لا وجود لإسلام، بل ليس هناك
إلا مسلمين. والعلمانية، هي بالمثل، مفهوم يُحشر فيه كل شيء، يمكن أن يعني
الفصل بين العبادات والدولة كما يمكن أن يعني نقيض ذلك. إنه تعدد للمعاني،
تجد فرنسا صعوبة في فهمه.
يعيش الفرنسيون تجاه
الإسلام في وهم معادلة سحرية تتساوى بحسبها الجمهورية مع الديمقراطية،
والديمقراطية مع العلمانية، والعلمانية مع المساواة بين الجنسين، وهذه
الأخيرة مع الحداثة، والحداثة مع الغرب والغرب مع المسيحية. هذه المعادلة
التي وُضعت بشكل سيّء، هي غير قابلة للحل ولا يمكن لأي عنصر من عناصرها أن
يصمد أمام التحليل الميداني.
لنسجّل نقطة لبريس
هورتفو الذي قال في فترة تقلده منصب وزير الداخلية الفرنسية (متحدثا عن
المسلمين) "حينما يكون هناك فرد، فالأمر مرضي، أما عندما تكون كثرة، فإذّاك
تحدث المشاكل". وفي الواقع، ليس هناك مسلمان يفكران بنفس الشيء! فالإسلام
لا وجود له من وجهة نظر سياسية (بحتة)، إنه لغة سياسية دينية مستمدة من
الفقه والفلسفة والقانون عند المسلمين. غير أن كل مفردة من مفرداتها هي ذات
معان متعددة.
هناك أيضا أحزاب تدين بالإسلام. البعض
منها محافظ ونيوليبرالي ، والآخر دولاني و/أو ثوري، ولكنها جميعا أحزاب
قومية، تعطي الأسبقية لمصالح الدولة-الأمة على مصالح جماعة المؤمنين. وكان
مناضل جزائري شاب قد شرح ذلك للمؤرخ وعالم الاجتماع مكسيم رودنسون، خلال
حفل لجريدة L’Humanité ، في فترة ما بين الحربين العالميتين: " الأمة و
الهوما(L’Huma ) هما نفس الشيء ".
هذا الشيء بعينه
هو من قبيل الطوباوية. والنزاعات التي تمزق المجتمعات الإسلامية هي، نتيجة
لذلك، نزاعات داخلية. إنها تعارض - على الأصح - المسلمين فيما بينهم، أكثر
مما تعارضهم مع الغرب. هكذا يبدو الأمر في باكستان وأفغانستان والعراق، أو
كذلك في سياق "ثورات الربيع العربي" في سوريا ومصر وليبيا.
الإسلام
هو كلمة/حقيبة لا تمنع المسلمين الفعليين في شيء من أن يكونوا من أتباع
العلمانية، تماما كما لم تمنع المسيحية المسيحيين من أن يصبحوا من أولائك
الأتباع. غير أن العلمانية هي نفسها نوع خال من معنى سياسي محدد.
إنها
تعني- في فرنسا- عملية الفصل بين الكنيسة والدولة، باسم مفهوم كوني
للمواطنة. وفي تركيا، وفي سياق تعريف عرقي عقائدي للمواطنة، تعني نقيض ذلك،
أي تبعية الديني، السياسية والبيروقراطية، للدولة.
وعليه
وجب الحرص على تفادي تجميد كل من هذين المسارين في نموذج لا تاريخي،
ففرنسا لا تزال مسكونة بتمثلات عرقية/عقائدية للانتماء إلى الأمة كما دلّ
على ذلك تواطؤ حكومة فيشي مع النازيين بعد خمسين سنة من معاداة الجمهوريين
للسامية وكما تذكرنا بذلك اليوم التصريحات البغيضة لوزراء فرنسيين على حساب
مواطنيهم من ذوي المعتقدات أو الأصول العائلية المسلمة أو حتى اليهودية.
وفي
الوقت ذاته، يدافع الأتراك عن إعادة تأسيس كوني لجمهوريتهم من أجل أن
تُضمن المساواة الحقيقية في الحقوق لجميع المواطنين. ويشكل ذلك تحوّلا
(نوعيا) يمثل الاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن ثمن الارتقاء إليه.
إن
معظم بلدان الشرق الأوسط تقف عند التقاء هذين النموذجين من العلمانية
والمواطنة، لأنها كانت تباعا مقاطعات عثمانية ومستعمرات فرنسية وبريطانية؛
وكذلك الأمر بالنسبة لكل من الجزائر وتونس ومصر ولبنان وسوريا والعراق.
ولكن هذا ينطبق أيضا على اليونان وجمهوريات يوغوسلافيا السابقة وعلى
إسرائيل…
ومرّة أخرى، يفسّر الإسلام بدرجة أدنى ممّا
يفعله التاريخ على وجه الخصوص، الانتقال من عالم إمبراطوري يشمل المساحة
العثمانية إلى عالم دول قومية تعمل حسب منطق الاستثناء.
هناك
تمييز آخر يفرض نفسه. العلمانية هي سياسة عمومية تعنى بالتنظيم القانوني
أو الإداري لحقلي الديني والسياسي، والعلمنة هي عملية فصل اجتماعي بين شؤون
المدينة والمعتقدات الدينية. علمنة الدولة، على الطريقة الفرنسية أو
الطريقة التركية (alla franca ou alla turca ) ليست شرطا ضروريا لعلمنة
المجتمع، كما اتضح ذلك من تجربة الأنظمة الدينية في الغرب وتجربة المغرب أو
تجربة جمهورية إيران الإسلامية.
لا تمنع علمنة
الدولة وصول حزب إسلامي إلى السلطة، كما حدث ذلك في تركيا وتونس، دون أن
ينفي هذا التناوب على الحكم بالضرورة الطابع العلماني للمؤسسات ولا علمنة
المجتمع. ذلك أن تصويت الناخبين لهذه الأحزاب غالبا ما يكون لأسباب ليست
دينية، من قبيل إزاحة النواب السابقين أو إرجاع الجيش إلى ثكناته كما في
تركيا أو من أجل القطع مع النظام السابق كما الحال في تونس.
وبعبارة
أخرى، ليس هناك من علمانية في دار الإسلام، إلا بعلاقة بتواريخ وسياقات
محددة، في ضوء ممارسات أو استراتيجيات عملية للفاعلين الاجتماعيين. ومن
حالة إلى أخرى، تشكل هذه الفكرة أحد عناصر الهيمنة السياسية والتمييز
الاجتماعي، إنها باختصار لغة طبقية.
وعلاوة على ذلك
تبقى العلمانية عالقة ببعض الحريات العامة مثل حرية الضمير وحرية التعبير
وذلك بالنسبة لأقلية من المسلمين؛ وهؤلاء - وإن كانوا أقلييين - فهم ليسوا
أقل جدارة بالاحترام ولا أضعف إسلاما. أمّا بالنسبة للأغلبية منهم، فإنها
تمثل التسمية المحترمة لكراهية الإسلام التي أصبحت أوروبا تتقلب فيها
فصاعدا.
وحيث أن العلمانية - إذا ما استعملنا
التمييز الذي قام به الفيلسوف جيل دولوز حول ما يجب أن يبوح به مفهوم ما -
هي "حدث" متموضع تاريخيا، بدلا من أن تكون "جوهرا"، فإنها لا ترعى إقامة
علاقة ثابتة مع السياسي أو الديني. لقد كان حضور الإسلام متواضعا عند
اندلاع انتفاضات "الربيع العربي" ثم إنه سرعان ما اندرج في سياقها (من
جديد). لكن، لنمتنع عن التعبير عن هذه التشكّلات الجديدة من منظور لعبة
محصلتها صفر.
أوّلا، لأن الجيوش أو الأنظمة التي هي تحت وصاية
العسكر، قدّمت، ويدها على قلب العلمانية، الكثير من التنازلات للإسلام
لمحاربة اليسار أو المطالب الإقليمية، خاصة في الجزائر ومصر وتركيا، خلال
سنوات 1960- 1990.
ثانيا، لأن تعبئة الشبان المناضلين،
العلمانيين والإسلاميين خلال سنة 2011 وفّرت لهم فرصة النضال المشترك،
وتقاسم الفضاء العمومي على أساس تنازلات متبادلة، وفرض رؤى جديدة للمدينة
على من هم أكبر منهم سنا داخل الجماعات التي ينتمون إليها. وينجرّ عن ذلك
حسب العالم السياسي المغربي محمد توزي، عرض إسلامي لدولة علمانية لا تعني
مفرداته الدينية التي من شأنها تخويف الرأي العام الغربي عبر مفاهيم
"الشريعة" أو "الخلافة" أي شيء آخر غير دولة القانون المدنيّة والحكم
الرشيد وخصخصة التضامن الاجتماعي.
لم يساعد الفهم
الفرنسي للعلمانية الفرنسيين على التسليم بظلم واستبداد دول الشرق الأوسط
التي كانت تدّعي الانتماء إلى هذه الفكرة ولا على توقّع اندلاع " الربيع
العربي". ويهدد هذا الفهم بجعلهم يمرّون بجانب أحداث إعادة التشكل الجارية
الآن. فالقضية الحقيقية لا ترتبط بالعلاقة بين الدين والسياسة، أكثر من
ارتباطها بالعلاقة بين الأحزاب المنحدرة من الاتجاه الإسلامي والليبرالية
الجديدة.
فإذا كانت ما تسمّى بالشعوب العربية أو
المسلمة قد أثبتت قدرتها على التخلص من نير القمع السياسي، فإنها لم تكن
قادرة مثلها مثل الأوروبية على تقديم الإجابة على الأزمة الهيكلية التي
تعصف بالاقتصاد العالمي. وإذا كانت تركيا (التي يحكمها) حزب العدالة
والتنمية تتبختر بنسبة نمو بلغت 8٪، فإلى متى سيدوم ذلك، وبأي اعتبار سيكون
هذا النجاح قابلا للاستنساخ بحجّة الإسلام؟
وماذا
عن المعجزة التونسية المزعومة التي لم تكن إلا سرابا، دون الحديث عن وهن
إقلاع التنمية بالمغرب الأقصى وعن مغالطات (الأشغال) الفرعونية في الخليج
أو عن الانجازات الهزيلة لكل من مصر وسوريا؟
المسألة
التي تواجه المسلمين - الإسلاميين منهم والعلمانيين على حد سواء- هي مسألة
اجتماعية ولا دينية. ومن أجل حلها سوف يكون "الأب الصغير كومب" (إيميل
كومب) - الذي أعدّ مشروع قانون فصل الكنيسة عن الدولة، المصادق عليه سنة
1905 - أقل إفادة لهم من الاقتصادي كينز.
تركيز على حالات الجزائر وتونس وإيران
تشكل
العلمانية بالنسبة للفرنسيين المسلمين بداهة، في إطارها تربّوا وعلى
شروطها تفاوضوا كل يوم، كما كان الشأن بالنسبة لزملائهم المواطنين
الكاثوليك والبروتستانت واليهود في ما اتصل بالمدرسة والأخلاق أو أيام
العطل. لكن كفانا تشدّقا بالكلمات المميّزة وإنكارا لشمولية تلك الترتيبات
الحقيرة التي كانت تكمن في روح التوافق الخاصة بالجمهوريين "الانتهازيين"
في أواخر القرن التاسع عشر، أولائك الذين يعلن سلفيو العلمانية المقدسة
الانتماء إليهم بصورة غير لائقة.
ارتبطت
العلمانية، بالنسبة للجزائريين المسلمين، برفض المستعمر في أن يشمل القانون
الذي يفصل الشعائر الدينية عن الدولة الأراضي الجزائرية، وذلك ضمانا
لاستمرارية جهاز عثماني محدث لمراقبة الدين وسجن "الأهالي "داخل
"تقاليدهم". ثم استعملت العلمانية عقب ذلك لإضفاء شرعية على احتكار الجيش
للسياسة. وعلى هذا النحو كانت تمثيليتها متناقضة.
فهي
تعارضت مع الاتجاه العرقي/الديني لحرب التحرير الوطني، ولكنها ارتبطت أيضا
بإعادة إنتاج نظام مكروه ومعاب، ملطخ بدماء شبان سنة 1988 المشاغبين،
أسلاف انتفاضات "الربيع العربي" الذين يا للغرابة نسيناهم لفرط جسامة ما
كان يثيره فينا جنرالات الجزائر من رعب، وتأنيب للضمير، أو تساهل وافتتان.
التقليد العثماني
وفي
تونس تنحدر جذور العلمانية، هنا أيضا على الطريقة التركية أكثر منها على
الطريقة الفرنسية، إلى التقاليد العثمانية والاستعمارية والبورقيبية
للإصلاح التسلطي، الذي- بالإضافة إلى الديكتاتورية - آل إلى تشكّل غير
متماثل للدولة لصالح المناطق الساحلية على حساب المناطق الداخلية النائية.
وترنّ
الاحتجاجات الاجتماعية لسنوات 2008 - 2011 والإطاحة ببن علي، والانتصار
الانتخابي لحركة النهضة كثأر- هو بدون شك أكثر رمزية من ديمومة- لهذه
الولايات المحرومة على الغطرسة الاجتماعية والثقافية للنخب التي تقطن تونس
العاصمة، تماما كما كان الحال في تركيا، حيث كرّس قدوم حزب العدالة
والتنمية إلى السلطة الصعود الاقتصادي والسياسي لأعيان هامشيين على حساب
المؤسسة الكمالية الحديثة (néokémaliste).
أما في
إيران، فالعلمانية هي حنين سابق للأحياء الشمالية لطهران التي تخفي عن
نفسها أن نظام الشاه كان أي شيء آخر ما عدى نظام ديمقراطي وعلماني وأن
مؤيديه الغربيين لا يريدون الإقرار بأن ثورة 1979 كانت – ومعذرة عن الإطناب
- ثورة، بفائزيها وفائزاتها في مجال التعليم، والسكن أو الاستقلال الوطني.
وكذلك الأمر في مصر والعراق، أو في الحالات المختلفة جدّا لبلدان الخليج.
تأليف جان فرانسوا بيّار، Jean-François Bayartمدير بحوث بالمركز الوطني للبحث العلمي (فرنسا)رئيس صندوق تحليل المجتمعات السياسية (Fasopo)أصدر
:"الدولة في إفريقيا" (فايار 1989)- "الوهم الهوياتي" (فايار 1996)-
"حكومة العالم" (فايار 2004)- "الإسلام الجمهوري، أنقرة، طهران،دكار"
(ألبان ميشال 2010)نشر المقال بصحيفة "لومند" الفرنسية بتاريخ 29 نوفمبر