ليْسَتِ الحياة مَحْض صُدْفَة، تَخْضَع لمنطق «الغَيْبِ والشَّهادَة». الحياة مشروع وُجودٍ يتأسَّسُ على فكرة، أو مجموعة من الأفكار، التي يكون الإنسانُ، المُتَأَمِّلُ، المُفَكِّرُ، القَلِقُ، النَّاقِدُ، هو صانِعُها، وليست أموراً تتحكَّمُ فيها يَدٌ، تخرج من الغَيْبِ، أو من المجهولِ، لِتَقُودَ الفكر، نحو ما هو مَعْلُوم، بصورة سابقة، حتى على وُجُود الإنسان نفسه.
في الفكر، كل شيء احْتِمال، وكل شيء قابل لأن يصيرَ ويكونَ، وهذا ما يجعل مفهومَنا للإنسان، أو لكينونة الإنسان، وفق المعنى الذي يعطيه لها هايدغر، «ألاَّ نَسْرُدَ قصَّةً»، أي ألاَّ نُعَيِّنَ الكائِنَ من حيث هو كائنٌ… إنَّما، باعتباره «مُسْتَجْوَباً عن كينونتِه»، ذلك الكائن، المُفَكِّر، القَلِق، المُتَسَائِل، الذي يتعلَّم التفكير، باستمرار. ويعرف أن الفكر، هو اسْتِقْصَاء، واسْتِجْواب، وليس إيماناً بما هو مُتاحٌ، وقائمٌ، وموجود. فهذا المُتاح، والقائِم، والموجود، ما هو إلاَّ مقدمةً، أو مدخلاً لِما هو مُتَخَفٍّ، ومُحْتَجِبٍ، مِمَّا على فِكْر الإنسان أن يذهب إليه، دون «وَرَعٍ»، ما دام وجود الإنسان، هو وُجود بالفكر، وبالسُّؤال الذي لا يفتأ يَقْلِبُ التِّرَبَ، ويُعيدُ اختبارَها، لمعرفة «صِحَّة» و «مَتانة» الأساسات، قبل أن يُقْدِمَ على البناء، وفق ما كان يفعله الإغريق، في ما كانوا يُؤسِّسُون عليه أبْنِيَتَهم، في الفكر، وفي المعرفة، عموماً.
إذا كان الدِّين، في طبيعته، قامَ على التَّصْدِيق، والتَّبَعِيَة، وكان، بالنسبة لـ «المؤمنين» أو «التَّابِعِين»، هو إجابة كافية عن كل ما يرغبون في معرفته، فهو سيكون، أيضاً، حافزاً على البحث، ومُساءَلة كثير من المُسَلَّمات، التي، بَدَا أنها تحتاج للمُسَاءلَة، والتَّقَصِّي. وهو ما كان جرى في الفكر المسيحي نفسه، وجرى، حتى في الإسلام، في مراحله الأولى، حين شرع بعض الذين عارضوا الإسلام، واعترضوا عليه، في اختلاق أسئلتهم، بصدد ما ظهر أنه غير ما كانوا يعرفونه، أو يرغبون في معرفته.
فالإسلام، في بُعْدِه «الفلسفي»، «التأمُّلِيّ»، كان حافزاً لهذا الاستجواب، وحافزاً لانفجار كثير من الأسئلة، بصدد العلاقة المُمْكِنَة، بين «الله ـ الخَالِق»، و«الإنسان ـ المخلوق».
الذين انخرطوا في الدِّين، في المسيحية، أو في الإسلام، تنازلوا عن قلقهم، مقابل هذا الاقتناع الميتافيزيقي، الغيبي، الذي وجدوا فيه راحةً لِنُفُوسِهِم، ولم يعودوا يرغبون في هذا «الاستجواب»، الفكري، الذي هو تعبير عن قَلَقٍ، وعن رغبة في معرفة ما يقوم عليه البناء من أساساتِه.
في هذا المُفْتَرَق، سَتَحْدُث «القطيعة»، بين فكر اقتناعي، إيماني، له مُبَرِّراتُه، وله وسائِلُه في الإقناع، وفي الجدل، وبين فكر، لا يقبل أن يكون، دون «حافز للتفكير»، ودون، هذا «التَّمَرُّن» الدَّائم، والدَّائِب، «على التفكير».
السلفيات الماضوية، التي تَطْمَئِنُّ للإجابات، وتَعْتَبِر نفسَها مصدرَ يقينٍ، ستعمل على إفراغ الدِّين من هذا البُعد التَّساؤُلِيّ، وهذا القَلَق، الذي هو بين ما يُحَدِّد البُعد الأنطولوجي للكائن، باعتباره، كائناً يستغرقة التفكير، ويستغرقه الاستجواب، والتساؤل، والرغبة في المعرفة، ليجعل منها مصدراً لكل شيء، بما في ذلك، ما سيكون، لا ما كان، وما هو كائن، فقط. أو بعبارة هايدغر، فهو يصير، في وعي السلفيات الأرثودكسية، هذه، «قِصَّةً» انتهى سَرْدُها، وما على الإنسان إلاَّ أن يُعيد سَرْدَها، وفق ما فيها من عِبَرة، و«مَوْعِظَةٍ حَسَنَةٍ».
ليس الإنسان كائناً بدون أفكار، ولا كائناً، ينتظر الجواب من مجهولٍ ما، أو هو رَاوٍ لـ «قصة»، سُرِدَتْ، وانتهت، ولا مجال لخلق قصص أخرى، فيها مكان للابتكار والإبداع، أو لإعادة القراءة، والتأويل. بل إن الإنسانَ هو خالقُ أفكار، وهو يَتَمَرَّن، باستمرار على التفكير، وعلى اختبار قدرة الأفكار، كيفما كان مصدرُها، وكيفما كانت الجهة التي تأتي منها، على أن تكون حَيَّةً، تُضِيء طريق الفكر، والمعرفة، وتُساهِم في بلورة أفق لمعرفةٍ، لا تستكين لليقين، والمُسَلَّم به، بما في ذلك ما يأتي من الدِّين، نفسه، خصوصاً حين يكون هذا الدِّين، هو صورة مُشَوَّهَة عن الدِّين، أو صورة، فيها تحريف، وشَطَط، في القراءة، والفهم، والتأويل.
هذا ما نُعانِيه اليوم، في فهم ما يجري للإسلام، الذي انتفَى فيه النص ـ المصدر، والأصل، وبقيت ظِلالُه، أو ما هو من قبيل الخيال، والإضافة، أو الخُرافة، بالأحرى.
هذا الكتاب، هو حوار مفتوح، بصدد هذا التَّشَظِّي، وهذا الاستعمال الديماغرجي للدين، الذي أفْضَى لتكريس العُنْف، واعتبار الإسلام، وفق هذا المنظور السلفي ـ الأرثودكسي، ذريعةً للتكفير، والتَّشْهير، وذريعةً للقتل، والاغتيالات، أو الحَثّ، والتَّحٌريض على القتل، من خلال فتاوٍ، هي تعبير عن الخلط، والمَسِّ الذي أصاب هؤلاء «الدُّعاة»! الذين يدَّعُونَ الدِّين، أو حماية هذا الدين، من «العلمانيين»، ومن «الحداثيين»، المُلْحِدِينَ، المارِقِين، الذين، يتكلمون بِلِسان الغرب، أو الآخر «الكافر»!
لم نعد اليوم، في هذا الوضْع المُتَشَظِّي للدين، أمام مفهوم واحد للإسلام، ولا أمام الإسلام، في مصادره، وفي ما يدعوه إليه الإسلام نفسه، من حوار، وجِدال. لغة التَّعْنِيف، والتَّرْهيب، والتَّهْويل اللِّساني، الذي يتخذ من خطاب النار والجنة، أو الغَيْب والشَّهادَة، مُسَوِّغاً للتكفير، أو التبرير، أصبحت هي لغة هذه السلفيات، التي باتت تُكَفِّر بعضَها البعض، وكل واحدة تتبرأ من الأخرى، أو من رؤيتها للإسلام، باعتبار الدِّين هو ما يتنبناه هذا الطرف دون ذاك، أو ما يمكن اعتباره، ديانات في قلب نفس الدِّين.
نحتاج، اليوم، للفكر، وللمُساءلة، والنقد، والمُراجعة، ولفكر الاختلاف، والإنصات، والحوار، أكثر من أي وقت مضى، كما نحتاج لقراءة الدِّين، نفسه، دون مُسَلَّمات ويقينيات، فالإيمان، في الدِّين، وفي غيره يقتضي الاقتناع، وكل اقتناع، هو تَقَصٍّ، وبحث، ومعرفة، أو صُدور عن وعي يكون «العقل»، أداته، لا الخرافة، والوهم، أو الفكر الأعمى الذي لا يقود إلا لما نعيشه اليوم، من تراجع في كل شيء.
لنُعيدَ النظر في سُرودِنا، ولِنُعيد قراءة سُرود، وقصص الماضي، بما تفرضه علينا أفكار الحاضر، لا بما كان صالحاً للماضي، ربما، وهو اليوم، مثار جدال، ونقاش، ومثار اختبار، ونقد، ومراجعة.
إذا كان الدِّين، في أساسه، فكرةً، تقوم على الاعتقاد، فالفكر، هو رغبة في المعرفة، وفي مراجعة الأسُس التي يقوم عليها هذا الاعتقاد، وما قد يُرافِق ذلك من سلوكات، وطُرُق، في القراءة والفهم، هي تعبير عن فكر، هو بدوره، سيكون في حاجة ماسَّة، للمراجعة، لا لِنَفْيِهَ، أو إلغائِه، بل لتأكيده، ربما، من خلال ما يمكن أن يكون «حقيقة ـ ثابتةً»، فيه، أو بوضع اليَد على ما قد يكون فيه، نقط قوة، أو ضعف، معرفَتُها هي بين ما يمكنه أن يُساهِمَ في إعادة فهمه بطريقة، تساعده على فهم نفسه، أيضاً، وبطريقة، تجعله، حَيّاً، لا لأنه ثابتٌ، وراسخ، بل لأنَّه ما زال يحمل سِرَّه في ذاته، وفي ما يُثيره، باستمرار، من أسئلة، وما فيه من دعوة، مفتوحة، للتأمُّل، والتفكير.
يصدر الكتاب عن دار التوحيدي للنشر، بمناسبة العرض الدولي للكتاب بمدينة الدار البيضاء 2014.