في ذكرى الخليل: قصة المقاومة
نشرت بواسطة:
عمرو حسن إبراهيم 2015/07/18
بحسب دكتور النور حمد فإن المشكلة ابتداءً هي مشكلة هوية تتمثل في غياب وعينا بذاتنا، وأن الحل يكمن في المشروع الذي يرى النور حمد أنه لم يكتمل بعد، وهو المشروع المتمثل ابتداءً في نقد الأرث الاستعماري الذي شكل ثلاثة أخماس تاريخ السودان في القرنَيْن الماضيَيْن. وأنه يمكننا القول لولا تعرض البلاد للاستعمار لأمكن للقطر السوداني أن يدخل على الأزمنة الحديثة من مدخل مختلف تماماً عن ذاك المدخل الاستعماري، لا سيما أن الحكم السناري قبل ذاك كان حكماً سودانياً صميماً استمر إلى ما يزيد عن الثلاثة قرون.
إننا لا بد أن نعيد النظر في الإرث الذي اكتسبناه بداية من العهد الخديوي، وصولاً للبريطاني المصري. ليتكرر في أكثر من مرة داخل كتابه “السودان، آفاق الوعي بالذات” مصطلح “احتلال العقول”، في محاولةٍ منه للإشارة إلى أن الاستعمار في أسوأ أشكاله يمثل آلة تصنع من المستعَمر نسخة “أقل شأناً” من المستعمِر وبصورة دائمة. بذا تصح مقولة أن الاستعمار لا زال قائماً -رغم انسحاب الجيوش الغازية والإدارات الأجنبية – عبر استخدام القوى الناعمة كالثقافة، ومن ثم تقسيم العالم إلى مراكز لصناعة هذه الثقافة، وأخرى لاستهلاكها، في محاولة من الأولى لاستتباع الأخيرة على الدوام.
أعتقد أن ما يقترحه أستاذنا النور حمد هو بالضبط ما انتظم في القيام به رمزنا العظيم خليل فرح خلال مواجهته للاستعمار، ذلك المشروع الذي مثل وبصورة شبه يومية وجهاً من أوجه حياة الخليل، إن لم يكن الخليل نفسه يمثل تجسيداً مادياً لذلك المشروع، محاولة الحيلولة ما بين الاستعمار “كأداة للهيمنة -الثقافية” والمجتمع، عبر تغذية المجتمع بالروح المقاومة من خلال إنعاش ثقافة المجتمع نفسها. فكما يخبرنا إدوارد سعيد أنه عندما تكون الهوية السياسية عرضة للتهديد، فإن “الثقافة” تمثل أداة للمقاومة في مواجهة محاولات الطمس والإزالة والإقصاء.
الشيء الذي يمكننا وبكل بساطة ادعاء حضوره في حالة الخليل المقاوِمة، أن خليل فرح وإن لم يكن بصاحب النظرية الاجتماعية؛ إلا أنه لا يمكننا إغفاله عند قراءة تاريخ الحركات الوطنية للتحرر من الاستعمار، لمساهمته في تحويل فكرة التحرر من الأوساط النخبوية ولدرجة كبيرة لوجدان جمعي آنذاك في مواجهة الاستعمار. إن المقاومة شكل من أشكال الذاكرة في مقابل النسيان، وعلى هذا تصبح الثقافة على قدر كبير من الأهمية؛ إنها “ثقافة المقاومة”، تحويل الخليل النضال إلى حدث جذاب، وربما أن هذا هو أكثر ما يميز الخليل استلهام فنه من تجربة الإنسان العادي صانع الحياة، ومن ثم رده إليه ليظهر فيما بعد كمكوِّنٍ ثقافي أصيل.
من هنا يمكننا الزعم ولدرجة كبيرة بأنه عند وقوفنا على حياة رمز كالخليل، يمكن القول بأنه عبر قراءاتنا لحالة الخليل المقاوِمة، المرة تلو الأخرى وبصورة عميقة، سنصنع النظرية الاجتماعية المنطلقة من وجهة النظر الثقافية. إن الخليل ليس صاحب نظرية اجتماعية، لكنه من الممكن أن يكون ملهماً لها. ونرجوا أن يحدث ذلك.
ولنفهم فكرة الثقافة كروح للمقاومة بالإمكان اقتراح مشاهدة فيلم مثل “علي إيقاع الآنتنوف” للمخرج السوداني حجوج كوكا. الفيلم الذي يبدأ مع إيقاع واحدة من التفجيرات المروعة من أحد طائرات الأنتنوف التابعة للنظام، يعقبها بعد بضع دقائق إيقاع الموسيقى والغناء والرقص، الذي يجمع القرويين في أعقاب المذبحة في حالة من الحزن للاحتفال بالحياة. الفيلم يخبرنا في كل مشهد من مشاهده، أن الفن وهو منتوج ثقافي بالأساس، هو ما سيشكل المصدر المتسيد والأقوى لتشكيل حالة الوحدة في مواجهة سياسات الهوية المنتجه للحرب/أو الحرب المنتجة لهذه السياسات الهوياتية. إن الثقافة هي ما تعبر عن تلك المجموعات وتجمعها، وإحياء تلك الثقافة سيمثل لهم القصة التالية: نعم إن الحرب لم تنتهِ بعد، كما أنهم لم يبادوا بالكامل، إذ أن أي صدى لأي صوت أقدام تضرب الأرض لترقص أو أي غناء شعبي تصدح به الحناجر أو أي إيقاع دوى صوته من آلة هي الأخرى شعبية سيحمل في أحشائه دليلاً على أن ثمة حياةً ما زالت قائمة ومتحركة. إن المعركة لم تحسم بعد لصالح طائرات الأنتنوف ما دام هذا الصدى يتردد، ولن يحسم إلا بموات ذلك الصدى، وإن كان البشر هناك ما زالوا أحياءً؛ إذ من نحن أصلاً وما تمثله ذواتنا قد تم اغتياله وتغييبه بالأساس!
إننا أمام حالة جلية تمثل فيها الثقافة روحاً للمقاومة. فالفيلم قصته ببساطة تحكي عن أبطاله وهم نازحون -من الولايتين التوأم “النيل الأزرق وجبال النوبة”- يحاولون الحياة من خلال الاحتفال بالموسيقى والغناء والرقص، على الرغم من سعيهم وبشكل يومي من أجل البقاء في مجتمع مزقته الحرب.
بالعودة إلى الخليل، لا بد لنا من أن نلاحظ أن “ثقافة المقاومة” التي أنتجها الخليل هذه، ليست نابعةً من نزعة قومية متطرفة أو أصولية متشددة، أو أنها تعبر عن رد فعل للفعل الاستعماري فقط، وربما نستبين هذا الأمر عند عرضنا لموقف الخليل وبعض قيادات الحركة الوطنية من الاستعمار كظاهرة بعيداً عن ارتباطها بالشمال بمعزل عن الجنوب، وبالسودان دوناً عن ما سواه، لتظهر لنا بدايات التشكل للوعي الاجتماعي المتجاوز للوعي القومي هذه. إنه نزوع للأنسنة “خارج المكان”، إنه وعي لشد ما نحتاجه في دول ما بعد الاستعمار، وبالتحديد في سودان ما بعد الانفصال.
غير أنه يمكننا التأكيد على أنه ليس ثمة أصولية متطرفة في ثقافة المقاومة تلك، وقت إبرازنا لحقيقة أن خليل فرح شكل البوابة الأكبر التي عبرها تم تحديث الفن الغنائي السوداني؛ إن كان من حيث تطوير أساليب النظم الشعري، بمزجه وفي كثير من الأحيان مفردات جديدة من العربي الفصيح مع ما هو دارج داخل شعره رغم أنه المنحدر من أصول نوبية، يتكلم لغتها كلغة أم. أو من خلال تحديث الموسيقى، بإدخال أشكال وأدوات جديدة، من داخل الثقافة وخارجها، أو عبر تلحينه للشعر العربي كشعر “عمرو بن أبي ربيعة” والتغني به، ليضيف بذلك ثروة جديدة للغناء السوداني.
سوى أن هذا التحديث، لا يعتبر اغتراباً للخليل عن ثقافته أو يعكس نوعاً من الاستلاب عنده، وسيظهر ذلك في القصة التالية التي يعرضها علينا بروفيسور علي المك فيقول: عندما قرر ود الرضي كتابة الشعر بلغة عربية فصحى ومجاراة بعض الشعراء المحدثين فكتب:
قف بنا ياصاحبي لننظرا
بذا المخضب ربرباً وجاذرا
أهلاً وسهلاً مرحباً يا حبذا
بالغانيات المترفات الفترا
فعاد ليستشير الخليل، رد عليه الخليل بصدقه المعهود وبكل تقدير للشاعر المطبوع ود الرضي: أن الشاعر الذي استطاع أن يقول:
الطابق البوخه
قام نداه يهتف
نام من الدوخه
ايدو عاقباه
بكل أصالة كلمته ونقاء نفسه وصدق مشاعره لا ينبغي أن يترك ذلك الميدان الذي أبدع وأجاد فيه إلى مثل هذا التكلف. إنه الانحياز المبرر للأصالة، بوصفها السفينة التي تعبر بنا لندرك حداثتنا داخلها.
وبالتأكيد، لن ننسى أنه من التقدميين الذين قادوا معركة تحرير المرأة، لتحتل مكانتها من حركة التاريخ، ابتداءً من دعوته دخولها لدور العلم، وانتهاءً بمناشدتها اقتحام الفضاء العام والاشتغال عليه. ليظهر ذلك أكثر من مرة في شعره وكتاباته. فبينما ألقى الشاعر محمد عمر البنا شعره في قضية تعليم المرأة وقتها، متطهراً من النساء الأميات، ليتخذ موقف الملاحظ والحاكم على المشهد؛ الموقف الذي يعتبر متقدماً إن قرأناه داخل سياقه التاريخي، ليقول:
“وأهجر سبيل الجاهلات فإنما
بالجهل تمتهن البلاد وتخرب”
كان للخليل موقف أقوى وقتذاك وأكثر تقدماً، موقف تجاوز به زمانه، بتدخله المباشر في هذه المعركة “معركة تحرير المرأة”، لينظم:
“يلاّ نمشى المدرسة
ساده غير أساور غير رسا”
لتظهر دعوته مرة أخرى للمرأة للمشاركة في صناعة التاريخ، ومساهمتها في نهضة الأمة في أبياته التالية:
“اختك يا زينة العوالم طلعت فوق من غير سلالم
انت كمان عندك معالم بكره نقوم وطريقنا سالم”
إنها ولا شك رؤية تقدمية للعالم؛ عالم النساء فيه شقائق الرجال ونديداته، الرؤية التي تظهر بعض تجلياتها في قوله “يا جميل نور الشقايق***أملا كاسك وأصبر دقايق” فهو يرى في المرأة شقيقةً له. فلا يتفوق عليه وقتذاك إلا عبيد عبد النور في قصيدته “يا أم ضفاير قودي الرسن***واهتفي فليحيا الوطن”، الأغنية التي تحولت لاحقاً لشعارات يهتف بها المتظاهرون، هي وأغنية الخليل الشهيرة “نحن ونحن الشرف الباذخ***دابي الكر شباب النيل”، الحدث الذي وثقه دكتور حسن الجزولي في كتابه الماتع نور الشقايق.
كما أنه لا بد أن نعود لنأكد أن هذه الثقافة “ثقافة المقاومة” ليست مجرد رد فعل للاستعمار، بقدر ما أنها ملامح مشروع نهضوي يجلي الضباب عن وعينا بذاتنا، وثقتنا في أنفسنا، ليطلق عندنا طاقات الفعل الحضارية. مشروع البداية فيه تكون بورود موارد الحداثة انطلاقاً من مكتسباتنا، إذ أن الطرق إلى الحداثة كثيرة ولم تطوِ التجربة الغربية صحفها أو تكسر أقلامها بعد؛ لنعيد اكتشاف العالم ونحن مجتمع حر، ونعيد اكتشاف ذواتنا في مجتمع متعدد لم يقم على أساس طبقي.
أعتقد أن طبيعة نشأة الخليل الذي كان ميلاده بنهاية الدولة المهدية وبدايات الاحتلال البريطاني المصري، الذي اتسم بالدموية الصارخة بعد معركة كرري، إضافة إلى تنقله مع والده داخل القطر بطبيعة عمله كتاجر أكسبت الخليل وعياً بالتركيب الثقافي للمكون السوداني رفع من حسه الاجتماعي تجاه الآخر الثقافي، إضافة إلى اكتسابه فهماً عميقاً للاستعمار كظاهرة اقتصادية اجتماعية تسببت في حالة التجهيل والإفقار وتغييب الوعي في جميع أنحاء السودان، رغم ادعاء المستعمِر بأنه جاء لنشر التعليم والمدنية والأنوار، الأمر الذي يشير إليه بشكل مفصل تاج السر عثمان مستحضراً قصيدة الخليل “يا صائد الأنام” لتوضيح هذه الجزئية، في بحث له بعنوان “في الذكرى الـ77 لرحيل خليل فرح”. لذا لن يكون غريباً إن وجدنا خليل فرح ابن الشمال النيلي برفقة القائد التاريخي علي عبد اللطيف الذي ينتمي إلى قبيلة الدينكا جنباً إلى جنب داخل جمعية اللواء الأبيض – التي جاءت في تأسيسها بعد جمعية الاتحاد السوداني – والتي يرى فيها الدكتور حسن نجيلة ثورية أكثر عن ما هو عليه الحال في جمعية الاتحاد. كانا الخليل وعبد اللطيف رفقاء في اللوء الأبيض، في زمان أثقلت كاهله العنصرية المنتنة، ولم تزُل بعد.
إن الحديث هنا عن رمز وطني كخليل عازة، عزة التي تمثل هي الأخرى رمزاً آخر غاية في التركيب والعمق، كما يؤكد دكتور محمد جلال هاشم في كتابه “جزيرة صاي قصة الحضارة” أن خطاب الخليل يتحرك في مستويين: أحدهما عام والآخر خاص. فإن ركزنا هاهنا على الجانب العام من الرمز “عزة” لعلمنا لأي درجة قد ارتفع الخليل بالرمزية داخل خطابه الشعري كما يقول الكاتب محفوظ بشرى. فعزة – كما يعلم الجميع – هي ترميز للوطن السودان، غير أن هذا الرمز لا يقف عند دلالاته في الإشارة إلى الوطن ومفهومه فقط، بل إن “عزة” كما تروي الرواية الأرجح: هي المناضلة عزة محمد علي زوجة البطل علي عبد اللطيف القائد الوطني وأولى النساء المنخرطات في العمل السياسي، والتي شاركت في مظاهرات ثورة 1924م ضد الاستعمار.
إننا ربما سنحتاج لقراءة طباقية “contrapuntal” كما يصفها الموسيقيون، لنصل إلى فهم شامل يستصحب كل جانب من جوانب الخليل مع الجانب المقابل له في ذات الوقت، كأصوات موسيقية تتحرك جميعها داخل مقطوعة واحدة، لنفهمه كمشروع تقوم جوانبه بعضها على البعض الآخر، دون إغفال أحدها، لنتمكن من قراءة “المقطوعة” بشكل كامل.
لتكون أفضل قراءة ربما لفهم الخليل هي التي تصفه بأنه المشروع الثقافي داخل الحراك الوطني، أو كما يقول بروفيسور علي المك “إن كان أعلام ثورة 1924م هم قادتها السياسيون والعسكريون، فإن خليل فرح هو الوجه الثقافي لتلك الثورة”. لذا ستكون قراءة الخليل واجبة لفهم جزء جد مهم من مسيرة تاريخ السودان الحديث.
ثم يرحل الخليل في مثل هذه الأيام، بعد معاناة مع المرض، فتكون آخر أعماله “ما هو عارف قدمه المفارق”، التي كانت تحمل رنة حزن عميقة وكأن الرجل كان يعلم بدنو أجله، ليكون العمل الأخير هو “عزة في هواك”، العمل الذي أكمله بمصر التي قصدها بغرض العلاج، ليلحنه ويؤديه بنفسه ويسجله هناك، وهو الذي أعياه المرض، ثم يرحل. فتبكيه الأمة، ويرثيه السياسيون والشعراء والأدباء، فيرثيه محمد أحمد المحجوب وقتها ليقول:
“حل في الرمس خليل واستتر
شاعرٌ فذٌ و فنانٌ أغر”
وينعيه المبارك إبراهيم قائلاً: “إن أخطر ما في غياب خليل فرح هو غياب رمز لمرحلة موسيقية وهي مرحلة تأسيس الثقافة الموسيقية السودانية”.
لكن ثمة سؤال أخير ما زال يشغلني ما بعد رحيل الخليل هو: هل نستطيع أصلاً ذكر خليل فرح دون أن تستدعي دواخلنا الوطن “عازة”؟
ربما أن هذا بالضبط ما سيقودني إلى الادعاء التالي: أنه قد تكون مهمة فهم رمز مركب كخليل فرح ومعرفة مكانه داخل التاريخ السوداني أسهل -الفهم الذي سيكسبنا بكل تأكيد وعياً مهما بتلك الحقبة- خصوصاً إذا ما علمنا الموقع الذي تحتله أنشودة مثل عازة في هواك من وجدان الشعب السوداني، الجيل تلو الجيل تلو الجيل.. تلو الجيل.
* كاتب من السود