يمثل “الله” الإسلامي توحيدا بين “الإله المتعالي” و“الإله الخالق - الصانع”، الشيء الذي يمثل الأساس الميتافيزيقي لتوحيد النظرية مع الممارسة في الإسلام. حيث أن التعالي المحض لله، غير المترافق مع فعاليته، كان يؤدي في الأديان الأخرى إلى رفض العمل والمادة، وإلى التركيز على الحل الروحاني الهارب من المحسوس، و إلى الفصل بين المادة والروح (= الهندوسية والمانوية). وهذا ما أدى إلى جمع “التنزيه” مع الفعالية التي مثلتها “الصفات” دون أن يؤدي ذلك إلى المس بوحدانيته. لهذا فإن إعطاءه أوصافاً حركية و حسية (استوى، صلى، الفاعل، الخالق، الكافي، الرحيم... الخ) لا يعني انتفاء تعاليه، أو الوقوع في التجسيم والتشبيه، وإنما هو مؤشر لامتلاكه الفعالية الكونية: “وهو الله في السموات وفي الأرض يعرف سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون”، [سورة الأنعام ،2].
ثم: (لله ملك السموات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير)، [ سورة المائدة، 120]،
فيما تدل الأسماء الحسنى على امتداد تلك الفعالية إلى الأرض: “هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم”، [سورة الممتحنة، 24].
وهنا نجد، أن خلافة الإنسان للّه في الأرض، تأتي، إضافة إلى نفخ الله من روحه في نفس الإنسان، من تعليمه الأسماء كلها، مما أدى إلى تفضيله على الملائكة: “وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نُسَبِّحُ بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون، وعلم آدم الأسماء كلها ثمَّ عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين، قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل إني أعلم السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون، وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى وأستكبر وكان من الكافرين)، [البقرة، 30 – 34].
يقول الحديث النبوي:”القرآن نافذة الله“، وواسطة إنزاله إلى الإنسان هي”الروح“. هذا الإنسان الذي”فإذا سوْيِّته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين“[ النحل، 29]:”قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليُثَبِّتَ الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين)“[ النحل ، 112 ]،:”ينزل الملائكة بالروح من أمره و على من يشاء“، [النحل ، 2].
فرغم جوانب الضعف الإنساني، إلا أن الإنسان هو ظل الله وهو صاحب الأمانة والسيادة التي وهبها الله له على الأرض:”إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأَبَين أن يَحْمِلنَها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً“، [الأحزاب، 72 ]، إلا أنه بإمكانه تجاوز ذلك الضعف والشر الذي يعبر عن أحد جوانب طبيعته، من خلال الإيمان:”لا تهنوا ولا تحزنوا و أنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين“[آل عمران، 139]، وهو نفسه – أي الإيمان – الذي يؤدي إلى وضعهم في موقع التفضيل الإلهي:”كنتم خير أمة أخرجت للناس“، [ آل عمران ، 110 ].
يقدم الإسلام مفهوما جديدا لـ”المختارية“الإلهية، ولا يعتمد على الدم والنقاء العرقي، وإنما يقوم على الإيمان بشريعة الله المفتوحة لدخول كافة البشر فيها. الشيء الذي يتجاوز انكفاء اليهود على ذاتهم، والذي ربما يعود إلى حالة الحصار والاضطهاد التي وجدوا أنفسهم بها دائماً، مما يجعل الإسلام رسالة ذات طابع أممي، تهدف إلى ضم الأمم إلى لواء الدعوة والإيمان الإسلاميين، وبالتالي فالقومية في الإسلام لا تحدها الجغرافيا أو اللغة ولا الدم أو العنصر، وإنما الإيمان، مما يجعل”الملّة“هي الأمة، تماما، كما في اليهودية، التي يشترك معها الإسلام، أيضا، في ضرورة السياسة لإقامة دولة الله على الأرض، والمكلفة بتطبيق شريعته التي قدمها القرآن.
من هنا، نفهم لماذا كان الإسلام، كاليهودية، عقيدة تركيبية تكاملية، لا تقتصر على مجالات الماورائيات والإلهيات والغيبيات، وإنما تشمل السياسة والاقتصاد والبناء الاجتماعي والأخلاقي. وهي تقيم بين هذه الجوانب خيطا رابطا يبدأ من ذات الله لينتهي إلى ذات الإنسان، رجوعا إلى الأول عبر تلك الوسائط التي قدمتها الشريعة والشاملة لتلك الجوانب، كطريق يؤدي تطبيق الإنسان له إلى الخلاص.
لهذا، لا يدهشنا اهتمام الإسلام بالجسد، ودخوله في معالجات تفصيلية لعالمه. فالإسلام يرفض تقسيم الإنسان إلى جانبين متضادين بين الروح والجسد، أو الفكرة والمادة: مما يدفعه إلى رفض فكرة نبذ أحدهما، باعتباره نقصاً أو عائقاً أمام خلاص الإنسان، بل نجده يدعو إلى اعتبارهما جانبين متكاملين يؤدي أحدهما – أي الجسد – إلى الوصول إلى الآخر، إذا طبقت تعاليم الشريعة المحددة لذلك.
فهو يرفض الهروب من الدنيا والمحسوسات، بل يعتبر العمل في الطبيعة ممثلا في الإنتاج، والتحول إلى كائن اجتماعي فاعل من خلال مفهوم”الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر“، كطريق إلى مرضاة الله، فيما يكون الدخول في السياسة تحت شعار”القرآن دستورنا“طريقاً إلى إقامة دولة الله على الأرض وفقا لمفهوم”الجهاد“الذي له جانبان، دفاعي وهجومي، من حيث أن الأخير يدخل في إطار الطموح الإسلامي للسيطرة على العالم، و هو ما يعتبر جوهر الإيمان الإسلامي الهادف إلى ملاقاة الله عبر”أسلمة“الأرض والبشر.
لهذا، كانت تلك التكاملية في النظرة الإسلامية إلى الكون والعالم، والعلاقة بين الجانبين العلوي والأرضي، أي الإلهي والإنساني، تفرز دائما نظرة تركيبية إلى المجتمع وإلى الإنسان، وترفض النظرات التجزيئية التي تفصل بين هذه الجوانب في علاقاتها ببعضها، وصولا إلى تقسيم كل واحد من هذه الجوانب إلى عناصر متضادة ومتنافرة لا حل لها، كالتناقض الذي تقيمه المانوية بين الروح والمادة -كمنعكسات في الأرض لتناقض النور والظلمة في البناء الكوني المانوي- في النظرة إلى العالم لتسقطه على الإنسان بين روحه وجسده، مما يؤدي بها إلى رفض العمل الاجتماعي والحل غير الفردي، وإلى طرحها للخلاص في إطار الزهد الفردي”الهارب“من المادة في طريقه إلى الأعلى لملاقاة الإله.
إلا أن الملاحظ أن الأديان التركيبية، ذات الطابع العملي والتي تمتد إلى مجالات المجتمع والسياسة (مثل اليهودية والإسلام)، هي أقل عمقا، من الناحية الفلسفية، من الأديان ذات الطابع التجزيئي، والتي ترتكز على”جوانية“الفرد (مثل المسيحية والمانوية والبوذية والهندوسية). كما يلفت النظر، في هذا الإطار، كيف أن الصوفية الإسلامية، الهاربة في تركيبها المعرفي من عالم المحسوسات والطبيعة لصالح تنقية النفس والروح وصولا إلى الإتحاد والتوحد مع”المتعالي“، قد قدمت أعمق الأبحاث الفلسفية الإسلامية، عبر السهروردي المقتول (1155 – 1191 م) و ابن عربي (1165 – 1240 م)، فيما كانت جوانب الفكر الإسلامي الأخرى أكثر إنتاجية في مجال التشريع الفقهي، والذي كان في حالة اتساق عقائدي مع الدولة الإسلامية المسيطرة تاريخياً.
و لكن ما يثير الانتباه، في هذا الصدد، أن الأديان التركيبية هي أكثر مساهمة في بناء الحضارات الكبرى، مثل الديانة البابلية التوحيدية (عبر الإله مردوخ) في حضارة بلاد الرافدين، والإسلام والحضارة الإسلامية، فيما تزامنت هيمنة المسيحية التي كانت عبر مفاهيمها حول”الأب“و”الابن“مثل المانوية، الفاصلة بين”المتعالي“، الذي هو بلا صفات، و”الإله الخالق-الصانع“الذي تقدمه في صورة”متوسطات" مدبِرة للعالم كالأفلاك والأجرام، على الدولة والحضارة الرومانيتين مع تدهور وسقوط روما عام 476 م وخاصة بعد أن سيطر عليها التفكير المانوي عبر القديس أوغسطين (354-435)، و أكثر أطوار المسيحية قوة، في الحضارة الغربية، هي في فترة العصور الوسطى، فيما ترافق عصر النهضة الغربية مع عودة إلى أثينا وروما الوثنيتين، ومع تهود المسيحية عبر البروتستانتية واليسوعية.