أوهام الإسلام السياسي" لعبد الوهّاب المؤدّب
[size=40]05فبراير 2016بقلم نجم الدّين النفّاتيقسم: الدين وقضايا المجتمع الراهنةحجم الخط
-18
+للنشر:[/size]
الكتاب: ألّف عبد الوهاب المؤدب كتابه (أوهام الإسلام السياسي) باللسان الفرنسي، سنة (2001م)، وقد وسمه بعنوان (La Maladie de l’Islam)، ثمّ قام المؤلف بترجمته بصحبة محمّد بنيس، ونشراه في دار النهار للنشر، بيروت، في تشرين الثاني 2002م.
يقع في (229) صفحة، وقد قسّمه إلى: مقدمة للنسخة العربية، وتقع في ثلاث صفحات، ثمّ أربعة أقسام متوازنة؛ قسّمها، بدورها، إلى عناصر، ثمّ ذُيّل كلّ قسم بهوامش.
- القسم الأوّل: إسلام مفجوع بفقدان غلبته (42 ص).
- القسم الثاني: أصل الأصولية وفصلها (57 ص).
- القسم الثالث: الأصولية في مواجهة الغرب (56 ص).
- القسم الرابع: الغرب يُقصي الإسلام (50 ص).
قراءة في المحتوى:
1/ المقدّمة:
صدّر عبد الوهاب المؤدّب كتابه (أوهام الإسلام السياسي) بمقدمّة وسمها بـ (الداء والدواء) خصّصها لوصف الواقع، الّذي يعيشه المجتمع العربي، ورأى أنه الواقع الأسوأ في تاريخه، على الرغم من توافر كثير من العوامل، التي بالإمكان حسن استغلالها للخروج من هذا الوضع المأساوي؛ فالهوّة بين الماضي والحاضر مذهلة، ونحن سبب الوضع الكارثي. ويحاول بعضهم إرجاعه إلى الآخر الأجنبي. يقول: «على رغم الأدواء، التي سبّبها لنا مثل هؤلاء الأعداء، فمن الضروريّ دحض هذه الدعوى القاطعة، وهو عمل سابق على سواه، حتّى نتعلّم كيف نرى إلى الداء في ذاته، ونلتفت، أخيراً، إلى قدرنا المسؤول»(ص 8). كما أقرّ أن أصل الداء يكمن في المسلمين «أولئك الّذين اعتنقوا الإسلام عملوا على إبدال حتّى بنية الحضارة، فليس الإسلام، بالتالي، هو أصل المصيبة؛ بل المصيبة هي ما فعله المسلمون أنفسهم بالإسلام»(ص 8). وأرجع جمود مدننا العربيّة إلى غياب الحريّة، مستنداً، في ذلك، إلى قولة لسبينوزا مأخوذة من كتابه (رسالة في اللاهوت والسياسة)، أوردها في الصفحة التاسعة وهي: «أنّ عافية المدن ونجاتها تكمنان في ممارسة حريّة التفكير، وفي التعبير عنها، ونشرها، وتوزيعها»(ص 9). وصرّح المؤلّف، في هذه المقدّمة، بكونه سيعوّل على المنهج النقدي؛ لأنّه المنهج الوحيد الكفيل بالتعبير عن ضرورة التجاوز لما هو سائد من أوهام.
2/ إسلام مفجوع بفقدان غلبته:
حاول المؤلّف، خلال هذه الخطوة من بحثه، النبش في أصول ظاهرة الأصوليّة، وقد أقرّ، منذ البداية، بأنّ مثل هذه العمليّة تتطلّب ضرورة «الغوص في عمق الماضي، للتحقّق من الكيفية التي تهيّأت بها القراءة الأصوليّة لكلّ من القرآن والسنّة. فلابدّ من استعادة الطريقة المتبعة في علوم التفسير والفقه؛ كي نتبيّن أين يفسح هذا النصّ للتعصّب، أو لتشجيع أولئك الّذين لا يحتفظون من روحيّة الإسلام إلا بالدعوة إلى الحرب»(ص 13). وقد بنى موقفه هذا على السائد من تصرّفات السواد الأعظم من المسلمين، ولاسيّما المتشددين، يقول: «فالمتشدّدون عمّموا التكفير، والتحريم، والجهاد، في حين أنّ السنّة النبويّة طالما كانت حذرة في مقاربتها هذه المسائل»(ص 14).
في سياق بحثه عن أصول الأصوليّة، أعاد الباحث حالة البؤس، التي يعيشها الأصوليون، إلى أسباب داخليّة حصرها في الجهل بلغة النصّ المقدّس. يقول: «وقد أدّى تدني المعرفة بالعربية، وعلوم القرآن، إلى تنامي عدد الجاهلين بطرق استنباط الأحكام والفتاوى، وتزايد عدد من سمحوا لأنفسهم بالمساس بالنصّ. وكثرة عدد الجهّال تُغذي الشراسة وتقوّيها»(ص 16). وقد حذّر، في هذا السياق، من سلبيات القراءة الحرفيّة للنصّ القرآني؛ «لأنّها قد تدور في فلك المشروع الأصوليّ»(ص 16). أمّا المدعّمات والمحفّزات الخارجيّة، فحصرها في طبيعة موقف الغرب من الإسلام المتمثّل في عدم الاعتراف به، وجعله في حالة المُلغى والمطرود، وتركه في مكان مُستبعَد، وخير مثال على ذلك سياسة الغرب في وجهها الأمريكي الساعي إلى الهيمنة على العالم. ويعبّر عن هذه الفكرة بأسلوب إنكاريّ «من هم هؤلاء الإرهابيون إن هم لم يكونوا أبناء أمركة العالم؟ أبناء لم يُشفوا بعد من الجرح الّذي يستشعره أتباع الإسلام، لكونه تحوّل من حضارة غالبة إلى حضارة مغلوبة. أبناء يرفضون حالة الخضوع، التي يظنون أنفسهم فيها، ويحلمون باستعادة الكيان الّذي ينتمون إليه»(ص 19). فالمسلم، الّذي كان في موقع السيادة، تحوّل شيئاً فشيئاً إلى رجلِ «لا»، الفاقد للمبادرة، والمكتفي بردّة الفعل، يراكم الحقد، وينتظر الوقت المناسب للانتقام: «ويمكن تفسير العمليات الأصوليّة، التي ينفذها الأصوليون، بتنامي هذا الحقد. وهو شعور لم يعرفه المسلم تاريخيّاً، ولم يدخل في تكوينه حين كان صانعاً للتاريخ»(ص 22).
إذاً فالمسألة نفسيّة، بالأساس، يقول المؤلّف: «فمنذ أن أدرك المسلم العقم، الّذي يعيشه، بات مفجوعاً بفقدان غلبته»(ص 25). ويُنهي هذا التحليل النفسيّ بإقرار حقيقة تختلف، في جوهرها، والسائد لدى الإسلاميين من أنّ الحملات الاستعماريّة، التي خضعت لها بلدانهم، كانت سبباً من أسباب تخلّفهم. يقول: «فالهيمنة الإمبرياليّة، التي خضعت لها البلدان الإسلاميّة، ليست سبباً لانحطاط المسلمين، بقدر ما هي نتيجة له»(ص 25).
ونوّه الكاتب إلى الفكر المعتزلي، باعتباره بادرة حضاريّة كانت فيها الدعوة إلى إعمال العقل، غير أنّه سرعان ما وضعه في خانة النقد، فهذا الفكر سرعان ما طُمس نوره، بسبب جبروت أصحابه، الذين أرادوا فرضه على الناس بعامل القوّة، وذكّر، في هذا السياق، بمحنة ابن حنبل. يقول: «فإنّ ما حدّ من الحركة العقلانيّة للمعتزلة هو أنّها لم تُتوّج بما يمكن تسميته (عصر الأنوار). لقد أراد أنصارها فرض وجهة نظرهم بأساليب العنف الأكثر أذى، بالأساليب المتوافرة للطاغي الشرقيّ»(ص 28). وتعرّض، أيضاً، في تحليله، إلى فترة المأمون، وما عرفته من ازدهار للعلوم، مثل علم الترجمة، وتلاقح الأفكار داخل الأمّة، لكن هذه الفسحة من العقلانيّة كان يكبّلها غياب الحريّة، الّذي صحب الثقافة السياسيّة في العالم الإسلاميّ، وتواصل إلى يومنا هذا. وهو سبب مباشر لما نعيشه، اليوم، من مواجهة للبؤس السياسي، الناتج عن انتشار الأصولية الّذي لا مرّد له.
ويستغرب عبد الوهاب المؤدّب من عدم الاقتداء بالأنموذج الصالح في التراث الإسلاميّ، الّذي يمثله ابن رشد، فقد كان لهذا الرجل الفضل في أن اجتهد في سبيل إقامة ثورة عقليّة، وقد عبّر عن ذلك بقوله: «قد لا يكون ثمّة ضير من العودة إلى ابن رشد لتوجيه المسلم توجيهاً تربويّاً وسط بلبلة تضلله، وتجعله قابلاً للإنصات إلى ترّهات الأصوليين المشؤومة. والحقيقة أنّه ليس من المحال، اليوم، العودة إلى مفكّر من القرن الثاني عشر؛ لنجد أنّه درس وحلّ بلغتنا العربيّة المسائل التي واجهها في زمنه، وهي لا تزال تثقل كاهل معاصرينا. ومن تلك المسائل العلاقة بالآخر، واللامساواة بين المرأة والرجل»(ص 44). فابن رشد لا يرى حرجاً في الأخذ من الآخر المغاير دينيّاً، والانفتاح عليه في مجال العلوم التقنيّة، ودعا إلى استخدام نهج الأقدمين؛ «فابن رشد لا يعتبر، فقط، أنّه يجدر بالأمم الاستفادة من الذاكرة الّتي صانتها الشعوب السابقة؛ بل يؤسّس، أيضاً، لقواعد تنظم عملية الإفادة هذه»(ص 42). وقد أشاد المؤّدب بموقف ابن رشد تجاه المرأة، واعتبره تقدّميّاً، على الرغم من الحقبة الزمانيّة، واللغة العربيّة، التي كتب بها. يقول: «هذا دفاع عن المرأة كتبه باللغة العربيّة رجل مسلم من القرن الثاني عشر، وهو لا يزال صالحاً للدفاع عن المرأة، إنقاذاً لها من حالة الإجحاف والانزواء، التي لا تزال تعانيها في عدد من الأقطار الإسلاميّة، مع مطلع قرننا الحادي والعشرين»(ص 44).
يختم المؤدّب القسم الأوّل بحتميّة فكريّة، وهي أن «لا مفرّ من الإقرار بازدهار الأصوليّة الإسلاميّة، وبالبعد العالمي الّذي اتخذته»(ص 45). ويستنكر على الأصوليين عدم فهمهم مقولة العودة إلى السلف الصالح، فالسلف الصالح كان ثوريّاً وتقدّميّاً. يقول: «وهذا الشكل من أشكال العودة إلى الأصول مختلف عمّا نشهده في الأصوليّة السائدة اليوم. فالشيخ محمد عبده كان، في الوقت نفسه، معادياً للهيمنة الأوربيّة، ومناهضاً للاستبداد المحليّ. وقد سعى إلى أفضل توافق ممكن بين إسهامات الحضارة الغربيّة، ومبادئ الإسلام»(ص 46). ثمّة فرق بين سلف أعمل عقله، واجتهد، وغابت عنه العُقَد، وأصوليين محدثين أعادوا رداء الجهل والخمول. وعبّر عن ذلك بقوله: «لقد انتقلنا من تفكيك الأساطير إلى إعادة تركيبها، ومن خلع حجاب المرأة إلى إعادة استعماله»(ص 49). وكلّ هذا وليد الأنموذج الأحاديّ النظرة للإسلام، الذي تعمل القوّة السياسيّة على فرضه دون وعي بتداعياته، فالإسلام، الّذي تقيمه السلطة السياسيّة على أنموذج أحاديّ النظرة، من شأنه أن يقدّم إسلاماً هشّاً ونحيلاً، «يضرّ، قبل كلّ شيء، بالإسلام نفسه كحضارة وكثقافة» (ص 51). تعيش الأصوليّة حالة من الاغتراب النفسيّ، فهي مشتّتة بين الرجوع إلى الأصل الجامد، وبين المشاركة الفاعلة في استخدام التقنيات الجديدة (انظر:ص 51).
3/ أصل الأصوليّة:
يرى المؤدّب أنّ تاريخ الأصوليّة مرتبط بالأزمات الفكريّة، التي عرفتها الحضارة الإسلاميّة، فالكتاب الذي ألّفه ابن تيميّة (السياسة الشرعيّة في إصلاح الراعي والرعيّة)، وما ينمّ عنه من راديكالية، جاء ملبيّاً طموحات الأصوليين(ص 61)، وهو كتاب لا يزال يتبنّاه جماعة الأصوليين، على الرغم من أنّ العديد من المعطيات الفكريّة والنقديّة قد بيّنت محدوديته، ولاسيّما في مسألة إقامة الحدود. ويرى أنّ ما يغذّي الأصوليّة فيه مساواة صاحبه بين الجهاد والصلاة(ص 65)، بناءً على قاعدة أنّ حصانة الدين تكون بعامل الجهاد. ثمّ يذهب، بعد شرح رؤية ابن تيميّة، إلى نقدها، باعتبار محدوديتها وظرفيتها. يقول: «لا يفقد كلام ابن تيمية قيمته إلا على المدى الطويل، فكلّ إنسان عاقل يتأمّل التطوّر التاريخيّ يستنتج أنّ حكم ابن تيميّة كان ظرفيّاً»(ص 67). ويمضي في نقد ابن تيميّة، معتبراً إيّاه لا «يمثّل في عصره سوى رأي من بين آراء أخرى، ويبدو أنه، في تطرّفه، كان يثير حماسة الجماهير، مثلما يثير قلق زملائه من علماء الشرع والفقهاء؛ وأنّه كان من مسبّبي الانقسامات»(ص 68). وأنّه «صوت الرقيب المهرّج الداعي إلى الغوغاء والعنف، الذي سيعثر على صداه بعد قرون في أولئك الّذين أضرموا نار الأصوليّة، وفي مقدّمتهم مؤسّس العقيدة الوهابيّة» (ص 69).
ثمّ توقفّ، بعد نقده لابن تيميّة، عند أحد كبار الأصوليين الذين تأثّروا به، وهو صاحب الفكر الوهابي، الذي تعمل السلطات السعوديّة على نشره في العالم، فرأى فيه، عند قراءة كتابه (التوحيد)، أنّه «مجرّد ناسخ لا يملك أيّ ذرة تجديد، وهو ما لا يستحقّ معه أن يُعتبر مفكّراً، [فكتابه هذا] محشوّ بالاستشهادات، وهو يبيّن أنّ كاتبه ناقل أكثر منه مبدع. وفي الكثير من الكرّاسات العديدة، التي ألّفها، يتأكّد لنا نفَسه القصير [...]، فالصفحات التي سوّدها تؤكّد تبعيّته الحنبليّة المتزمّتة»(ص 72).
ويعقد المؤدّب مقارنة بينه وبين المعلمَيْن الأوّليْن، اللذين يدّعي أنّه من مدرستهما، فيرى أنّ هناك بوناً شاسعاً يفصل بين شقّيْ هذه المقارنة(ص 73). واستند، أيضاً، إلى نقد البغدادي، الّذي «خلص إلى اعتبار ابن عبد الوهّاب من مدّعي العلم، جاهلاً بالعلوم الشرعيّة، ومن شأن فتاويه أن تقوّض نظام الحق الشرعيّ، الّذي استغرق بناؤه قروناً طويلة»(ص 75). والنتيجة أنّ آل سعود، وبفضل «القوّة المكتسبة من البترودولار، عمدوا إلى نشر عقيدتهم البدائيّة، المنقضّة على الحضارة التي شيّدتها الأمم الإسلاميّة (...) آذوا الإسلام بإلغائهم طاقاته، وكبحها على مختلف أبعاده الإبداعيّة»(ص 78).
تعرّض المؤدّب، في سياق حديثه عن الأزمة في الدول الإسلاميّة، إلى نقد التجربتين التحديثيتين في كلّ من تونس وتركيا، (أي تجربة بورقيبة سنة 1957م، وتجربة كمال أتاتورك 1922م)، فعلّق على التجربة البورقيبيّة، بكونها لم تخرج من سياقها الديني الرسميّ؛ بل حافظت على خطاب منحاز وأحاديّ. يقول: «اشترط المشرّع أن يكون الإسلام دين الدولة. فلم يكن للمواطن حريّة اختيار إيمانه (أو عدم إيمانه)، الّذي يجب أن يكون مطابقاً لدين الأمير»(ص 93- 94). وانفتح نقده، ليشتمل على كلّ التجارب ذات المنحى القوميّ «فأيّاً تكن الدولة، التي نشأت في عصر الدولة القومية، وأيّاً تكن المبادئ التي استند إليها المشرّع، فإنّ هذه الدول، ومن غير وعي، لم تقم إلا بتحديث تقاليد الإمارة، وبإعطائها شكلاً جديداً»( ص 94- 95).
وختم هذا القسم من كتابه بتقديم نقد لمفهوم الخلافة، مروراً بمراحلها التاريخيّة، وما عاشته من أزمات. يقول: «كما ذكرت آنفاً، فإنّ الخلافة ستظلّ صفة ملازمة للسلطان العثماني حتّى سقوط الدولة عند قيام الجمهوريّة التركيّة في عام (1924م). وبناءً على ذلك، نلاحظ كيف أنّ هذا المفهوم طغت على استعماله كثير من المعاني في حقيقته التاريخيّة، ومن يريد استعماله كأداة للهويّة مجبر على إلغاء تجسّده في التاريخ، فيما هو يختار العودة إلى الخرافة، وهو يستعمل هاجس الأصالة والخصوصيّة، داعياً إلى طهرانيّة خياليّة. وهذا المفهوم الخرافي للخلافة هو الّذي يتباكى عليه أسامة بن لادن وأنصاره، الذين يجارون الآخرين في اعتبار مصدر المصيبة الإسلامية هو إلغاء الخلافة»(ص 104). في حين أنّ الخلافة، في فترتها العثمانيّة، لم تكن سوى مرجعيّة خاصّة تهدف إلى تعزيز صورة الإمبراطور، التي هي في أصلها شاملة ومقدّسة.
4/ الأصوليّة في مواجهة الغرب:
استهلّ الكاتب القسم الثالث، من هذا الكتاب، بعرض بعض الأمنيات، التي تتمثّل في أن تلد الحضارة الإسلامية رجلاً من نوع الشاعر دانتي، وشخصيّة شبيهة لفريدريك الثاني... ويكرّر أسفه؛ لأنّ الرجلين اللذين يعتبران قد قاما بثورة في بلادهما حافظا على النزعة الاستبدادية: «فكمال أتاتورك وبورقيبة، الزعيمان السياسيان المسلمان الأكثر (تغرّباً)، لم يتمكّنَا من التخلّص من النزعة الاستبدادية التي ورثاها»(ص 117). واعتبر أنّ هاتين التجربتين قد «غذّتا، بدورهما، الرواسب السلبيّة المحفورة في الذاكرة السياسيّة، كما في الثقافة»(ص 118). ورأى أنّ هذا التطبيق المشوّه للأنموذج الغربي من شأنه أن يقدّم صورة مغلوطة عن الغرب، وبذلك تقويّة نزعة العداء تجاهه.
ثمّ تطرّق إلى نقد خطاب الإخوان المعادي للغرب، وذلك من خلال نقده كتابات مؤسّسها البنا، يقول: «كان بالإمكان اعتبار هذا النصّ، الذي كُتب في عام (1946م)، تعبيراً عن موقف إزاء السقوط المعنوي الذي شهدته أوربا بعد الكارثة النازية، غير أنّ هذا التفسير يبدو تافهاً (...) وفي هذا النصّ المذكور لا يمكن أن نرى، في أسوأ الأحوال، سوى نموذج من الهذيان المعادي للغرب، وفي أفضل الأحوال، مجرّد أمنية ذات صياغة بلاغيّة، ومدلول أخروي، لا تأخذ موازين القوى في الاعتبار»(ص 121). ويقول، أيضاً، في السياق نفسه: «ففي نصّ البنا يمكن تبيّن رحم المعاداة للغرب، الّذي يجري التعبير عنه عبر خطاب بدائيّ، يفرض اقتناعاته كأنّها من المسلّمات»(ص 121).
ويُنهي هذا العنصر من تحليله بالتركيز على ضعف هذا الخطاب (خطاب البنا): «لقد بيّنا، من قبل، كم كان طرح ابن عبد الوهاب، ابن القرن الثامن عشر، هزيلاً، بالمقارنة مع معلميه في القرون الوسطى. وها نحن، مع هذا النصّ الّذي كُتب سنة (1946م)، إزاء طرح أكثر هزالة، حيث البؤس الفكريّ يتجذّر، ولُجّتُه تبدو بلا قرار»(ص 121).
كما تناول، بالتحليل والنقد الثنائي، الباكستاني أبو علي المودودي (1903/ 1979م)، وتلميذه المصري السيّد قطب (1929/ 1966)، وهما من المغذّين للفكر الأصوليّ. يقول عنهما: «هما صوتان كان لهما صدى بالغ في الأوساط الأصوليّة الحالية، التي اعتمدت الإرهاب وسيلة من وسائلها»(ص 123). ثمّ عقد مقارنة بين الأستاذ وتلميذه، فرأى أنّ المودوديّ «ظلّ مسالماً، ولم يدع إلى القتال، حتّى وإن كانت كتاباته توحي به، فيما الآخر (السيّد قطب) من القائلين بإحياء الجهاد، واللجوء إلى العنف من أجل تحقيق الغايات»(ص 123). وعلّق على قراءة الأستاذ السياسيّة، التي عَدَّها قائمة على عملية تحريف، فهو «الوحيد الذي فسّر كلمة (حُكم) بمعنى (السلطان) [...]، وبهذا التحريف التفسيري، نقل المودودي، بنسبته السلطان إلى الله، مجمل الحقل السياسي إلى الحيّز الإلهي، ليخوض الحرب على جميع الأنظمة السياسية، انطلاقاً من هذا التسويغ القرآني»(ص 124). وهو ما أفرز، في نظره، «كليانية لا أساس واقعيّاً لها، تُثير أتباعه، وتحرّضهم على نشر الموت والدمار في كلّ القارات». (ص 126).
يرى المؤدّب أنّ الأصوليّة تزدهر على أنقاض التجارب الفاشلة؛ ففشل وانهيار مشروع القوميّة العربيّة، في صيغتها الناصرية، أدى إلى انفتاح أبواب الجزيرة العربيّة أمام أشباه المتعلمين من خريجيّ الأزهر، الّذين هاجروا إليها بكثافة، سعياً وراء الكسب المادي. وهو ما أدّى إلى إقامة صلة عملية بين الوهابيّة والأصوليّة. ومن هذا الربط المزدوج، نشأ حكم طالبان في البلاد، التي نشر فيها المودودي فكره، ونشأ تنظيم القاعدة بزعامة الوهابيّ أسامة بن لادن، ومساعده الأصوليّ المصري أيمن الظواهري(ص 127). ويرى، أيضاً، أنّ تنامي الأصوليّة في مصر يعود إلى فترة حكم السادات، الذي «فضّل أن يعيد الشرعية إلى الأصوليين، الّذين كان عبد الناصر قد قضى عليهم سياسيّاً، إن لم يكن جسديّاً»(ص 129). إضافةً إلى عامل هجرة أشباه الجامعيين إلى الجزيرة العربيّة(ص 129). فكانت النتيجة أن خضعت مصر لعمليّة أسلمة متجددة ناشطة(ص 129).
كما وجه النقد إلى سياسة الإسلاميين، الذين يعملون على بث حقدهم وتخلّفهم عبر بعض البرامج المتلفزة، وقد عبّر عن ذلك بقوله: «وتتم إعادة تربية المجتمع عبر المواعظ، والتوجيه المتلفز، ومن نجومه المميّزين الشيخ الشعراوي، الّذي كان له جمهور شعبيّ عريض، وتأثير حتّى في نفوس المحدثين والمتنوّرين، الّذين اعتقدوا أنهم يكتشفون خفايا الإسلام عبر هذا التعليم الظلامي، الذي نشره هذا الشيخ، في عملية مسخ إضافيّة ينتصر فيها أشباه المتعلمين المتجرئين حتّى في إظهار حقدهم. فالالتباس يبلغ ذروته، وانعدام المقاييس يشلّ العقل، والجمهور يؤخذ بالخزعبلات، ويتأثر بأعمال القياس الملائمة للعقلية التوفيقيّة التي يبّثها الشيخ»(ص 133). ويرى المؤدّب أن مسألة تغذية الحقد على الآخر الغربيّ تغذّيها بعض أقلام أصحاب الدعوات، وكذلك الصحفيين «العلمانيين» من كتّاب الافتتاحيات، فهم «يضيئون الكوارث، التي تحلّ بمجتمعاتهم، استناداً إلى خلفية شعور غريزيّ من الكراهية للأجانب»(ص 134).
ويقرّ بوجود أزمة وعي بطبيعة تصنيف العدو، فالشيخ الطنطاوي، صاحب كتاب (اليهود في القرآن والسنّة)، تحوّل عمله هذا «من بحث في موضوع ديني تقليدي إلى عمل إيديولوجيّ، يحمل في ثناياه الانحرافات المتولّدة عن تأثير الظرف الراهن، فهو ينظر إلى يهود المدينة (من معاصري النبي محمد)، وإلى يهود إسرائيل، المتحاربين مع الفلسطينيين والعرب، النظرة نفسها، أي أنّ العداء لليهودية يختلط بالعداء للصهيونيّة، ثمّ يتطوّر عداءً للساميّة، دون التنبّه إلى أنّ هذا الأخير من مستوردات الغرب»(ص 137). ويخلص إلى لوم للذات المسلمة، التي تجعل من الآخر كبش محرقة تمسح فيه مصائبها وفشلها. يقول: «هكذا، إذاً، نتمسك بالأجنبي، نظريّاً وبشكل غامض، لنجعل منه كبش محرقة نكفّر به عن المصائب التي تحلّ بنا»(ص 137). ثم تطرّق إلى وضعية المجتمع العربي، الذي بات ميّالاً إلى الاحتشام الأخلاقي، وضيّع العديد من الملذّات بسوء فهم وتقدير لها، إنّه مجتمع سعى، بخلاف ما يعرف عنه في الماضي الثقافي، إلى إماتة الجسد وقمعه(ص 143). يقول: «كانت حضارة الإسلام واحدةً من الثقافات الكبرى التي عُنيت بالفنون الموصوفة بالصغرى، حيث انتشرت الأدوات المصنوعة من الخشب، والنحاس، والحجر، والفخار، والنسيج، والقطن، والصوف، والكتان، والحرير، وكلّها أشياء رائعة مخصّصة لتمجيد الجسد في تحرّكاته. فأيّة لجّة ابتلعتها ووارتها عن الأنظار؟»(ص 144). ويضيف، في السياق نفسه: «نشهد، اليوم، انقلاباً غريباً في ما يتعلّق بسياسة واقتصاد الجسد، فالإسلام، الآن، يقترح مدينة محتشمة، سكانها مرضى بالعدميّة والحقد، في حين أنّ الجسد الغربيّ قد تحرّر من ضغوطه الموروثة»(ص 145). وكلّ ذلك يعود، حسب رأيه، إلى الفكر الوهّابي، الذي يعمل على نسيان الجسد، وما يحيط به من أدوات وفضاء، وما يجسّد الجمال. كلّ هذه الإلغاءات تعمّم فقدان الذاكرة، وهي إحدى مميّزات الداء الّذي يصيب المسلم(ص 147).
ومن النقاط المهمّة، التي تعرّض إليها، مسألة الربط بين الوهابيّة والأصوليّة المناضلة برعاية الولايات المتحدة الأمريكيّة في الحرب ضدّ الاتحاد السوفييتي، وهي المرحلة التي عملت فيها الولايات المتّحدة على دعم الشق الإسلاميّ، دون أن تتنبّه «إلى أنّ القوّة المشؤومة الكامنة في الشعور الديني الجامد الداعي إلى الجهاد، الّتي تجدّد إحياءه في القتال، قد تجعل من الولايات المتحدة الهدف الموالي»(ص 148). ثمّ أشار إلى ما عاناه المجتمع الجزائري من انعكاسات لهذه العمليّة، فقد قادت المجموعات العائدة من أفغانستان (المتأفغنة) العديد من التوترات، التي هدّدت أمن المجتمع الجزائري، وكذلك ثقافته.
5/ الغرب يقصي الإسلام:
استهّل المؤدّب هذا القسم من بحثه بالدعوة إلى ضرورة توخي الحذر عند تفسير مقولتي (التضحية) و(السريّة)، أثناء الحديث عن أحداث (11 أيلول/ سبتمبر)، وذلك بــ«عدم السعي إلى تفسيرهما بالعودة، حصراً، إلى تاريخ الإسلام وحضارته. فبقدر ما إنّ هؤلاء الإرهابيين هم نتاج تطور داخلي خاص بالإسلام، هم أبناء عصرهم، وأبناء عالم تحوّل بفعل الأمركة» (ص 201). ثمّ سعى، بعد ذلك، إلى نقد موقف الغرب من الإسلام، وهو موقف يراه قائماً على الإقصاء، وعدم الاعتراف. وحجّته، في ذلك، تلك الحملة التي شنّها الأوربيون ضدّ كلّ من قال إنّ بعض مفكريهم تأثّروا بالثقافة الإسلاميّة، ونهلوا منها، يقول: «فبمجرّد أن نُشر كتاب آسين بالاسيوس حتّى واجهته مقاومة أوروبيّة عنيدة؛ لأنّ خضوع أحد النصوص المؤسّسة للأدب الأوروبي لتأثير إسلامي يبدو أمراً عدائيّاً لا يمكن تقبّله»(ص 203). ويضيف، أيضاً: «قد بدا من الصعب على الأوروبي، وحتّى المتنوّر، أن يقرّ أنّ الشخص الّذي شكّل بداية التطور اللغوي الإبداعي، فاتحاً الطريق أمام الحداثة الأدبية، قد خضع لتأثير إسلاميّ»(ص 203). ودعا إلى ضرورة معالجة حالة الإقصاء هذه، وذلك بالاعتراف بالمجهود الحضاري والثقافيّ للإسلام، وبفضله على تطّور الحضارة البشريّة في حقبة ما من تاريخها(ص 207). ويرى أنّ ذلك لن يكون إلا بتخليص الغربيّ نفسه من مرض الكره الواعي واللاواعي للإسلام، وهي حالة ورثها عن تلك الصورة التحقيريّة المشوّهة والعدوانية المؤذية، التي رُسمت عن الإسلام في القرون الوسطى(ص 209).
كما دعا إلى ضرورة العلاج الداخلي لداء الإسلام، ويقترح أن يكون العلاج الأوّل متعلّقاً بضرورة الأخذ بمعرفة عميقة بآليات وأسس الجدل، والنقاش، والحوار، التي تغذت منها الثقافة الإسلامية (ص 219). فمن الضروريّ ربط بناء المعنى بذهنية نقدية حديثة، ما يسمح بإرساء حريّة كلمة متعدّدة متعارضة في جوّ من التمدن(ص 219). ودعا، أيضاً، إلى ضرورة أن تعيد الدول العربيّة الإسلاميّة النظر في سياساتها التربويّة، كي تخلّص البرامج المدرسيّة من المناخ الأصوليّ المحيط بها، ويستند، في ذلك، إلى التجربة الرائدة في الوطن العربي، التي قام بها الوزير التونسيّ محمد الشرفي، والمتمثلة في تنقية البرامج المدرسيّة من كلّ نزعة أصوليّة. ويذكر ما ورد على لسان هذا الوزير في هذا السياق: «من طبيعة التعليم في البلدان العربيّة الإسلاميّة أن يشجّع على تنامي الأصوليّة؛ ولذلك يتطلّب الأمر تنقيته من كلّ ما يتناقض مع حقوق الإنسان، ومع أسُس الدولة الحديثة. وبهذا الإصلاح الجذريّ في النُظم التعليميّة، سيكون بإمكان المدارس، على المدى المتوسط، المساهمة في علاج المجتمع من التطرّف الدينيّ»(ص 220).
ويختم كتابه بالإشارة إلى أنّ في النصّ القرآني ما يدعو إلى عدم التطرّف، وعدم إلزام الآخر المغاير دينيّاً باعتناق الديانة الإسلاميّة. فبين النصّ وفهمه مسافات من الجهل والقطيعة، لم تولّد سوى الخراب الفساد؛ فالأصوليّ في علاقة قطيعة مع الفهم العميق لمدلولات النصّ.
6/ حوصلة لأهمّ الأفكار الواردة في الكتاب:
حاول عبد الوهاب المؤدّب، خلال كتابه (أوهام الإسلام السياسي)، الوقوف عند الحالة الراهنة للمجتمعات الإسلاميّة، وما تعانيه من بؤس وتخلّف تحاول، جاهدةً، تفسيره بإرجاعه إلى الآخر المغاير دينيّاً، الذي ترى أنّه الفاعل الأساس في مشروع تخلّفها، فيردّ الكاتب على هذه المزاعم مرجعاً الداء إلى جوهر المجتمع الإسلاميّ نفسه، فهي مجتمعات خرجت عن روح النصّ، وبنت آليات خرابها باتّباع بعض الأصوليين المنبتّين عن الجوهر السليم للديانة الإسلاميّة، والّذين حاولوا تصدير عقدهم وأزماتهم النفسية إلى تلك الفئات ضعيفة الإدراك والجاهلة. فكانت النتيجة أن عمّ الخراب، وآل الوضع إلى ما هو عليه الآن. ولكنّه، مع ذلك، لا يقصي الدور الذي أدّاه الآخر الغربيّ، أيضاً، في تنمية روح العداء، التي تدور في فلكها حبائل الأصوليّة. وختم تحاليله التاريخيّة، والنفسيّة، والاجتماعيّة، بالدعوة إلى ضرورة فهم الجوانب المضيئة في النصّ المؤسس، وإلى إعمال العقل في فهم العلاقات السياقيّة للمفاهيم الدينيّة، والتحلي بروح المدنيّة في الجدل والحوار.