1لستُ ناقماً على حذائي ألبتة، على النقيض، كم أشعر بالامتنان له.. وإن تعذّر عليَّ القيام بالكثير من الضروريات في سبيل الحفاظ عليه.. وإن اضطرني الأمر للإحجام عن الترحال مطلقاً في أوقات الشتاء، حتى ولو كانت شتاءات أحلامي.. وإن تجشمت كل مشقةٍ للبقاء في غرفتي.. فكل هذي أثمان بخسة في مقابل أن يبقى حذائي نظيفاً كما ينبغي، أو إن توخيت الدقة، أنظف مما ينبغي..
محبوبتي، طالما اختلفنا.. لكن منذ افتراقنا، قد اتفقنا –دون أن ندري- على أن نرتدي أحذيةً نظيفة.. ألا نسمح لأي شيءٍ بأن يؤدي إلى اتساخها.. أقفُ الآن في الغرفة، يبادهني مواءُ قطة.. كان المواء الواخز، يخترقني كسحابة من الأظفار المنغَّمة.. على الرغم من أنني متيقنٌ تمام اليقين أنه محض مواء، إلا أنه يترك بحلقي غصة مريرة له مذاق الصدإِ.. أنياب الشجن، التي ظننتها قد تساقطت لما اعترى روحي من شيخوخة، الآن عبر دفقات المواء المتقطعة تنهش لحاء عظامي، وتنفذ مجدداً إلى صميم وحدتي.. الظلام حالك، يطفح برائحة الذكريات.. تحت أنيار العماء أطاطئ رأسي، وعندما أرى –بعينيَّ المخيلة- حذائي نظيفاً كما عرفته دوماً، أبتسم..
أُعدُّ فنجان القهوة.. أراقب عودَ الثقاب والنار تلتهمه، أمسكه من الطرف المحترق لتأتي عليه النار بجُملته.. أضعُ برفقٍ جثته الفاحمة على طرف المنضدة.. أحدق فيه ملياً: كم هو هزيل، كم يشبه الأجنة في انحناءته المذعنة.. لابد وأن المواء هو مئاتٌ من الأعواد المتفحمة تتبخر في جوف القطة، وإلا لما كان المواء باكياً وبهذا القدر من الإيلام..
2أجلسُ على أرضية الغرفة، مستنداً على الحائط الذي يكتنف طعنته المزمنة: النافذة الوحيدة.. أحملقُ في خيوط العنكبوت المدلاة من السقف.. يدفعني مرآى الذبابة -العالقة في صمتٍ- إلى الاشمئزاز.. أضغط ظهري المتقلص إلى الحائط، فتباغتني صلابة لوحيَّ كتفي.. أتوهمهما جناحين مشحوذين لم يدنسهما دفء الريش.. بدلاً من أن أحلق عالياً إلى السماء، مستعضداً بقوتهما، سأطير موازياً للأرض، على ارتفاع قامة البالغ، مصوبهما كمنجلين أجُزُّ بحديهما الرءوس..
أنحني إلى الأمام؛ كي ألتقطَ فنجان القهوة الفاتر، فيختفي الجناحان.. أعي بشدة لساقيَّ المطويتين تحتي، فأخالني عنكبوتاً عالقاً بخيوطه، ينتظر موتاً لا طائل من ورائه.. عنكبوتاً ليس بمقدوره أن يصرخ: “كم أنا من مسكين”.. عنكبوتاً ازدرد كل الذباب المحنط –الذي لامسَ بشرتَكِ على غفلةٍ منكِ- دون أن يتحصل على شذرة من نسغِ نعومتكِ..
3كان أبونا يسرد علينا قصةً ذات يوم.. زهرةٌ لديها من الأشواك ما يُدمي الأيدي التي تمتد –خلسةً- لقطفها.. وما زاد الأمر سوءاً أن تلك الأشواك كانت ملوثةً بسُمٍّ يسري ناقعاً في الدماء، مُصيباً مَن تجرأ على المحاولة الغاشمة بالكوابيس.. أخبرنا أبونا أيضاً أن الكثيرين –بينهم ثُلة من الفرسان الصناديد- حاولوا قطفها دونما جدوى.. لم يحظوا سوى بالدمامل والكوابيس..
هكذا مكثت الزهرة متدرعة بأشواكها.. تنفث -من آنٍ إلى آخر- نفحاتٍ من كوابيسها الزُعاف.. إلى أن جاء طفلٌ انحنى عليها، وقطفها بمنتهى اليُسر..
لم أتمالك نفسي إزاء هذه النهاية، وبادرتُ أبانا صارخاً بنبرةٍ بلهاء: “كيف يعقل هذا؟”.. رمقني أبونا بنظرةٍ مُعنِّفة، ثم نظر إليكِ..
أختك لم يدهشها الأمر، فلتسألها هي..
جاء ردُّكِ مقتضباً..
لابد وأنه همس إليها بـ “شيء”..
عاودتُ التساؤل، وعينيَّ مُترعتان بمزيجٍ من الغضب من هذا “الشيء” والتوق إلى معرفته..
لابد وأنه استأنسها بالوعد.. لابد وأنه تعهد للزهرة بأن يهديها إلى فتاته، التي ستبتسم بدورها للهدية النادرة، وستغدو بسمتها ينبوعاً نفيساً تقتات عليه ملايين الأزهار..
محبوبتي، كيف لكِ بتلك الأجوبة.. كنتِ، من دون بقية الأطفال، تكتنزين من الإجابات الرقيقة الواثقة ما لا ينضب.. وكانت إجاباتكِ جميعها مُذيَّلة بتلك الابتسامة المؤنبة..
4محبوبتي، ليس للأيام ما تتسلط به عليكِ، لذا سيظلُ حذاؤكِ نظيفاً وصغيراً.. أما حذائي فليس بميسوره أن يظلَ هكذا.. سيزداد طولاً واتساعاً، لكنني قد آليتُ على نفسي، لو قيض لحذائي أن يمتد إلى نهايات العالم فلن أتغافل عن نظافته لحظة واحدة..
لو انبجس الدمُ من أنفي وفمي وأذنيَّ، لو تفجرت جميع مسام جذعي، سأركع على ركبتيَّ كيلا يتقاطر الدم على حذائي.. حينئذ لن أهلع لشيء، حيئنذ ستعلمين أن حذائي النظيف إن كان قد خانكِ مرةً فلن يخونكِ الأخرى..
5كثيراً ما يشرد ذهني، بينما أقارع الكلمات وأبقر بطون أحرفها؛ لعلني أتصيد ملامحَكِ عبرها.. كثيراً ما تسقط السجائر على ملابسي وتحرقها.. أتحسس بأناملي الثقوب المنتظمة التي يعجُّ بها بنطالي؛ فأتذكر يومَ كنتِ تقعين بجوار أمنا وهي تطرز.. كعادتي، تقافزتُ حولكما صاخباً، متحيناً الفرصة للتدخل فيما تفعلان.. أمسكتُ بالإبرة الملقاة، أخذتُ أعبث بها.. تساءلتُ في استعلاءٍ: “أمي لِمَ الإبرة غير حادة؟”.. وسرعان ما أردفتُ مجيباً سؤالي: “من المؤكد أنها ثَلِمة كيلا تؤذي أصابع مَن يستخدمها”.. لازمتُ الصمتَ، منتظراً عاصفة من تصفيق الاستحسان والثناء على حذق إجابتي.. وإذ بكِ تبتسمين بخبث..
- لِمَ تبتسمين؟..
أجبتِني –حينها- بقسوة رقراقة..
- إنها غير حادة، بالطبع، حتى لا تؤلم قطعة القماش..
وقبل أن أتمكن من إبداء استنكاري ، استطردتِ –برصانة- كأنكِ تتحدثين عن أشد الحقائق بداهةً ومنطقية..
- كيف لقطعة القماش أن تدعَّ العصافير التي نطرزها تغرد.. إن هي كانت متوجعة..
وددتُ حينها لو عانقتُكِ.. لكنني تحاشيت العناق، لأنني كنتُ خَجِلاً من عينيَّ الدامعتين، ولأن ذراعيَّ كانا قد تقزّما أمام حنانكِ الذي لم تمنعيه حتى عن الأقمشة الصماء..
6أرتشفُ ما تبقى من القهوة، أطبق عينيَّ ومن أنفاسي ينبعثُ أزيز سهامٍ تنهمل بغزارة.. أحبسُ أنفاسي فإذ بكِ ترقصين جذلى على وقع نبضاتي.. رقصتئذ، لم أكن أدري إن كنتَ أدنو منكِ أو أبتعد.. كل ما أستطيع الجزم به هو أن الذهابَ إليكِ رجوعٌ من جنازة الكون، والرجوعَ عنكِ هو الذهاب إلى حيث الفرح خوفٌ مؤجَل، إلى حيث الوجوه أقنعة مزدحمة بالتفاصيل المملة، إلى حيث التملص من الوَحشة يقتضي الخوضَ في طُرقٍ موحلة لا تحفظ على الأحذية ألقها..
7من الممكن اختصار بطولاتي –على تنوعها الهائل- في كلمة واحدة جامعة مانعة: “الرماية”.. كم كنتُ ماهراً فيها دونما منازع.. ففي أقل من يومين كنتُ قد أصبت -بدقة بالغة لا نظير لها- جبهةَ أحد أصدقائي، ونافذة أحد الجيران، وتوّجتُ انتصاراتي بقدم أمي..
وإزاء سلوكي الممعن في الانضباط، لم يكن عسيراً أن يتحول منزلنا إلى قِبلة يؤمها الجميع.. أما بطولاتي المتواترة فكانت من السخاء بحيث عقدت لسان أبي، وأصابته بحُبسة لطيفة أراحته لبعض الوقت من وعثاء الإشادة بكِ وتدليلكِ.. بينما أمي لم تتوانَ في إغداقكِ بالقُبلات، حتى وهي تضم قدمها المكلوم بكلتا يديها..
محبوبتي، لستُ أهذي.. إنني أُلقي عامداً بوجهي -الحافل بالندوب- إلى آتون من الضحك الأخرس؛ لعله ينسلخ كاشفاً عما تحته من وجهي العتيق: الوجه الذي لم يزل يحمل أثرَ شفتيكِ النديتين..
8ترقدُ الأرض ظمأى طوال العام، وفي فجر عيد “قاذف الحصى” تُمطر السماء مدراراً؛ فيتسنى للأرض أن تستعيدَ سمعها وبصرها وما تدخره من أقراطٍ خضراء مُرصعة بالعصافير..
جميع الأطفال يخرجون صباح العيد بملابسهم الجديدة إلى الشوارع المخضلة.. يذهبون مع ذويهم إلى مزار “قاذف الحصى”، ثم يجتمعون سوياً لممارسة كل الألعاب التي تفتقت عنها أذهانهم الماكرة، حتى يُغشى عليهم من الإعياء اللذيذ..
كنتُ وَلِهاً بذاك العيد.. بالنسبة لي، كان بمثابة أعجوبة الأعاجيب: أن يتمكن أحدهم من الحصول على لقب “قديس” من مجرد مزاولته لـ “قذف الحصى”.. لقد ظللت أقذف الحصى في كل الأنحاء –لأعوام عديدة- ولم أحصل إلا على حفنة لا بأس بها من نياشين الصفعات وكومة زاخرة من أوسمة الشتائم..
9كنتُ أتساءل عن قصة ذاك العيد، عندما دنا مني شيخٌ وطفق يسرد علىَّ القصة.. كان الرجل الهَرِم مغتبطاً لأنه ينتشل أحد الصبية من لُجة الجهل.. وكنتُ أشد منه اغتباطاً؛ لأن الصُداعَ الذي فلق رأسي علّمني أخيراً أن أضع حداً حاسماً لغلواء أسئلتي، وأن أراجع نفسي -ألف مرة ومرة- قبل أن أنبس بأية أداة استفهام، خصوصاً وهنالك وجهٌ متغضن على مرمى البصر..
لم يستغرق الأمر طويلاً، فقط ما لا يتجاوز الدهرين ونصف الدهر.. بعدها ودَّعني الشيخ بترفع متعجرف وكأنه قد أثقل عنقي للتوِّ بديون لا سبيل إلى ردِّها.. تحسستُ رأسي للتأكد من خلوها من الشدوخ، لاعناً كل الأسقام التي لم تتكفل بتخليص الأرض من بعض رواة القصص.. ثم لملمتُ شواظ قصة العيد، بعدما أقصيت عنها كماً لا يستهان به من الإطناب المترهل وطبقاتٍ من شحم الثرثرة الغليظ..
على مشارف مدينتنا، في طفولة الدهر حين كانت النجوم لا تزال تتلعثم في قصائد ضوئها، كان هناك شابٌ يرشق السماء بالحصى.. (هنا كان الشيخ قد عدّد لي كل أنواع الحصى الذي وُجدَ أو قد يُوجد على وجه البسيطة).. أهلُ المدينة هالهم رشق السماء بالحصى، أمسكوا بالشاب الزنديق وساقوه بالسياط.. (هنا كان الشيخ قد تطوع بإشناف مسامعي بكل ما ذُكر في كتب الأولين عن السياط، وصناعتها، وأشكالها، وسُبل العناية بها وترميمها، هذا بخلاف آرائه حول عقوبة الجلد وتكهناته حول مصيرها واقتراحاته المتباينة لتطويرها).. ساقوا الشاب بالسياط، ثم نحروا حلقومه؛ لتجاسره على السماء.. دفنوا الشاب عارياً خارج المدينة، فانقطع المطر.. غدت الأرض جدباء كوجه المجذوم تغص بالقروح.. وصارت الأشجار تتعرق قيحاً، له صريرٌ لاذع.. تيبست الأشداق، انصدعت العظام، وتفصعت الضروع.. (هنا أيضاً كان الشيخ قد انغمس في شرحٍ مطول حول الفعل “فصع” بعده أطلعني على كافة تصريفات الفعل ثم أعقبها بكافة مشتقاته من نعوت ومصادر وأحوال، بل ألمح إلى ما يمكن استحداثه منها).. كرَّت الأشهر.. مرَّ عام من العطش، فتبينوا وطأة جريمتهم وعاقبتها.. أعادوا دفن الشاب في قلب المدينة عقب تكفين رُفاته بالطيوب والثياب المنمنمة بالذهب.. ساجدين أمام قبره المقدس في ذلالةٍ، تضرعوا إلى روحه أن تترأف بهم وتعاود رشق السماء بالحصى.. في فجر اليوم التالي، المُوافق يومَ إعدامه، انهمرت الأمطار حتى تملّأت ندوب الأرض الغائرة.. هكذا ظلت المدينة تحتفل بذكرى استشهاده، عيداً للمطر..
10في ليلة العيد، تحلقنا حول المائدة.. ناولني أبي الحذاء الجديد، صامتاً مغموماً، لكأنه يهبني قبضة من الحصى.. (ربما كان علة هذا ما حدث في العام السابق، حين نفذ ما بحوزتي من حصىً فلم أتردد هنيهة في استعمال حذائي).. تناولتُ الحذاء منتشياً..
غادر أبي مقعده، متوجهاً إليكِ.. رفعكِ عن مقعدكِ، ثم أجلسكِ على ركبتيه.. لفَّ ذراعه اليسرى حولكِ، لثمكِ، ثم أهداكِ حذاءكِ الجديد.. اختطفتِ الحذاء، دنوتِ مني، قاربتِ الحذاء إلى وجهي..
أنظر.. كم هو جميلٌ حذائي.. أنيقٌ ونظيف ومملوءٌ بالفراشات الملونة..
أخذتُ أتفرس معك في الحذاء، مُثنياً على فراشاته البراقة.. ولأنني أتلذذُ بمشاكستكِ، أشَحتُ بوجهي متذمراً من أن حذاءكِ يجيء كل عام أفضل من حذائي.. وقبلما يمتقع وجهكِ، داعبتُ بيدي خاصرتكِ؛ لتنفجري بالضحك.. أتذكرُ يومها أنكِ قضيتِ أكثر من ساعتين تتأملين فراشات حذائكِ وتطلقين عليها أسماءً طريفة وسهلة حتى تتمكن الفراشات من حفظها..
غفوتِ تلك الليلة وأنتِ تحتضنين الحذاء الجديد.. من المؤكد أن أحلامَكِ كانت غاصة بالفراشات العَطِرة.. الفراشات عينها التي كنتُ أقذفها في أحلامي بالحصى..
استفقنا على نقراتِ المطر –اللحوح- على النافذة.. هرولتِ إلى غرفة أمنا؛ لتُلبسكِ الثوبَ الجديد، أما الحذاء فكان بالفعل في قدميكِ.. تململتُ في فراشي ضَجِراً؛ إذ كنتُ أراني عائداً إلى البيت في نهاية اليوم متسخاً بكاملي، مستسلماً لتقريع أبي.. لكن عندما شددتُ قبضتيَّ غيظاً، تذكرتُ ملمس الحصى ومسَّه الرَطِب، فنهضت على الفور ..
11بقاع الأرضِ، من حولنا، كانت ترزح منذ زمنٍ سحيق تحت نير الظمإِ.. فجاجها تزفر لُهباً والعطب ينخر أحشاءها.. بقاعٌ لم يعُد المطر يضمِّد شقوقها بشفاهه الناعمة المُشبَّعة ببراعم الشذا.. كل شيءٍ إن لم يروه سوى العطش، نبتت له أنياب.. لذا، فحتى نور الشمسِ في تلك البقاع أصبح كالبراغيث النَهِمة، ينهش كل ما ينقض عليه، حتى الظلال.. وكان ساكنو تلك البقاع، على كثرة حشودهم، لم يتوصلوا إلى ما يكفيهم من دم الأرض.. كانوا قد نقّبوا في جُل شرايينها، فلم يعثروا إلا على النزرِ من الآبار التي سرعان ما جفَّت وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة بَخوراً زَنِخاً في محاريب الزوال وبصاقاً من العقارب..
كانوا على وشك الهلاك، قبل أن يُحاطوا علماً –بل أملاً- بقديسنا “قاذف الحصى”.. الآن عرفوا أن الأنياب التي أنبتها الظمأ من حولهم، بمقدورها أن تنهش شيئاً آخر غير أرواحهم..
12كل هذا، لم أكن أعلم منه شيئاً، وأنا أخطو جواركِ، قابضاً بيدي على يدكِ الضئيلة.. كنتُ أغذ الخُطى تحرقاً إلى ما ينتظرني من لهوٍ وحصىً، بينما كنتِ تتهادين بتؤدة خشيةً على حذائكِ الجديد..
قليلة هي أعقاب السجائر المكدسة في المنفضة، إذ ما قورنت بعدد الرءوس التي أحاقت بنا ونحن نخطو في صباح العيد.. رءوسٌ لا تُحصى -يتصاعد منها الدخان- أحاقت بنا من علٍ.. استوقفتُكِ ولم أزل ممسكاً بيدكِ.. صمتٌ ثقيل، لا يقطعه حتى مواء القطط الواخز.. فجاة، أمطرونا بالسهام.. هرولنا جميعاً لنتوارى.. كان يتعين علينا أن نخوض في بركة من الماء العَكِر لننجى من السهام المتساقطة بغزارة.. خضتُ في البركة وقبعتُ وسط الزحام ألهث.. عندما رفعتُ رأسي رأيتُكِ على حافة البركة.. صرختُ فيكِ: “ألا أعبري”.. توسلتُ إليكِ.. عاودتُ الصراخ: “أعبري البركة اللعينة”.. لعنتُكِ، هددتُكِ بالضرب، بالقتل.. وأنتِ هناك لا تزالين واقفةً على الحافة، والسهام تنهال من حولكِ.. شرعتُ في البكاء، عاجزاً عن العودة إليكِ، مرتعباً من وابل السهام.. حينها رأيتُكِ تنظرين إلى حذائكِ الجديد المملوء بالفراشات.. ثم تنقلين عينيكِ الهادئتين إلى البركة العَكِرة.. وعندما تلاقت أعيننا، لم أرَ في عينيكِ سوى اعتذارٍ حنون..
عندما أصابَكِ السهمُ الأول، أطبقتُ عينيَّ.. وما تلاه من أسهم كان تأوهاً خافتاً.. تأوهٌ –كاليرقة- كان يتحوَّل خلف جفنيَّ المؤصدين إلى فراشةٍ مؤتلقة تزحف عليها شيخوخةُ الظلام.. فراشةٌ ترتعش، ثم تهوي وقد تقطعت الخيوط الملونة التي تهبها رقصتها..
13محبوبتي، ها هي فراشاتُ حذائكِ نظيفة ولامعة كما تركتِها، حتى أنها ما زالت تتذكر أسماءها الطريفة السهلة.. ها هو حذاؤكِ نظيفاً، لا يخشى شيئاً بعد الآن.. وها أنذا كففتُ عن قذف الحصى.. ها أنذا أرتدي حذائي النظيف.. ها أنذا أنحنى على كل زهرة تصادفني وأقطفها بمنتهى اليسر، دون أن تلدغني أشواكها، لأنني أخبرها عنكِ، لأنني أخبرها بأن مهمتى الآن لم تعُد البحث عما يُشبع جوعي، بل البحث عن الجوع الذي يستحق أن أشبعه بابتسامتكِ.. أحدق في المرآة، فلا أراني غير كفنٍ أبكم، فطرزيني، لا بإبرة أمنا الثَلِمة، بل بأدق الإبر وأحدها، اِملَئيني بالفراشات الملونة..
وحيدٌ، لا أحفل بشيءٍ، ولا أفعل شيئاً سوى الإنصاتِ لمواء القطط، ومراقبة أعواد الثقاب وهي تُحتضر.. محبوبتي، تعالي الآن؛ لم يعُد هناك بركٌ من الماء تخشينها.. لقد جفّفتُ الأرضَ من أجلكِ.. تعالي، ها هو حذائي نظيف كما يليق بموتي..