ـ 1968) اللذين استدرج بين طيات عنونتيهما مفردة (الموت) ، فإن لديه في دواوينه الأخرى أكثر من ثلاثين نصاً اشتغلت كلها على تجليات الثيمة ذاتها، وتلك النصوص تصلح أن تكون ديواناً لصداح رؤاه ومواقفه ومنذ مراحل مبكرة في تجربته الشعرية . ولعل في تفحص ذلك المدد الموضوعاتي والجمالي ما يهيئ للرصد القرائي أن ينجز قراءة وافية لرؤى بياتية شاسعة التمثل . ولأن ذلك الأمر حيزه أكبر من قراءتنا الموجزة هذه فسنكتفي بالإشارة إلى عتبة (العنونة) بوصفها منطقة تمثل سوف تلقي ببعض ظلالها على المتن النصي وتقولاته. 
 
يورد البياتي في ديوانه الأول (ملائكة وشياطين ـ 1950م ) العنوانات الآتية : في مقابر الربيع ، أكاد أموت ، ليختم الديوان بقصيدة عنوانها(نهاية) آخرها المقطع الآتي :
 
أنا والزمان سنلتقي
 
.... في ذلك الدير البعيد
 
حيث العيون الظامئات الى الجديد
 
تبكي ، وتسأل : كيف مات تشوقي"
 
فأعود أرسم في الجدار خيالها
 
وأعود أمحوه ،
 
وأرسم من جديد
 
طل المحال ، وأستعيد
 
وهناك حيث الهاربون من القيود
 
سأظل أحفر في رماد تحرقي
 
حتى أموت
 
وبعدها فقد توالى حضور مفردة (الموت) وكشوفها الدلالية في عنوانات نصوص دواوينه اللاحقة : ربيعنا لن يموت ،الشعر والموت ، الموت في الخريف ، الموت في الظهيرة ، الشعر والموت، حتى الموت، كلمات لاتموت، الموت والزمان، الموت في المنفى ، موت المتنبي، الموت ،الموت في غرناطة، الموت في الحب ، عن الموت والثورة ،عن الميلاد والموت ، موت الاسكندر المقدوني ، ميلاد عائشة وموتها ، أحمل موتي وأرحل ،عن موت طائر البحر، عن وضاح اليمن والحب والموت، ميلاد عائشة وموتها، تحولات نيتو كريس في كتاب الموتى، أحمل موتي وأرحل، عن موت طائر البحر، قصائد عن الفراق والموت ، الموت في البسفور، الموت والقنديل، أولد .. وأحترق بحبي .
 
لقد بدا أن البياتي ـ ومن خلال الإلحاف على تداول ثنائية (الحياة والموت) ـ أكثر انشغالاً بالثاني عن الأولى التي كثيراً ما داخلها فيه وتناساها لغاية جدله المتواتر معه ـ في الشعر وخارجه ـ جاعلاً ذلك من بين مستلزمات مواجهته له ، والانتصار المؤقت عليه ، وتذكيره له أنه يعرفه ويعاينه ويرصد حركته وفعله في الوجود والبشر والكون والطبيعة . 
 
وربما أضاف ـ ضمن الدريئة ذاتها التي واجه بها الموت طويلاً ـ مسعاه في الرحيل بين مدن العالم ، مكيفاً أمره كمعادل موضوعي للحياة التي يمدها بعمر مضاف كلما نفض جناحي وقته إلى مكان جديد . وكأنه كان على بينة من أن الاستكانة الى مقام مكاني نهائي هي الموت ، كالذي واعده منذ زمن طويل ، كي يلتقيا أخيراً في دمشق، فيسلمه جسده ، وصوته المشحون بدفئه مايزال يردد :
 
مت من الحياة ، لكنني 
 
مازلت طفلاً جائعاً يبكي
 
كدودة تقرض تفاحة
 
كان هو الموت ، وكالسيرك
 
مهرج يسرقنا خلسة
 
ونحن في دوامة الضحك
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

في ذكرى عبد الوهّاب البياتي.. الشاعر الذي راقب الموت طويلاً :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

في ذكرى عبد الوهّاب البياتي.. الشاعر الذي راقب الموت طويلاً

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: اخبار ادب وثقافة-
انتقل الى: