المتتبع للتاريخ الثقافي للبشرية بشكل عام يلاحظ أن التغيرات والتحولات التي تحدثها أفعال البشر في كل جوانب الحياة؛ أفعال متفاوتة التأثيرات على المحيط والبيئة, كما هو الحال على العلاقات البشرية فيما بينهم، وأن ما ينتج عنها من إنتاج فكري ومادي، وهو ما نطلق عليه الموروث الثقافي عبر الأزمان ما هو إلا حصيلة لهذه العلاقة ومرآة عاكسة لتفاصيل تلك السلوكيات، فمجمل هذا السجل التاريخي للبشرية حافل بالكثير من الأحداث الجسام التي يفترض أن تستفيد منه الأجيال ومن كل خطوة خطتها الشعوب الغابرة في طريق حياتها.
تدل كل البقايا المادية المتمثلة في العمارة مثلاً والأدوات وغيرها، كما تدل كذلك الروايات والأساطير والقصص والفنون المتداولة على المراحل الثقافية التي قطعتها الشعوب نحو التطور والنمو المفترض بكل دقائقه، وكل هذا ما هو إلا نتيجة للتغيرات الفكرية التي سبقت. ولم تقتصر هذه البقايا -التي ينبغي الاستفادة منها فقط- على معرفة جوانب الحياة المعيشة في إطار العائلة أو القبيلة أو المجتمع من نظرة ضيقة أو جانب دون آخر، ولكن من خلال محاولة الرؤية الواسعة لزوايا الحياة الخفية المتمثلة في أسس الإنتاج الثقافي والمعرفي والأفكار التي تولدت عنها كل المشغولات والمنتوجات المادية للشعوب سواء كانت نتائجها سلبية أم إيجابية في سجل حياتهم. والإنتاج الثقافي للشعوب يتمثل في نوعين رئيسين, أولهما: إنتاج رسمي تتولى رعايته وتحقيقه الأنظمة والدول والحكومات التي تضع لذلك خططاً وبرامج وأهدافاً, وتسعى لتحقيقها بوسائل مختلفة، ولهذا يكون الإنتاج على حسب ما بذل عليه وما استخدم فيه من وسائل سواء أكانت فكرية أم مادية. أما الآخر فهو متزامن مع الإنتاج السابق، ومتأثر به، وهو الإنتاج الفردي والذاتي، والذي قد لا تحكمه بشكل مباشر تلك القوانين التي سنتها الأنظمة، ولكن قد يسير أو يتأثر أكثر عن طريق التشريعات الدينية والأعراف والفطرة والتربية المتوارثة التي تطغى على المجتمع، وهو إنتاج العامة، ويعكس هذا النوع ثقافة السلوك التربوي (الفطري) غير الملتزم بالقيود الرسمية عادة، ولكنه قد يتفاوت بتفاوت القيم التي تلقاها الشخص في حياته. ومع هذا وذاك يصب نتاج كل منهما في ميزان خدمة المجتمع حيناً وقد يتعارض معه، إلا أن أثره ينعكس على الفرد والمجتمع على حد سواء. ولهذا فمقياس تقدم الشعوب وتحضرها يعتمد على النسبة الغالبة من أفراد المجتمع المنتجة إنتاجاً مفيداً يحقق تقدماً مَهما كان حجمه على ألا تكون نتائجه مضرة بشكل متعمد بفئة أو جماعة في المجتمع، كما يعكس سلوكاً وتصرفاً يحافظ على وحدة ونماء هذا المجتمع ويزيد من تعاضده وتكاتفه وتلاحمه، والعكس صحيح. قد تكون الإنتاجات الملموسة التي أسهمت في تطور وتقدم المجتمعات القديمة بكل جزئياتها قد طرحت على ساحات البحث في كل الميادين، إلا أن بعض الجوانب الأخرى لم تلق عناية مثلما لقيتها الجوانب السالفة لكونها مشجعة ومحفزة لمن يتناولها أولاً ولكونها ملموسة ومعاشة والحصول على معلوماتها أكثر يسراً من غيرها، فقد تتيسر المعلومات حول الإنتاج الرسمي نتيجة بروزه وشموليته وربما لانتشاره الأوسع، إلا أن الإنتاج الفردي والذاتي قد يكون أكثر صعوبة في الحصول على معلومات بنفس المقياس، وإن كان هذا يصب في نطاق خدمة المجتمع أيضاً. ولو تتبعنا بعض الأمثلة من حياتنا التي نعيشها ونقارنها فقط بزمن لا يبعد عنا سوى عشرات السنين لوجدنا الهوة كبيرة جداً فيما يخص على سبيل المثال سلوكنا وسلوك أجدادنا، كما أن مسألة الكم والنوع في إنتاجنا الثقافي يختلفان كثيراً عن إنتاجهم الثقافي بشكل ملحوظ جداً، وقد يقول قائل: بأن هذا أمر طبيعي لا محالة، أي أننا نحن أكثر تطوراً منهم، فقد يكون لهذه النظرة بعد معين، ولكن عندما نتحدث عن الآثار الإيجابية والآثار السلبية التي تكون من محصلاتها تفكك المجتمع أو الأسرة وتباعد أواصر الصداقة والقرابة وحدوث شرخ عميق في الصلات بين أفراد المجتمع، فإن الأمر يختلف على الأقل أنه مس الأصول والقواعد التي غرسها الدين وتبنتها فيما بعد كل القوانين الوضعية وأسهمت في نشرها، لا لشيء إلا لكونها منسجمة وملائمة للنفس البشرية وللفطرة التي جبل عليها الإنسان وأحبها، فبالتواصل والتكاتف والتعاون والحب ترقى المجتمعات وتتهذب سلوكياتها ويزيد بذلك نشاطها وإنتاجها، ولكن الملاحظ أن ثمة فجوة نفسية في سلوكيات الشباب العربي تجعلهم ينفرون ويبتعدون عن موروث أهلهم ويسعون للبحث عن بدائل تشفي غليلهم وتلبي نزواتهم لم يلمسوها في ثقافة أجدادهم، وهم بهذا يضعون المجتمع برمته على حافة الخطر، إذ أن أثر وسائل الإعلام الحديثة بما تحمله من مغريات قد اكتسحت العقول وجعلتها تتنصل على هويتها وثقافتها الأصيلة، فمن منا لا يدرك تلك الأمزجة الشاذة التي تتزايد في شوارعنا العربية المحملة بثقافة الغرب المشوهة والتي ترى فيها الشباب وهم يلبسون الملابس الممزقة والضيقة ويقصون شعر رؤوسهم قصات يتشبهون فيها ببعض الشخصيات الغربية، والأسواء من ذلك أن قبول المجتمع بهذه الثقافة شيئاً فشيئاً هو الذي جعلها تنتشر وتزداد دون رفض أو استنكار، الأمر الذي أدخلها كل بيت دون عناء واستبدلها بثقافته الموروثة التي نتجت عن تعاليم دينه القويم. كما أن هذا الأمر ليس بغريب فقد ذكر نبينا الكريم عليه أشرف الصلاة والتسليم هذا الأمر كما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع. فقيل: يا رسول الله كفارس والروم، فقال: ومن الناس إلا أولئك؟). ورواه ابن ماجه ولفظه: (لتتبعن سنن من كان قبلكم باعاً بباع وذراعاً بذراع وشبراً بشبر حتى لو دخلوا في جحر ضب لدخلتم فيه. قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى، قال: فمن إذاً؟!). ولهذا فإن الأمر خطير في نظري ونظر الكثير ممن هم في دائرة السكوت أيضاً، كما أن خطورة قبوله قد لا تقاس بهذه السهولة التي يعتقدها البعض من أن هذا الأمر لا يضر كثيراً، وفي نفس الوقت فإن المقام لا يتسع لتفصيل كل كبيرة وصغيرة على هذه الصفحات. وينبغي أن نضع في الحسبان أنه عند المقارنة ينبغي مراعاة الزمن والإمكانات المستخدمة التي ليست من إنتاجنا، لأننا نتحدث عن إنتاجنا في نطاق جغرافي محدد، وليكن مثلاً في (مجتمع شبه الجزيرة العربية)، على أساس أن الظروف في جميع مناطقه متقاربة، ويعتبر وحدة واحدة سرت فيها التشريعات والقوانين والأعراف بصورة متقاربة إلى حد كبير وليس لأي اعتبار آخر، وهي نموذج للدراسة الأنثروبولوجية والاجتماعية التي ربما أسهمت في التقليل من أضرار الحداثة الجارفة التي لا تستند إلى أي من الأحكام والقوانين والسلوكيات التي بناها المجتمع لبنة لبنة، وتسعى بعض الجهات إلى تدميرها والتخلص منها بهدف إذابة الفوارق المجتمعية وإشاعة العولمة التي تبيح الكثير من المحظورات وتساعد على تمازج كل ما هو مختلف. لقد تغيرت العلاقات تغيراً واضحاً بين الأشخاص فيما بينهم, في إطار القرية والمدينة على حد يتباين بين زيادة الفجوة في العلاقة بين أشخاص المدينة عنه في العلاقات القائمة في نطاق القرية، رغم أن التغيرات والتحولات قد آتت أكلها في العصر الحديث بالذات، أما فيما قبل ذلك فإنه يمكن أن يلحظ المرء أن ديناميكية الحياة أقل رتابة، وأن الصلات الفردية والأسرية والعشائرية أكثر تماسكاً وتلاحماً في أغلب القرى والمناطق البعيدة عن المدن المنفتحة. وقد لعبت الصلات والعلاقات الخارجية الناجمة عن السفر والاتصال بمجتمعات خارجية دوراً كبيراً في تحول وتغير العلاقات وفتورها بشكل واضح، ناهيك عن أثر وسائل الاتصال والإعلام التي نستخدمها اليوم مثل التلفونات وأجهزة التلفزة، إذ كانت المدن ذات الصلات الواسعة بمدن أخرى أكثر عرضة لهذا التغير من غيرها وأسرع في التحول من حال إلى آخر، وتبقى القرى والمجتمعات البعيدة أقل تضرراً بمثل تلك الوسائل ولو أن هذه المسألة أوشكت أن تعم المجتمع العربي بأسره، بل ربما وجدنا أن استخدام تلك التقنيات والمؤثرات في القرى أكثر من استخدامه في المدن، أو على الأقل فإن سكان القرى لديهم من الوقت ما يكفي لملازمة واستخدام هذه التقنيات بشكل شبه مستمر وعلى نطاق واسع ربما شمل الصغار والكبار إناثاً وذكوراً. ومن منا لم يلحظ الكلمات الأجنبية الدخيلة في ثنايا لغتنا المنطوقة في الشارع العربي بين جيل الشباب على وجه الخصوص، إذ تجد الكثير من الكلمات والمصطلحات الأجنبية تنطلق في كل جملة تقال ظناً منه أن هذا الأمر يزيده بلاغة وفصاحة ويثري لغته ويرفع مكانته عند المستمعين، وهي ثقافة دخيلة وقد أسهم الشباب وبعض من يدعون الثقافة بأنها جزء من الحداثة وماهي إلا جزء من الغزو الفكري المقيت الذي سلبنا الكثير من هويتنا وسيقضي مع الوقت على ما تبقى من موروثنا الشفهي والمكتوب أيضاً. ولن يتسع المجال كما أسلفت للحديث عن كل جوانب الثقافة ومتغيراتها، ولكننا سنقتصر على رموز منها، إذ تظهر نتائج العلاقات في جانب العمارة والعمران بكل عناصرها مثل التخطيطات الداخلية للمساكن والفتحات المتمثلة في النوافذ والأبواب وغيرها، بالإضافة إلى تخطيط المدن وتوزيع الشوارع بشكل عام سواء الطرقات الرئيسة أو الفرعية الداخلية فيما بين المساكن. فالناظر إلى المدن العربية في وقتنا الحاضر لم يعد يميز بينها وبين المدن غير العربية من حيث الهوية وطابع البناء الذي يدل دلالة واضحة على ثقافة المجتمع, إذ بلغ مستوى التأثر إلى أقصى مداه وسار يجرف كل ما تبقى من مقومات ومعالم موروثنا العمراني الذي لاشك أنه جزء متصل بثقافتنا وهويتنا وتعاليمنا العربية الإسلامية التي ينبغي أن نحافظ عليها ونتمسك بها. ومن المؤسف أن تدعم الجهات الرسمية والحكومية عن جهل في الغالب بعض هذه الجوانب وتسهم في تدمير وتخريب التراث العمراني اعتقاداً منها أنها تبحث عن جوانب الجمال وتزين المدن وتحدثها، وقد خابت ظنونهم بهذا الصنيع الذي طمس ومازال يطمس بمعاوله ثقافتنا العربية والإسلامية دون رادع. ويتجلى التخطيط القديم رغم بساطته وقلة إمكاناته في الالتزام المبني على عدم إلحاق أي ضرر قدر المستطاع، امتثالاً للحديث الشريف القائل (لا ضرر ولا ضرار)، ويؤخذ في الاعتبار على سبيل المثال في تخطيط الطرقات أو الشوارع الداخلية مراعاة واحترام حقوقها بما لا يضر بالمارة فيها أو الداخلين والخارجين من مساكنهم أو المحال التجارية، فلا تجد فتحات الأبواب متقابلة, كما لا تعرقل مرور وسائل النقل وما شاكلها، وعلى هذا الأساس يبذل أصحاب المباني المطلة على ناصية الشوارع دوراً في توخي أية عراقيل من قبلهم، كبناء الزرائب والأحواش الإضافية والمخازن والتكك والمجالس المرتفعة وغيرها، وقد تعدى ذلك إلى مراعاة حرمة النظر لمن داخل البيوت، فكل هذا يتكامل مع تخطيط البناء ليشكلان أسساً للحياة في القرية والمدينة على حد سواء. وللأسف الشديد فإن جل هذه السلوكيات قد انقرضت وأصبحت من التاريخ في جميع مدننا وقرانا العربية تقريباً. كما أن القضايا التي تتعلق بمسألة ملكية الأرض والانتفاع بها تحكمها هي الأخرى قوانين وعادات مدروسة، فلا يحدث التعدي إلا نادراً وربما حدث نتيجة جهل يعقبه اعتذار وتنازل، ويخضع لمصالح مشتركة لا يمسها خدش ولا تجريح, وكانت العلاقة بين المالك والمستنفع علاقة تبادل مصالح ومنافع، ولهذا كانت الضوابط في حالات الإخلال بهذه العلاقة المنسجمة رادعاً لمن يحيد عنها، وكان السلوك النابع من القيم الدينية والأخلاقية بالإضافة إلى العادات والتقاليد هو المسير للناس والمجتمع بشكل عام في المقام الأول. لقد تحولت وتغيرت حدود العلاقات بين أفراد المجتمع، بين الأب وابنه، بين الأخ وأخيه، بين الجار وجاره، بين الطالب وأستاذه، وهكذا حتى أصبحت نتائج تلك العلاقات ظاهرة في المجتمع، إذ لم يعد الجار يراعي حقوق جاره، وهو الذي ظن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه سيورثه. كما امتلأت الطرقات بين المباني بما يعيق المارة ويشوه الطريق، فالبناء غير الشرعي يلحق بكل اتجاه في البيوت ويمتد وسط الطرقات، حتى وصلت العلاقات بين الجيران إلى المحاكم لأسباب تتعلق بالحقوق والآداب التي نشأ عليها المجتمع وتفسخت لأسباب كثيرة. وتجاوزت المخططات السكنية في بعض المناطق حدود الأمان حتى وصلت إلى مجاري السيول وسدت مساحات واسعة منها، وأضرت ردميات الطرق الحديثة بالكثير من القرى وعرقلت مسار السيول فأغرقتها ودمرت المباني وأهلكت البشر وغيرهم، كما انتهكت حقوق الملكية العامة للساحات العامة في بعض الأحياء السكنية دون استحياء أو تردد. بالإضافة الى ذلك فقد وزعت بعض أراضي أوقاف المساجد بأثمان بخسة لا تتناسب مع غيرها، وأصبح العائد لا يغطي حاجة المساجد، ولنا في التاريخ الإسلامي الكثير من العبر والدروس الرائعة والمشرفة في هذا الجانب. وتغيرت الأفكار بتغير مخرجات وأدوات التلقي والتعليم على المستويين الخاص والرسمي، كما تحولت أساليب التعامل في كل من البيت والشارع والمسجد وغيره، وانعكس كل هذا على المجتمع، وذابت الفوارق بين الأفراد كبيرهم وصغيرهم، ولم يعد الصغير يحترم الكبير، ولا الكبير يرشد الصغير، وهكذا تفكك المجتمع بإرادة وتخطيط مبرمج استسلمت له أطراف وشرائح إدارة المجتمع، وأصبح المستوى التعليمي في المدراس والجامعات أكثر ضعفاً وهشاشة رغم المظهر المغري والإمكانات المتاحة، وساعدت وسائل الإعلام بمختلف أنواعها ولا سيما التلفزيون المفتوح على إلهاء معظم الناس وتغيير مفاهيمهم وإثارة غرائزهم، وساهم الإنترنت مؤخراً مساهمة اكتسحت البقية الباقية من الشباب ليلقنهم الكثير من المفاسد في ظل غياب أساس التوعية المنزلية المحكومة بالقيم الدينية الصحيحة، وهكذا سيفقد المجتمع بالتدريج كل القيم التي حافظ عليها السلف، لأن التربية لم تواكب هذه الحداثة ولم تتهيأ له بشكل راق وواقعي، وكان يفترض أن تعمل الجهات العلمية والثقافية على إنزال برامج التوعية المبرمجة التي تسهم في الحفاظ على الموروث الثقافي بحيث لا يتنافي الوليد القادم ويصطدم بالموروث ويركله. |