تهديد جديد من فيروسات الجدري
(*)ربما يكون الجدري قد اندثر، ولكن أبناء عمومته من الفيروسات - جدري القرود وجدري البقر - تتأهب للعودة
<.S شاه >
باختصار عندما تم استئصال الجدري قبل 35 عاما، توقف تطعيم الناس باللقاحات المضادة له. وقد فَقَدَ عامة الناس خلال تلك السنوات المناعةَ لفيروس الجدري، بل ولغيره من فيروسات الجدري التي كان لقاح الجدري يصدّها. وبدأت أعداد حالات جدري القرود وجدري البقر بالتزايد، لتزيد من احتمال صولة وباء عالمي جديد ينتشر بدلا من الجدري. |
منذ عشرة آلاف سنة، عندما ظهر الجدري لأول مرة، لم يكن بوسع الجنس البشري أن يفعل أكثر من الصلاة طلبا للعون. فقد بدأ الفيروس الذي تسبب في المرض لأول مرة (والذي عُرِف فيما بعد باسم فيروس الجدري)، بمهاجمة بطانة الأنف أو الحلق أولا، لينتشر في جميع أنحاء الجسم، ثم ليظهر الطفح الجلدي المميز، ثم يعقبه ظهور بثور مليئة بالفيروس تنتشر على الجلد. وعلى مدى التاريخ المكتوب، قتل «الوحش الأرقط»
(1) نحو ثلث البشر الذين أصابهم. فخلال القرن العشرين وحده، أفنى أكثر من 300 مليون من الرجال والنساء والأطفال.
ومع ذلك، وبحلول أواخر السبعينات، تم التخلص من هذا الوباء القاتل من على ظهر الأرض، وذلك بفضل حملات التلقيح الجماعي التي وفّرت الوقايةَ للملايين وتركت نُدَباً صغيرة على أذرعهم العلوية. ونظرا لعدم وجود مكان في الطبيعة يختبئ فيه الفيروس، لأن الإنسان هو المضيف الوحيد له، فقد أمكن قهر الجدري والتخلص منه نهائيا. واليوم يجري حفظ العيِّنات الفيروسية الوحيدة المعروفة فقط في اثنين من المختبرات الحكومية المتخصصة، واحد منهما في الولايات المتحدة الأمريكية والآخر في روسيا. وفي غياب أي حادث كارثي في المختبرين أو إطلاق متعمد أو إعادة الهندسة الجينية للفيروس، فإن الجدري لن ينشر الموت والبؤس مرة أخرى في أرجاء العالم.
في عام 1979، أعلنت منظمة الصحة العالمية، التي نظمت حملة استئصال الجدري، خلوّ العالم رسميا من الجدري وذلك بعد عامين من تسجيل آخر حالة فردية لدى أحد العاملين بالمستشفيات الصومالية. ومنذ ذلك الحين، لم يقم أي بلد بالتطعيم الروتيني لمواطنيه بلقاح الجدري، إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية بدأت بتلقيح بعض الأفراد الذين يعملون في المجال الصحي وأعضاء مختارين من قواتها المسلحة بعد الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها في 11 سبتمبر 2001. وهكذا، فإن جيلا كاملا قد بلغ سن الرشد من دون أن يتعرض لا للمرض ولا للقاح، الذي قد يسبب في بعض الأحيان آثارا جانبية خطيرة.
ومكمن المشكلة في أن لقاح الجدري لا يقتصر على توفير الوقاية من فيروس الجدري فقط، بل إن كل من كان قد تلقى لقاح الجدري قد طوّر لديه مناعة أيضا ضد العدوى بالفيروسات التي هي أبناء عمومة فيروس الجدري، بما في ذلك فيروسات جدري القرود
(2) وجدري البقر
(3). وبالنظر إلى الاتساع الواسع لنطاق الإصابة بالجدري في ذلك الوقت، فقد كان ينظر إلى فائدة الوقاية الثانوية هذه على أنها فائدة ضئيلة.
وباء قديم: عام 1915 سبَّب الجدري نُدَبا دامت مدى الحياة لدى هذا الطفل. |
ونظرا للتوقف عن إعطاء لقاح الجدري على نطاق واسع، يصبح السؤال: ألا تشكل هذه الفيروسات المسببة للأمراض الغامضة، والتي تشبه فيروس الجدري في انتسابها إلى جنس فيروسات الجدري القويمة، خطرا جديدا على البشر؟ فهناك أسباب تدعو إلى القلق. فعلى عكس فيروس الجدري، فإن فيروسَيْ جدري البقر وجدري القرود يكمنان طبيعيا في القوارض وغيرها من المخلوقات، ولذلك لا يمكن القضاء عليهما تماما. وقد ارتفع عدد حالات جدري القرود وجدري البقر لدى البشر بشكل مطرد في السنوات الأخيرة. وبدأ كل من الفيروسين بعدوى مخلوقات مختلفة خارج نطاق عوائلهما العادية، فزاد احتمال انتشارهما من خلال مسارات جديدة في جميع بلاد العالم.
لا أحد يعرف كيف سيتغير فيروسا جدري القرود وجدري البقر بمرور الوقت، ولكن علماء الفيروسات يساورهم القلق من أنهما إذا أصيبا بالطفرات التي تجعلهما ينتقلان بسهولة أكثر من شخص إلى آخر، فإنهما قد يدمران أجزاء كبيرة من العالم. وقد دفع هذا الاحتمال القاتم مجموعة صغيرة من علماء الفيروسات لمعرفة المزيد عن هذين الفيروسين أو عن أي أوبئة جدرية أخرى تتأهب للظهور، وذلك ليدقوا ناقوس الخطر إذا ما ظهرت عليها دلالات التفاقم إلى صور أكثر تهديدا.
شدة التحرُّس
(**) إن تاريخ فيروسات الجدري وما يرتبط بها من علم الأحياء يقدم بعض الأدلة حول ما يمكن توقعه من الفيروسات ذات القربى بفيروس الجدري في المستقبل. فتاريخيا، نشأ 60 في المئة من مسببات الأمراض التي تصيب البشر، بما في ذلك فيروسات الجدري، في أجسام الفقاريات الأخرى. فأقرب قريب حي لفيروس الجدري، وهو فيروس الجدري التاتري taterapox، قد تم استفراده من فصيلة اليرابيع البرية في إفريقيا عام 1968. والتحليلات الجزيئية تشير إلى احتمال أن يكون سلف فيروس الجدري في التطور قد بدأ بأنواع من القوارض الإفريقية، التي ربما تكون قد انقرضت الآن. وبالمثل، فإن فيروسَي جدري البقر وجدري القرود، على الرغم من اسميهما، يعيشان في فئران الحقل والسناجيب وغيرها من القوارض البرية.
عندما قفز سلف فيروس الجدري لأول مرة إلى البشر، ربما لم يكن شـــــديــد الســـرايـــة جــــدا، كمـــا يقــول <.M بولر >[عالم الأحياء الدقيقة من جامعة سانت لويس]. ومن ثم، انبثق عنه في إحدى مراحل تطوره، وفق ما يخمن<بولر > وغيره من الباحثين، ضربٌ مختلف كان أكثر قدرة بكثير على السراية. فالتغيرات الحرجة سمحت للفيروس بأن ينتشر عن طريق السعال والعطاس أو هواء الزفير الذي ينبعث من شخص مصاب. وفي الوقت نفسه بدأ البشر بالعيش في أماكن متقاربة أكثر بكثير مما كانوا عليه من قبل، مما زاد من احتمال سراية الفيروس من شخص إلى آخر زيادة كبيرة. وقد أعطى هذا المزيج من التغيير البيولوجي والتغيير البيئي للفيروس المستجد ما كان يحتاجه من أسباب ليصبح وباء عالميا.
إلا أن مجرد قدرة فيروس ما على السراية من شخص إلى آخر بسهولة لا تجعله مميتا بالضرورة. وفي الواقع، لا يزال العلماء غير قادرين على تفسير سبب الاختلاف الكبير في شدة الإصابة بفيروسات الجدري. ففي معظم الناس، لا تسبب فيروسات جدري البقر وجدري الجمال وجدري الراكون لديهم أكثر من طفح جلدي، يترافق مع بثور مليئة بالفيروس، ثم تشفى من تلقاء نفسها دون أذى. ومن ناحية أخرى، فإن العدوى بفيروس جدري القرود يمكن أن تكون قاتلة تماما في البشر. وحتى في ذلك، فليست جميع فيروسات جدري القرود متساوية في الخطورة. فأسوأ أنواعها الفرعية موجودة في حوض الكونغو، وهي تقتل نحو 10في المئة من الناس الذين يصابون بها. وفي المقابل, فإن هناك نسخة أخرى منها في غرب إفريقيا، يندر بشكل عام أن تؤدي الإصابة بها إلى الموت، مع أنه حدث بالفعل أن سببت سلالةُ غرب إفريقيا الوفاةَ، كما حدث في عام 2003 الذي سُجِّلت فيه أولى حالات الوفاة من العدوى بفيروس جدري القرود في نصف الكرة الغربي. فقد أدت هذه الفاشية
(4) the outbreak التي وقعت في ست ولايات بالولايات المتحدة إلى إدخال 19 شخصا إلى المستشفيات، بينهم طفل كان يعاني التهاب الدماغ وامرأة أصيبت بالعمى، مما استلزم عملية زرع القرنية. وقد تعَقَّب محققون مسار العدوى من القوارض المستوردة من غانا التي مررت الفيروس إلى كلاب البراري الأليفة، والتي نقلته بدورها إلى أصحابها من البشر. فمثل هذه الحيوانات الوسيطة تتيح للفيروس، الذي يعيش عادة في حيوانات لا تتصل بالبشر إلا قليلا، أن يصل إلى أعداد قد تكون كبيرة من الناس.
قد تساعد الاختلافات الجينية الدقيقة على تفسير التحول في خطورة الإصابة بعدوى الجدري. فعلى سبيل المثال، إن لدى بعض فيروسات الجدري جيناتٍ genes للبروتينات التي تتدخل في قدرة الجهاز المناعي على الاستجابة للعدوى بفعالية. وعندما قارن الباحثون الجينات من فيروسات جدري مختلفة، ركزوا على جين واحد عثروا عليه في أنواع عديدة مختلفة من فيروسات الجدري. وفي السلالات الأكثر فتكا من فيروسات الجدري، أثار هذا الجين إنتاج بروتين تشير الأدلة إلى أنه يمنع بعض الخلايا المناعية من تنسيق هجماتها المضادة بكفاءة ضد الفيروس. ولكن الجين المكافئ له في سلالات حوض الكونغو من فيروسات جدري القرود (والتي هي أقل فتكا من فيروس الجدري) يقدم الإرشادات الوراثية لبروتين أقصر بكثير. وعندما أمعن الباحثون النظر في نسخة غرب إفريقيا من فيروس جدري القرود الأكثر اعتدالا، لم يجدوا هذا الجين بتاتا، ولم يكن من الممكن بالتالي تصنيع البروتين المذكور سابقا. وهكذا، تشير الأدلة إلى أن البروتين في سلالات حوض الكونغو، وهو أقصر من مثيله في فيروسات جدري القرود، يجعل هذه الفيروسات - على نحو ما - أقل فتكا من مرض الجدري.
اتجاه مثير للقلق حالات جدري القرود تزداد بوتيرة أسرع مما كان متوقعا لها(***) إن اقتفاء إصابات البشر بالعدوى بفيروس جدري القرود أمر صعب: فالمرض يهاجم في الغالب المناطق النائية البعيدة عن المساعدة الطبية، وليس من السهل أيضا تأكيد وجود إصابات العدوى في الماضي. وعلى كل حال، فإن عدد الحالات قد ارتبط بالارتفاع بعد توقيف التطعيم الروتيني باللقاحات المضادة للجدري عام 1980، والذي كان يحمي الناس أيضا من الإصابة بجدري القرود. ولكن نتائج دراسات استقصائية متقطعة أجريت على مدى الـ40 سنة الماضية تشير إلى أن هجمات جدري القرود قد وقعت بتواتر أكثر على خلاف المتوقع. ويشتبه المحققون في أن الاضطرابات المدنية وإزالة الغابات دفعت بالمزيد من الناس إلى التعامل مع الحيوانات البرية أو أكل لحومها من دون أن يدركوا أنها كانت مصابة. وقد يكون للزيادة في الحالات عواقب بعيدة المدى لأنها توفر المزيد من الفرص للفيروس ليتكيف بسهولة أكبر مع البشر.
|
وتشير تكهنات الباحثين حول كيفية اكتساب الأنواع المختلفة من فيروسات الجدري لهذه الجينات ولغيرها، إلى السبب الذي جعل لفيروسات جدري القرود وأبناء عمومتها من الفيروسات تهديدا أكثر خطورة مما هي عليه الآن. إن الجينات غير الضرورية لاستنساخ فيروسات الجدري، تكوّن نسخا طبق الأصل من جينات فيروسية تم اكتسابها في مرحلة ما في مــاضيهـــا التطــــوري واستمدادهـــا من متعضيات organisms سبق أن أصيبت بالعدوى. ومن الغريب حتى الآن أن الفيروسات في السياق العادي لدورة العدوى، لا تؤثر البتة في المواد الجينية المخزونة في نوى خلايا العائل the host cells.
ويفترض أحد التفسيرات المحتملة، وهو تفسير شائع بين فيروسات الجدري، حدوث عدوى متزامنة بفيروسات الجدري والفيروسات القهقرية لدى الإنسان أو لدى غيره من الفقاريات. ويقول الباحثون إن مثل هذه العدوى المشتركة قد تكون شائعة إلى حدٍّ ما. ومن المعروف أن الفيروسات القهقرية تدمج جيناتها في دنا DNA العائل (يتكون نحو 8 في المئة من الجينوم genome البشري من الدنا الذي يعود مصدره إلى الفيروسات القهقرية). ومن الممكن أن يتيح النشاط البيولوجي الكيميائي غير العادي للفيروس القهقري داخل الخلية الفرصةَ لفيروسات الجدري للاستيلاء على جينات العائل.
مع اتساع فرص إصابة الناس بالعدوى، قد يتكيف فيروس جدري القرود بشكل أفضل مع البشر. وقد لا يتطلب الإنقاص الفعلي لسراية العامل المسبب للمرض أكثر من قضم عدد قليل من مواقع الخِلات (الصفات الجينية) الفيروسية الحالية. |
فإذا كان هذا صحيحا، فقد تكون هذه الفرضية بمثابة نذير شؤم. ففيروسات الجدري تكون مستقرة جينيا، ولا تصاب بالطفرات بسرعة. فإذا كان بإمكانها أن تسرق من العوائل الجيناتِ التي تجعلها أكثر ضراوة، فلن يمكننا التنبؤ بأي فيروسات جدري سيكون غير مؤذٍ نسبيا، ناهيك عن أيها سيكون فتاكا إذا أتيحت له الظروف الملائمة. فالتحوّل من تهديد خفيف إلى تهديد خطير يمكن أن يحدث بسرعة أكبر مما قد يتوقعه أي شخص من قبل.
«ابن العم الصغير»
لفيروس الجدري
(****) إن فيروس جدري القرود هو في الوقت الحاضر، الأكثر قدرة من بين أبناء عمومته من الفيروسات على الظهور على شكل تهديد عالمي. فعلماء الفيروسات يشيرون إليه على أنه «ابن العم الأصغر» للجدري، ويرجع ذلك جزئيا لكونه يسبب مرضا لا يمكن تفريقه سريريا عن الجدري. وقد ظهرت التقارير حوله لأول مرة في القرود التي تم أسرها عام 1957، وهو يعيش نمطيا، كما تشير الأدلة، في القوارض الإفريقية، وربما في السناجيب الإفريقية المخططة (سناجيب الحبل). وظهرت معظم الفاشيات حتى الآن في إفريقيا الوسطى، مع استثناءين مهمين في الولايات المتحدة عام 2003، وفي السودان عام 2006.
وكانت <.W .A ريموين > [وهي متخصصة في علم الوبائيات من جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس] موجودة في كينشاسا بجمهورية الكونغو الديمقراطية، في عام 2002، عندما سمعت لأول مرة عن إصابة السكان المحليين بجدري القرود. ولم تكن تعرف عدد المصابين، ولا كيف تعرضوا للفيروس، ولا تعرف مدى إمكانية انتشار الفيروس إلى الآخرين. ولكنها عرفت أن المرض يهدد الحياة وأرادت أن تعرف المزيد عنه.
ولم يكن يخفى على أحد من السكان المحليين في أدغال الكونغو النائية تميُّز<ريموين > بشعرها الأشقر وطلاء أظافرها البرتقالي. غير أنها قد درست سياسة البلاد عندما كانت طالبة جامعية ضمن تخصص التاريخ الإفريقي، كما أنها كانت تجيد اللغة الفرنسية والتي ما زال الناس يتكلمونها في المستعمرة البلجيكية السابقة، إضافة إلى لغة اللينگالا وغيرها من اللغات المحلية. لقد بدأت تسأل من حولها، وكما تقول: «لقد صادفت الأشخاص المناسبين، وسألتهم الأسئلة الصحيحة، وصار واضحا لي أنه من المحتمل أن تكون هناك حالات أكثر كثيرا مما يتم الإبلاغ عنها.»
ولكن كيف يمكن العثور على تلك الحالات؟ فلن يثير الدهشة، إذا أخذنا في الاعتبار ندرة مرافق الرعاية الصحية في المناطق الريفية بالكونغو، أن يسعى عدد قليل من الناس الذين كانوا مرضى إلى رؤية الأطباء. ولم يكن من السهل الاستفادة من اختبارات الدم لتعرّف الذين تعافوا من المرض، إذ لم يكن هناك أي وسيلة للقول إن أضداد فيروسات الجدري هي نتيجة للتطعيم ضد الجدري في وقت سابق، أو لعدوى بأحد فيروسات الجدري الأخرى. إن تقييم وقوع حالات جدري القرود يتطلب العثور على الناس المصابين به وهم في خضم العدوى الحادة بفيروس جدري القرود، فعندها سيكون من الممكن الكشف عن ذلك الفيروس نفسه في البثور الجلدية.
بدأت<ريموين > سعيها بإنشاء موقع للبحوث في عمق الغابات. ولم تكن هناك طرق مواصلات ولا إشارات هاتف خلوي ولا بث لاسلكي، فاستأجرت طائرات خاصة للدخول إلى الموقع وللخروج منه، وقضت أياما كثيرة سيرا على الأقدام وعلى متن القوارب النحيلة أو على دراجة نارية، وهي تتعقب حالات جدري القرود بين القرويين الناطقين بلغة اللينگالا في أعماق الكونغو.
مسارات عديدة للإصابة بالعدوى لماذا تكون مكافحة جدري القرود أصعب من مكافحة الجدري(*****) لقد أمكن استئصال الجدري من العالم، لأنه كان لا يتطلب أكثر من كسر سلسلة واحدة فقط للسراية (السهم الرمادي)، وهي السراية بين الناس. أما جدري القرود فيمكن أن ينتقل من شخص إلى آخر، وكذلك ضمن مجموعة تضم الناس، وبعض الرئيسات من غير البشر، والقوارض التي تعيش في الأشجار أو على الأرض. فالفيروس لديه الكثير من طرق الهروب، وبالتالي فمن غير المحتمل أن يتم استئصاله يوما ما.
|
وكانت النتائج مثيرة للقلق. فعند مقارنة<ريموين > للنتائج التي حصلت عليها ببيانات مقابلة جمعتها منظمة الصحـــة العـالمية في الفترة ما بين 1986-1981، وجدت زيادة قدرها 20 ضعفا في عدد الحالات البشرية من العدوى بفيروسات جدري القرود. إلا أنها مع ذلك تعتقد أن النتائج التي توصلت إليها، والتي نُشِرت في عام 2010، هي أقل من الواقع وأكدت «أنها مجرد ذروة جبل الجليد.» وعلى كل حال، لقد كان لدى منظمة الصحة العالمية قبل 30 عاما تمويل أكبر وأفضل بكثير للبحث عن جدري القرود. فمن دون أدنى شك، لقد فات على فريق<ريموين > تشخيص عدد من الحالات يفوق نسبيا ما فات على الجهد الأسبق والأكبر لمنظمة الصحة العالمية.
ازدياد حالات جدري القرود
(******) على الرغم من أن الزيادة الحادة في حالات جدري القرود كانت أكبر من توقعات أي شخص، فإن تلك الزيادة لم تكن أمرا غير متوقع. فعلى الرغم من كل شيء، فإن معظم سكان البلاد لم يتلقوا لقاحات ضد فيروسات الجدري (فقد أوقفت جمهورية الكونغو الديمقراطية التطعيم باللقاحات المضادة للجدري عام 1980).
وأشار المزيد من البحوث إلى أن شيئا آخر كان يتواصل حدوثه أيضا. فعالِم البيئة <.J لويد- سميث > [وهو أحد زملاء<ريموين > في جامعة كاليفورنيا] يستخدم نماذج حاسوبية لدراسة كيف انتقلت الأمراض من الحيوانات إلى البشر. فوفقا لتحليله لبيانات<ريموين >، فإن سحب لقاح الجدري وما يؤدي إليه من فقدان للمناعة تجاه فيروسات الجدري ذات الصلة لا يمكن أن يكون مسؤولا مسؤولية كاملة عن هذا الارتفاع الحاد في عدد الحالات. إذ يجب أن تكون هناك أيضا على الأقل زيادة مقدارها خمسة أضعاف في الأحداث «الفائضة»، كما يقول، وعندها ينتقل الفيروس من القوارض المصابة إلى البشر.
لماذا يعتبر احتمال قفز فيروسات جدري القرود إلى البشر على نحو أكثر تواترا مسألة تخمين. فلربما أدت العمليات المتواصلة لإخلاء الأرض تمهيدا لاستخدامها في الزراعة ولحرق الأخشاب إلى زيادة التماس أكثر من ذي قبل بين الناس وبين السناجيب والفئران وغيرها من القوارض المصابة بالعدوى. إضافة إلى ذلك، فلربما اضطر المزيد من السكان المحليين إلى أكل الحيوانات المصابة بالعدوى نتيجة للحرب الأهلية في الكونغو. ففي استطلاع أجري عام 2009، ونُشر في الشهر 2011/10، تَبَيَّن أن ثلث الناس في المناطق الريفية بالكونغو قد أكلوا القوارض التي عثروا عليها نافقة في الغابات، ولعل في ذلك ما يشير إليه وقوع 35 في المئة من حالات جدري القرود في مواسم الصيد والزراعة. (فمعظم الناس يصابون بالعدوى بجدري القرود نتيجة التماس الوثيق مع الحيوانات المصابة، كالتعامل معها أو أكلها.)
ويساور القلق<ريموين > وغيرها من العلماء الآخرين المتخصصين بالفيروسات من أن يؤدي التوسع في فرص إصابة الناس بالعدوى إلى تكيف فيروسات جدري القرود على نحو أفضل مع جسم الإنسان. ويدرس<بولر > الطرق التي تسبب بها فيروساتُ الجدري القويمة الأمراضَ لدى كل من البشر والحيوانات. ففيروس جدري القرود «استطاع بالفعل أن يقتل الناس»، كما يقول، ويمكنه أن ينتشر بين الأفراد أيضا، ولكــن ليس بالكفــــاءة نفسها. وقــــــد لا يتطلب الإنقاص الفعلي لسراية العامل المسبب للمرض أكثر من قضم عدد قليل من مواقع الخلات (الصفات الجينية) الفيروسية الحالية.
اتساع نطاق
الإصابة بجدري البقر
(*******) لقد تزايدت أعداد التقارير عن الناس والحيوانات المصابة بجدري البقر المنقول بالقوارض أيضا، وفي هذه المرة، في أوروبا.
وعدوى جدري البقر خفيفة لدى معظم الناس. فبعد دخول الفيروس إلى الخلايا وتعطيله للاستجابة المناعية الأولية للعائل، فإن وابلا من الأضداد المتصيدة للفيروس والتي يصنعها الجهاز المناعي للمصاب يمنع مسببات المرض من الانتشار إلى النسج في جميع أنحاء الجسم. إلا أن ذلك لا ينطبق على الذين لديهم ضعف في الجهاز المناعي، مثل المصابين بعدوى فيروس العوز المناعي البشري (HIV)، أو الذين يتلقون العلاج الكيميائي للسرطان، أو يتلقون العلاج الذي يمنع الجسم من رفض الأعضاء المزروعة فيه. «فهؤلاء قد يصابون بمرض شبيه بالجدري، وقد يموتون،» بحسب قول <.M بينيت > [من جامعة ليفرپول في إنكلترا]. فمنذ عام 1972، يقدر خبراء الصحة العامة، أن عدد المصابين بضعف المناعة في الولايات المتحدة، والذين هم الآن مستعدون للإصابة بمرض خطير بسبب العدوى بفيروس جدري البقر وبغيره من فيروسات الجدري قد ازداد بمقدار 100 ضعف.
ويدرس<بينيت > [وهو باثولوجي متخصص في الأمراض البيطرية] الجوانب المرتبطة بعلم البيئة وبتطور فيروس جدري البقر في الحياة البرية. ويقول إن فيروس جدري البقر يسكن في المملكة المتحدة في فئران الشواطئ وفئران الحقل وفئران الغابة من دون أن يسبب لها ضررا. وتلتقط القطط المنزلية الفيروس من القوارض التي تصطادها، لتُعَرِّض من يرعاها من الناس (وغالبا على نطاق ضيق) للعدوى بفيروس جدري البقر، وهي سلسلة من الأحداث تكون مسؤولة عن نصف مجموع حالات جدري البقر التي تصيب الإنسان في المملكة المتحدة.
وقد بدأ فيروس جدري البقر، بعد فيروس جدري القرود، بشن غزواته على مخلوقات بعيدة عن العوائل الطبيعية التي تستضيفه. فمع ازدياد أعداد فئران الشاطئ بفضل الشتاء المعتدل والظروف المناخية المواتية الأخرى، بدأت الجرذان بأداء دور الوسيط في نقل فيروسات جدري البقر، وهو دور يماثل الدور الذي أدته من قبل كلاب البراري في تفشي جدري القرود عام 2003 بأمريكا. «وقد ازدادت التقارير المرتبطة بالفئران، سواء ما يتعلق منها بحديقة الحيوانات أو بالحيوانات الأليفة،» كما تقول <.M رينولدز > [المتخصصة بعلم الوبائيات في المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها]. فهي تنبه إلى أن هذا التوجه: «قد يكون مقلقا تماما لأن الجرذان السوداء والجرذان البنية تتجول في جميع أرجاء العالم بكثافة.» فإذا ما قارنا بين ترسخ فيروس جدري البقر في الفئران وبين اقتصار ترسخه في فئران الحقل وفئران الغابة فقط، فسنجد أن الملايين من الناس يمكن أن يصابوا بسهولة عن طريق العض أو عن طريق ملامسة فضلات الفئران، على سبيل المثال.
وفي الواقع، فإن فيروسات الجدري القويمة تشتهر ببراعتها في استعمار أنواع جديدة. ففيروس لقاح الجدري، على سبيل المثال، والذي استخدم لإنتاج لقاحات الجدري الحديثة، ينتشر الآن بحرية تامة في الأبقار الحلوبة بالبرازيل، وكذلك في الجواميس بالهند. وهناك «طيف من فيروسات الجدري التي لم تُعزل أو تعرف خواصها بشكل كامل،» كما يشير<رينولدز > وإذا ما أعطيت الفرص المناسبة، فيمكن لهذه السلالات من فيروسات الجدري المعروفة بدرجة أقل من غيرها، أن توسع نطاقاتها لتشمل مناطق وأنواعا جديدة. ويضيف<بينيت >: «سيسبب بعض الفيروسات الأمراض لدى الناس، غير أنها لم تنجح حتى الآن في القفز من نوع إلى آخر.»
مُسَلَّحون ويَقِظَون
(********) ومع تزايد حشود الناس الذين لم يسبق لهم أن تلقوا التطعيم بلقاح الجدري، يتوقع المتخصصون بعلم فيروسات الجدري أن وقوع حالات بشرية من جدري القرود وجدري البقر وفيروسات الجدري الأخرى سيستمر في الارتفاع.
فإذا ما أصبح أي من فيروسات الجدري ماهرا في إنزال الكوارث بالبشر، فإننا سنحتاج إلى الأدوية واللقاحات الجديدة (والموارد اللازمة لاستخدامها) لاحتواء هذا التهديد. وبسبب مخاوف الإطلاق المتعمد لفيروسات الجدري التي تلت الحادي عشر من سبتمبر، فإنه يجري تطوير مجموعة كبيرة من اللقاحات والعقاقير الجديدة لمكافحة الجدري. ومن المرجح أن هذه الأدوية سوف توفر الحماية ضد فيروسات الجدري المستجدة بشكل طبيعي أيضا. ولكن إنتاجها وتوزيعها، وكذلك الحماية من آثارها الجانبية التي لا مفر منها، سيكون مهمة معقدة ومكلفة. لقد صممت لقاحات الجدري الجديدة، مثل Imvamune, في شركة Bavarian-Nordic’s، بحيث تُعطى بأمان حتى لمن لديهم ضعف في المناعة، ولكنها يجب أن تعطى بجرعات أكبر وأن توزع في جرعتين بدلا من جرعة واحدة، مما يجعلها أكثر تكلفة من لقاحات الجدري التقليدية. وهناك دواء جديد صنعته شركة Siga Technologies ويعرف باسم ST 246، يمنع انتقال فيروسات الجدري القويمة من خلية إلى أخرى في العائل. وعلى الرغم من عدم موافقة إدارة الغذاء والدواء الأمريكية
(FDA)
(5) على هذا الدواء حتى الآن، فإن الحكومة الفدرالية قد اشترت بالفعل كمية كبيرة من الدواء ST 246 وأضافته إلى المخزون الدفاعي البيولوجي الوطني.
وفي بعض الأماكن التي يكون فيها التمويل الصحي لأحدث أصناف اللقاحات والأدوية محدودا، مثل المناطق الريفية لحوض نهر الكونغو، فإن أفضل أمل في الوقت الراهن هو تعزيز الترصد، إلى جانب برامج تثقيف المجتمع. وعلى سبيل المثال، فإن برنامج التعليم الخاص بجدري القرود الذي تديره مراكز مكافحة الأمراض، بالتعاون مع مسؤولي الصحة المحليين والمنظمات غير الحكومية التطوعية في جمهورية الكونغو الديمقراطية، قد تمكَّن من زيادة نسبة السكان المحليين القادرين على تعرف حالات جدري القرود من 23 إلى 61 في المئة. كما يتواصل الترصد الصارم لجدري القرود الذي تقوم به<ريموين >، مع دراسات جديدة تهدف إلى تعرف تسلسل الجينات في ضروب الفيروسات التي تصيب الحيوانات والبشر بالعدوى اليوم لمعرفة الكيفية التي قد يتبدل الفيروس وفقها. والكشف الأفضل للحالات يعني زيادة فرص رعاية وعزل المصابين بالعدوى، وتضاؤل فرص الفيروس في الطفرة إلى أشكال جديدة تنتشر بفعالية أكبر بين الناس.
والحرب القديمة بين فيروسات الجدري والبشر، ربما لم تأذن بالانتهاء بعدُ عندما انتهت عدوى الجدري عام 1977 لدى عامل يبلغ من العمر 21 عاما في أحد المستشفيات الصومالية. ولأن العلماء مزودون بأدوات جديدة وبترصد أفضل، فإنهم الآن أفضل تسليحا وأكثر يقظة من أي وقت مضى. ولكن منع أي فيروس آخر من فيروسات الجدري من مهاجمة البشر، يتطلب من المجتمع الحفاظَ على تلك الدفاعات لبعض الوقت في المستقبل.
المؤلفة | Sonia Shah |
<شاه > صحفية علمية ومؤلفة لكتاب: «الحمى: وكيف حكمت الملاريا الجنس البشري خمسين ألف سنة،» وهي تؤلف حاليا كتابا جديدا حول الأمراض المستجدة. | |
مراجع للاستزادة