عسْكرَةٌ الحداثة
واسيني الأعرج
August 8, 2014
■ هل خانت الحداثة الغربية رهاناتها العميقة ودخلت مآلات مضادة لما قامت من أجله؟ هل شاخت وأصبحت تنتج ما يضادها وهي في حالة مخاض وتحول سريعين؟ المؤكد أن الحداثة لم تعد في زماننا فعلا حضاريا وثقافيا يستهدف من حيث الجوهر راحة الشعوب ورقيها وتنورها. لقد بدأت بخيارات كانت قاسية ولكنها دفعت بالبشرية إلى الأمام. غيرت النظم، ووجه المدن، وأنماط الحياة، ومنحت الإنسان فرصا كبيرة لعيش أفضل وأرقى يليق بعقل الإنسان. الآلة التي اكتشفها الإنسان اختصرت الزمن ومنحته عمرا آخر أكثر اتساعا وغنى. الدساتير التي أنجزها حافظت على استقرار الإنسان وعلى النظام. الثورات الصناعية والثقافية الجذرية جعلت الصراع أرضيا وليس ضد أو مع قوى غيبية. أي أنها وصعت الإنسان أمام مسؤولياته بعد أن اغتال نيتشه الألوهية.
أدت عموما إلى نشوء الإنسان المتعدد الذي سنّ القوانين لحماية نفسه وقلّص من سلطان الدكتاتوريات الأوروبية والشرقية التي كانت تلوح في الأفق، وفرض النظام الانتخابي الذي وضع مصير الإنسان بين يديه. هذه القيم وغيرها أخرجت الإنسان من ظلمات العبودية. لكن للحداثة وجه آخر للأسف، بشع جدا. فقد افترضت هذه الحداثة نفسها في بعض أوجهها أن الأقوام تختلف فيما بينها في تشكلاتها العنصرية، بين متحضرة وأخرى بدائية ومتوحشة تحتاج إلى من يحضرها ويمدنها بالحديد والنار لتبدأ حقبة الاستعمارات القاسية.
وتم من وراء ذلك تدمير حضارات بكاملها باسم حداثة قمعية أبادت شعوبا كثيرة من على وجه الكرة الارضية. سرقت الحداثة حياة شعوب كانت هانئة بنظمها وخيراتها في أمريكا الجنوبية وأستراليا. فقد انتهى الهنود الحمر كوجود باسم الكنسية ونشر المسيحية وباسم التحضير القسري. وسرقت الأراضي العربية بعد تقسيمها وتفكيكها خوفا من كيان متسع وموحد بحجة تحريرها وتحضيرها بعد اتفاقية سايكس بيكو. وكل حروب القرن العشرين مرت عن طريق التحضير. زرع إسرائيل داخل هذا الجسد تم من منطلق حداثة تفترض استعادة حق تاريخي مسروق وحرمان شعب آخر من حقه في الحياة. هنا أيضا سمة التحضر الإسرائيلي مقابل شعوب عربية متخلفة تفرض نفسها. وفق المنطق نفسه،
غزة تدمر بأحدث وسائل الحداثة والفتك: الطيران الموجه بدقة، أطنان من القنابل التفجيرية والعنقودية وتسليط القوانين في صالح المالك للقوة وليس العكس ليصبح الفلسطيني ظالما والإسرائيلي مظلوما باحثا عن أمن من صورايخ بدائية تتهدده وتسكنه المخابئ. هناك عسكرة حقيقية للحداثة، تكسر كل القيم التي خلقتها الشعوب عبر القرون من خلال تضحيات بلا حدود. ومحاولة لفرض نموذج للحداثة، حداثة التخلف، التي أصبحت مقدسة مثل الأديان. هذا النوع من الحداثة يعاش عربيا من خلال الاستهلاك البشع بلا أدنى عقل أو فكر. مولات بها كل الكماليات. سيارات لكبريات الدور. أجهزة إلكترونية تتسيد على عرش الأسواق العربية. وعمران وناطحات سحاب ستتحول يوما إلى عرش من الخراب إذا لم يبادر العرب إلى قراءة مآلاتهم القادمة حيث تصبح قطرة الماء أثمن من بئر نفط، خارج الأنانيات الرخيصة.
حتى فكرة الأصالة والرجوع إلى الثوابت الافتراضية ليست إلا نتائج حية لحداثة معطوبة تفترض شعوبا خارج التاريخ، ممنوعة من التفكير بحجة الخصوصية التي تمخضت عنها في صورتها الأكثر بشاعة وسلبية، الحركات الدينية المتطرفة التي أجهزت على ما تبقى من العقل. وكأن
الغرب أصبح نادما حتى على القدر الضئيل الذي منحه للعرب من حداثة جاءت كغوايات استعمارية، وأصبح يميل نحو تفكيك بنى المجتمع العربي التي اختارت الحداثة على الرغم من نقائصها كالعراق وسوريا ومصر والجزائر حيث أدخل الكثير منها في ما يسمى بالفوضى الخلاقة. لدرجة أن العربي أصبح بعيش الحداثة بوصفها حالة خوف وهاجس ريبة وليس كأفق سعادة.
فلا دخل العرب الحداثة وعاشوها كما هي حتى ولو اضطرهم الأمر إلى قطع بعض العلاقات مع الأصول، كما حدث في بعض البلدان الإفريقية والآسيوية، ولا خرجوا منها واختاروا مسلكا اخر ، نابعا منهم وطوروه. هم في منزلة بين المنزلتين. بين الذي يريد ولا يريد. أخفقوا في الحفاظ على النظم التقليدية الحامية كالقبيلة والرابطة الدموية، كما فشلوا في تأسيس دولة بالمفهوم الحداثي للكلمة. وكأن الغرب الاستعماري النادم على الحداثة التي استفاد العرب منها قليلا في أنظمة حكمهم وتسييرهم الدولة على محدوديته، والغنى الذي يملكونه يحتاج إلى غباء أكبر لنهب هذه الخيرات بثمن أقل. ففرض وضعيات أعادت النظر في كل مكسب حقق استنادا إلى مختلف الحجج حول حقوق الإنسان. حتى الثورات العربية التي كانت تهدف إلى التغيير، تحولت في مجملها إلى حالة تقهقرية وتدمير ذاتي.
وباسم حداثة الديمقراطية وحقوق الإنسان التي انتهت إلى ايديولوجيات ميتة وأنظمة رعاية التخلف والإرهاب. ليس هذا كله إلا الوجه المظلم لإخفاق حداثة معسكرة أصلا تمر عبر النار والحديد بمختلف الأسباب. وفرضت على العالم العربي بدائل متخلفة اثنية لإغراقه في حروب أهلية قادمة تمزق وتجهز على كل شيء باسم الحداثة والتغيير وتنهي مفهوم الدولة الوطنية الجامعة كما فهمناه حتى اليوم. وهذا يلتقي مع المفكر البريطاني الصهيوني برنارد لويس قبل عشرات السنين حول استحالة تكون الدولة عند العرب نظرا لارتباطهم المرضي بنظمهم التقليدية المبنية على اللون والعرق والطائفة التي سيعودون لها إن عاجلا أو آجلا.
وهو ما ينهي العرب كقوة جهوية في المنطقة. هذا التمزق، في المنطق الصهيوني والغرب الاستعماري، هو خير ضامن للمزيد من الموت والتخلف واستنزاف الخيرات العربية بأقل قدر من الخسارات مثل بيع النفط الذي أصبح بين أيدي العصابات المتطرفة التي سرعان ما تحوله إلى ترسانات ضخمة من الأسلحة التي تتم مقايضتها بالنفط والغاز مثلما هو الحال حاليا في بعض المناطق السورية واللليبية والعراقية ليتسيد منطق القتلة والمافيا والمخدرات والتهريب. أي مستقبل تصنعه الحداثة المعسكرة لعرب في حالة احتضار؟
واسيني الأعرج